كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
مجيب الرحمن: اللغة العربية هويتنا وإن كنا عجمًا
يكتسب هذا الحوار أهميته من أهمية المُتحاوَر معه، ومكانته في الثقافة العربية/ الإسلامية في الهند اليوم، وكذلك من نشاطه في مضمار خدمة اللغة العربية وتراثها في الهند وعموم شبه القارة الهندية. إنه البروفيسور مجيب الرحمن، الرئيس السابق لـ«مركز الدراسات العربية والإفريقية» في جامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي، وأستاذ الأدب واللغة العربية في الجامعة نفسها حاليًّا. والرجل صاحب مؤلفات وترجمات وأبحاث كثيرة تدور في فضاء لغة الضاد وتعزيزها في بلاده، وفي عموم أرجاء الوطن العربي. ولقد أنجز في السنوات الماضية ترجمات مهمة لبعض روائع الأدب الهندي باللغتين الأردو والهندية إلى العربية، منها رواية «نهر النار» لكاتبتها قرة العين حيدر، ورواية «الوشاح المدنس» للكاتب الشهير فانيشوار ناث رينو. كما نقل كتبًا فكرية ونقدية عدة منها: «مواطن الحداثة» لديبيش شاركرابورتي، و«فكرة الهند» لسونيل خيلناني«، و«السير في الطريق السريع» لرام بوكساني… إلخ.
ويعمل حاليًّا على ترجمة بعض الروايات العربية إلى اللغة الأردية، منها رواية «ديوان الإسبرطي» للجزائري عبدالوهاب عيساوي، ورواية «حانة الست» للمصري محمد بركة، ورواية «رقصة الجديلة والنهر» للمصرية وفاء عبدالرازق… في هذا الحوار معه، تحدث البروفيسور مجيب الرحمن عن أزمة تعلم اللغة العربية وتعليمها في الهند، وعن تقصير أهلها في الوطن العربي، وداخل الهند، وبخاصة أن العربية «كانت في أوائل القرون الوسطى لغة الكلام والكتابة لجميع المسلمين المثقفين على اختلاف قومياتهم، من الهند إلى المحيط الأطلسي»، بحسب المستشرق الإنجليزي الكبير رينولد نيكلسون (1868 – 1945م).
كما تحدث البروفيسور مجيب الرحمن عن أن هناك أكثر من 55 ألف مخطوطة عربية في الهند لم تُحقق وتنشر حتى الآن، وهذا شأن علمي وحضاري عربي وهندي وإنساني غير مقبول أن يظل هكذا محجوبًا عنه أو طي الإهمال والنسيان.
إلى نص الحوار:
● لنتحدث عن أحوال اللغة العربية في الهند اليوم، خصوصًا جهة دوافع الإقبال على تعلمها من الأجيال الهندية الجديدة؟ وإلى أي حد تخطى تعلمها تقاليد اندراجه في إطار التعليم الديني الإسلامي أو بدفع منه، ليصير على خط تعلم اللغات الأجنبية الأساسية لذاتها في البلاد؟
■ لا يزال الإقبال على تعلم العربية في الهند مرتبطًا بالتراث الثقافي الغني لهذه اللغة في البلاد من جهة، وبدفعٍ من الاعتبارات الدينية الإسلامية الراسخة من جهة أخرى. فالهند تزخر بعدد هائل من مؤسسات التعليم الديني التي يُطلق عليها اسم «المدارس»؛ وقد تجاوز عددها الثلاثين ألف مدرسة، اختار بعضها لنفسه اسم «الجامعة»، على غرار «جامعة دار العلوم بديوبند»، وهي أكبر مؤسسة للتعليم الديني في الهند؛ إذ تحتضن أكثر من خمسة آلاف طالب، و«الجامعة السلفية في بنارس»، و«جامعة الفلاح» في مدينة «أعظم جراه»، وغيرها. وتهتم جميعها بتعليم لغة الضاد لأبناء المسلمين الهنود، ذكورًا وإناثًا، وذلك على الرغم من افتقارها إلى المناهج الحديثة الخاصة بتعليم اللغات. جاء في تقرير «لجنة ساشار» التي عينتها الحكومة الهندية لدراسة أوضاع المسلمين عمومًا في البلاد، والصادر في عام 2006م، أن 4% من أبناء المسلمين، والبالغ عددهم في الهند نحو 200 مليون نسمة، يتلقون العلم في المدارس الدينية، ويتخرجون فيها بشهادات عليا معترف بها أكاديميًّا ورسميًّا، مثل شهادة «العالمية» وشهادة «الفضيلة»، وبعد التخرج يشتغل الطلبة، إما معلمين في الكتاتيب والمدارس، أو أئمة في المساجد، وبعضهم الآخر ينتقل إلى دول الخليج العربي للعمل في التجارة أو في وظائف شتى متاحة.
وثمة خريجون من المدارس الدينية إياها، يتجهون إلى الجامعات الحكومية الهندية للتخصص في اللغة العربية والأدب العربي، وكذلك في الترجمة من العربية إلى الإنجليزية.. وبالعكس، ويحصلون فيها على شهادات تتدرج من البكالوريوس إلى الماجستير فالدكتوراه. ويقدر عدد الجامعات الحكومية التي توفر تعليمًا منتظمًا ومستديمًا للغة العربية في الهند، نحو أربعين جامعة. وباستثناء جامعة جواهر لال نهرو في نيو دلهي، التي تحتضن قسمًا كبيرًا للغة العربية فيها تحت اسم «مركز الدراسات العربية والإفريقية»، ليس ثمة جامعات هندية أخرى يسير تعليم لغة الضاد فيها وفق خط موازٍ لتعليم لغات أجنبية عدة كالفرنسية والألمانية والصينية والروسية واليابانية والإسبانية وغيرها.
من جهة أخرى، توفر بعض الجامعات في الهند دورات مسائية قصيرة للمهنيين الراغبين في تعلم العربية، وذلك لأغراض العمل المتصلة بالمهن التي اختاروها، تمامًا كما نجد في قسم اللغة العربية في «الجامعة الملية الإسلامية».. وهي في المناسبة جامعة عريقة تأسست قبل استقلال الهند في عام 1920م، وشاركت في تأسيسها شخصيات فكرية وسياسية هندية كبيرة من طراز: أبو الكلام آزاد وذاكر حسين ومحمد علي جوهر وغيرهم.
باختصار، لا يسير تعليم اللغة العربية في الجامعات الحكومية الهندية وفق الخط السائد لتعليم اللغات الأجنبية الأخرى في البلاد.
عوائق تعليم اللغة العربية
● ما الذي يحول دون تعزيز وتطوير أساليب تعليم لغة الضاد في الهند اليوم؟ وعلى من تقع المسؤولية الجوهرية في ذلك، سواء داخل الهند نفسها أم خارجها؟
■ ثمة عوامل عدة، داخلية وخارجية، تحول دون تعزيز وتطوير أساليب تعليم اللغة العربية في الهند، أهمها أن مناهج التعليم في معظم المدارس الدينية قد عفا عليها الزمن، ولم تخضع بالتالي للتعديلات اللازمة التي من شأنها أن تتواءم وتطورات بيداغوجيا التعليم الحديثة؛ فاللغة بوصفها وسيلة تعبير وتواصل مع الآخرين، يجب تعلمها وتعليمها لتفي بهذا الغرض وتؤهل حاملها ليكون مرنًا، ومواكبًا لتحولات الزمن والاجتماع ومتغيرات العلم والثقافة، من دون المس طبعًا بالهوية الدينية ورسالتها ومعانيها. وهذا ما تفتقده مدارسنا الدينية (ما خلا استثناءات قليلة منها) التي تنظر إلى لغة الضاد بوصفها حاضنة للعلوم الإسلامية فقط، بمعزل عن اعتمادها لغة تعبير وتواصل مع الآخر، نطقًا وكتابةً. ثم إن أغلبية مؤسسات التعليم الديني في الهند تفتقر إلى الوسائل العلمية والتقنية المساعدة لعملية التعليم المتحركة ذاتها. وعليه يجب تزويدها بالمساعدات المادية المطلوبة لتحل مشكلاتها على هذا الصعيد.
أما الجامعات والمعاهد الحكومية، فيتمثل ضعف تعليم العربية فيها بوجوه عدة، من أهمها أن مدرسي اللغة العربية خاصتها، لا يحصلون على فرص التدريب أو التأهيل المهني كالتي هي في معاهد تعليم العربية لغير الناطقين بها، فتبقى مهاراتهم اللغوية ضعيفة ومتراجعة. ثم إن الأغلبية الساحقة من أساتذة اللغة العربية الهنود، لم يسبق لهم، مع الأسف، أن زاروا بلدًا عربيًّا واحدًا في حياتهم، عكس المعلمين الهنود للغات الأجنبية كالفرنسية والألمانية والصينية… إلخ، الذين يحصلون على دعوات دورية من البلدان الأجنبية التي يدرسون لغاتها في بلادهم، فيقضون هناك أوقاتًا معينة يزورون خلالها الجامعات والمدارس، ويقفون على أحوال التعليم المتطور فيهما. كما ينخرطون بين الناس في الأسواق العامة والمطاعم والمقاهي والمتاجر وخلاف ذلك، فيتحدثون إليهم بلغاتهم، ويعيشون تقاليدهم وثقافاتهم على أرض الواقع، فيكتسبون بذلك معارف جديدة تؤهلهم لتطوير مهاراتهم، وإغناء فنيات التدريس لديهم، بحيث ينعكس ذلك إيجابًا على الطلاب ومجمل العملية التربوية، بهذه الكيفية أو تلك.
والأمر المؤسف الذي يجب التنبيه إليه، وبالتالي السعي لسد ثغرته، يتعلق بمعضلة المنح الدراسية، التي هي غائبة بالكامل عن الذين يدرسون لغة الضاد في الجامعات والمعاهد الهندية، والتقصير هنا يشمل مسؤولية الجهات المعنية بالشأن التربوي داخل الهند نفسها، وخارجها أيضًا، وبالتحديد في الدول العربية الغنية والقادرة. يُضاف إلى ذلك، قلة الاهتمام بإبرام اتفاقيات تعاون ثقافي بين الجامعات الهندية من جهة، ونظيراتها العربية من جهة أخرى. حتى لو حدث أن جرى اتفاق ما بين طرفين أكاديميين معنيين هنا، فإن التقاعس عن التنفيذ يكون سيد الموقف من الجانبين. وفي كثير من الأحيان -وأنا هنا أتكلم على الجانب الهندي- يكون ضعف المستوى اللغوي العربي لدى الطالب الهندي، ليس عائدًا إليه، بقدر ما هو عائد إلى رداءة مستوى التعليم المدرسي والجامعي الذي يتلقاه في بلده. وهذه حقيقة قائمة في معظم الجامعات التي تقع في الولايات الهندية النائية، باستثناء ولاية كيرالا التي تتمتع بروابط ممتازة مع دول الخليج العربي، وتفتخر بما لديها من جسور ثقافة عربية تاريخية وعريقة.
مهما يكن من أمر، وعلى الرغم من التحديات الجسام التي يواجهها واقع تعليم اللغة العربية في الهند، فإنه يمكننا القول بفخر، ودونما أي ارتباك: إن مستوى تعليم اللغة العربية في الهند، لا يزال أرفع من غيره في بلدان إسلامية عديدة تقع في جنوب شرق آسيا، وشرق آسيا، مثل: باكستان وبنغلاديش وإندونيسيا. ولعمري إن مرد ذلك عائد إلى تلكم التقاليد الأصيلة والمتناوبة في تعليم اللغة العربية في الهند (على الرغم من نقدنا لها) التي ما زالت المدارس الدينية الإسلامية تحافظ عليها، وتضحي في سبيلها بكل ما أوتيت من طاقات. هكذا فهي هنا بمنزلة حصن حصين للثقافة العربية والإسلامية في الهند.
المجمع العلمي العربي- الهندي
● ماذا عن الجمعيات والهيئات التي تضطلع بأحوال اللغة العربية في الهند، وخصوصًا المجامع اللغوية منها، كالمجمع العلمي العربي- الهندي الذي أسسه مختار الدين أحمد، رئيس قسم اللغة العربية في جامعة عليكره في عام 1976م. هل تقوم هذه المجامع بأدوارها العلمية كما ينبغي؟ أم إنها نهضت نتيجة لطفرة حماسية معينة ثم تراجعت ظاهرتها وخبت؟
■ للأسف الشديد فإن المجمع العربي- الهندي الذي كان معقدًا للآمال في بداية عهده، لم يستطع أن يواصل مسيرته على الدرب الذي أراده له مؤسسه، بل إن قسم اللغة العربية في جامعة عليكرة الإسلامية العريق، الذي كان يضم كوكبة من كبار علماء اللغة العربية في الهند سابقًا، مثل العلامة عبدالعزيز الميمني ومختار الدين آرزو وغيرهما، قد بات باهتًا وأثرًا من الماضي. نعم، لقد تراجعت فعالية المجمع حتى درجة الصفر، لكن كلنا أمل الآن، من أن زميلنا الفاضل البروفيسور محمد ثناء الله الندوي سيعمل على تنشيط المجمع من جديد، ويعيده إلى مجده السابق، خصوصًا بعدما تولى ريادة الأمور فيه مؤخرًا، فللرجل روابط وعلاقات واسعة مع المثقفين في العالم العربي، وهو حيوي ونشط جدًّا.. يكفي أنه يوصف، وعن جدارة، بأنه علامة الهند الشاب في العصر الحاضر.
من جانب آخر، تراجع أيضًا دور المؤسسات الأخرى المعنية بتعزيز الثقافة العربية في الهند، سواء على صعيد التأليف أم الترجمة أم التحقيق، مثل مؤسسة دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد (1882م) التي قدمت إسهامات بارزة في تحقيق التراث ونشره، وهذا التراجع يعود إلى التدهور الشامل في وضع المسلمين في الهند، وتقلص الدعم المالي لمؤسساتهم. إذن، الجمعيات والهيئات التي اضطلعت في الماضي بأحوال اللغة العربية، تراجعت أنشطتها اليوم وخبت بسبب الترهل الذي أصاب جسد الأمة الإسلامية في عموم بلاد الهند.
اللغات واشتراطات سوق العمل
● من الذي يناصب اللغة العربية العداء في الهند؟ وما الهدف من سياساته المناوئة تلك على المديين القريب والبعيد؟ وهل للعربية من يحميها في ذلك البلد الكبير والمهم في آسيا؟
■ ليس ثمة من يناصب اللغة العربية العداء في الهند، فالحكومة تقدم دعمها للغة الضاد، كما تقدمه للغات الأجنبية المركزية الأخرى. إننا نعيش الآن عصرًا يتوقف فيه تقدم كل شيء أو تأخره على مدى أفضليته في سوق العمل. ولذلك فليست اللغة كنظام معرفي متكامل، هي وحدها التي تمر بوضع صعب، وإنما معها كذلك الدراسات الإنسانية والاجتماعية واللغوية والأدبية التي قد لا تكون لها صلة مباشرة بسوق العمل؛ فهي أيضًا تواجه أزمة وجودية بفعل ضغوطات واشتراطات الرأسمالية الجديدة، وتخلي الدولة بالتدريج عن مسؤولياتها وواجباتها، وترك قطاع التعليم تحت رحمة الرأسمال الجديد. وهذا ما يحدث فعليًّا، حتى في الدول الأوربية، ومنها إنجلترا مثلًا.
إذًا، يتعين على القائمين على تعليم العربية في الهند من أساتذة وخبراء تربية أن يبذلوا جهودًا أكبر مما سبق، خصوصًا جهة الاعتماد على المناهج المعاصرة والتقنيات الحديثة أو المستجدة في تعليم اللغة العربية. هناك عشاق بالملايين للغة الضاد في الهند. وأنا قلت مرة في ندوة أقيمت العام الماضي احتفاءً باليوم العالمي للغة العربية: «العربية تجري في دمائنا وعروقنا، حبنا لها أصيل وضارب في جذور ثقافتنا العريقة. العربية هويتنا وإن كنا عجمًا، ونحن من سيحمي العربية ويصونها ويرفع من شأنها على الدوام في بلادنا».
● قمتم بتأليف كتيب خاص بتعليم اللغة العربية للمبتدئين، وذلك بالتعاون مع جامعة أنديرا غاندي المفتوحة في نيودلهي.. كيف تقيم تجربة مثل هذا الكتيب واستلهامه على أرض واقع التعليم في الهند، وهل أتت هذه التجربة أُكُلها يا ترى، وبخاصة أنها دخلت دائرة تعليم العربية عن بعد؟
■ كانت هذه تجربة رائعة وفريدة فعلًا. لقد قطع القسم العربي في جامعة أنديرا غاندي المفتوحة شوطًا لا بأس به في تعليم العربية عن بعد، وحققت «دورة الدبلوم في العربية عن بعد» نجاحًا كبيرًا، وهو الأمر الذي جعل الجامعة تطلق مؤخرًا «دورة الماجستير عن بعد». وتفيد المعلومات أن أكثر من ألف طالب سجلوا في هذه الدورة، وقد يرتفع العدد إلى أضعافه لاحقًا. ويشرف على القسم العربي في جامعة أنديرا غاندي الدكتور محمد سليم، وهو أكاديمي شاب نابه جدًّا ومتحمس جدًّا، وإليه يعود الفضل في تنشيط هذا القسم العربي في الجامعة المذكورة وتعميم نفعه.
55 ألف مخطوطة عربية
● تحدثتم أكثر من مرة عن أن هناك تراثًا علميًّا وثقافيًّا عربيًّا في الهند غير مُظهرٍ حتى الآن. أشرتم مثلًا إلى أنه لا تزال هناك نحو خمسين ألف مخطوطة عربية تنتظر التحقيق العلمي فيها، ثم نشرها. حدثْنا عن هذا الأمر؟ وهل أنتم متفائلون بأن هذا الكنز المعرفي سيعرف طريقه إلى النور قريبًا خدمة للثقافتين الهندية والعربية على السواء؟
■ نعم، ثمة كنز ثقافي وعلمي عربي غير مُظهر حتى الآن، ونقصد هنا تلكم المخطوطات العربية المنتشرة في مختلف المكتبات والمتاحف الهندية، ويقدر عددها بنحو خمسة وخمسين ألف مخطوطة عربية، مثل مكتبة دائرة المعارف العثمانية في حيدرآباد، التي حقّقت ونشرت عددًا كبيرًا من المخطوطات المهمة. والمكتبة السعيدية في حيدرآباد أيضًا، وتحتوي بدورها على مجموعة مخطوطات نادرة يعود تاريخ بعضها إلى القرن الأول الهجري، وعلى رأسها مخطوط «تاريخ دمشق» لابن عساكر، و«التبيان لتفسير القرآن» لأبي جعفر الطوسي، و«تحفة الغريب» للدماميني.
ومن جهته، يحتوي «متحف سالار جونغ» في حيدر آباد على بعض أنفَسِ المخطوطات العربية (2620 مخطوطة)، وكذلك مكتبة «خدا بخش» الشرقية العامة في مدينة بتنه (أقل بقليل من 9000 مخطوطة عربية) ومكتبات جامعات دلهي، وتتصدرها مكتبة الجامعة الملية الإسلامية، ومكتبة جامعة «همدرد»، ومكتبة «مولانا أزاد» في جامعة عليكرة الإسلامية، ومكتبة دار العلوم في ديوبند، ومكتبة «دار العلوم» لندوة العلماء في لكهنؤ، ومكتبة «الجمعية الآسيوية في كلكتا» التي أسسها الإنجليز. والحقيقة أن الجزء الأكبر من هذه المخطوطات العربية ما زال ينتظر الفهرسة والتحقيق العلمي، ثم النشر. وعليه، فإن الواجب العلمي والديني يملي على العرب والمسلمين الاهتمام بهذه الثروة المعرفية القيمة، كيف لا وهي نتاج عقول آبائنا وأجدادنا عندما كانوا يمتلكون زمام أمور العلم والحضارة؟
العلاقات الثقافية الهندية العربية
● ثمة كتب مهمة وتاريخية اضطلع بها مؤلفون هنود مرموقون، تناولوا خلالها علاقات الهند ببلاد العرب، مثل كتاب «العلاقات العربية- الهندية» للعالم سيد سليمان الندوي، وكتاب «الصلات ببن الهند والبلاد العربية» لمحمد إسماعيل الندوي، وكتاب «الأصول الهندية للتراث العربي- الإسلامي العلمي والأدبي» للبروفيسور عبدالعلي.. وغيرها من كتب ثقافية وحضارية مماثلة.. كيف تقيم شخصيًّا مثل هذه الكتب؟ وأي صدى لها كان داخل بلاد الهند نفسها وعلى المستوى العربي؟
■ نعم، تُعد هذه الكتب التي ذكرتها من المراجع الأولى والمهمة جدًّا لدراسة العلاقات التاريخية والحضارية بين الهند والعالم العربي. وثمة دراسات أخرى مـتخصصة ظهرت في بعض الجامعات الهندية، كجامعة جواهر لال نهرو، والجامعة الملية الإسلامية، مركّزة، هذه المرة، على دراسة العلاقات الاقتصادية والتجارية والإستراتيجية بين الجانبين، نظرًا لعمقها التبادلي بينهما وتراكم هذا العمق بحكم الدوافع الاقتصادية نفسها، وكون منطقة الخليج العربي تحتضن أكثر من ثمانية ملايين هندي يعملون هناك؛ وبحكم أيضًا أن المنطقة تشكل مصدرًا أساسيًّا للنفط والطاقة بالنسبة إلى الهند. وقد سعى كل من الجانبين، وتبعًا لذلك، إلى رفع مستوى العلاقات بينهما إلى درجة الشراكة الإستراتيجية، تمامًا كما هو حاصل الآن بين الإمارات والسعودية من جهة، والهند من جهة أخرى مقابلة.
● وماذا عن الكتب أو المؤلفات الهندية الجديدة ذات الصلة بالعالم العربي اليوم؟ هل هي موجودة أصلًا أم انتفت ظاهرتها إلى غير ما رجعة؟
■ كما سبق وذكرت لك، هناك أقسام مختصة في بعض الجامعات الهندية لدراسات غرب آسيا، وهي جامعة جواهر لال نهرو في دلهي، والجامعة الملية الإسلامية، وجامعة عليكرة وغيرها. واهتم الباحثون فيها بدراسة جوانب متعددة من العلاقات بين الهند والعالم العربي، ولا سيما منطقة الخليج وامتدادًا إلى مصر ووادي النيل هذه المرة. ومن العلماء البارزين الذين قدموا كتبًا مميزة في هذا الميدان، البروفيسور آفتاب كمال باشا؛ فقد ألف أكثر من عشرين كتابًا من بينها: «مصر في عالم متغير»، و«الهند وغرب آسيا»، و«الهند وعمان»، و«الخليج المعاصر»، و«المشاركة السياسية في دول الخليج العربي». وهناك أيضًا الكاتب تلميذ أحمد، وله مؤلفات عديدة قي الفضاء نفسه، منها: «الإصلاح في العالم العربي» (2005م)، و«التحدي الإسلامي في غرب آسيا» (2010م)، و«غرب آسيا في خضم الحرب» (2021م) وغيرها.
ولا بد من الإشارة إلى الكاتب بنسي دهار برادهان، وله دراسات مهمة عن القضية الفلسطينية من أهمها: «الدبلوماسية المكوكية والقضية الفلسطينية»، و«الديناميات المتغيرة لسياسة الهند نحو غرب آسيا» وغيرهما. ومن الكُتاب أيضًا الأستاذ أم. أتش. إلياس، المختص بالشؤون الثقافية في دول الخليج العربي، وصاحب عدد لا بأس به من المؤلفات في الموضوع. وهناك أيضًا أنيس الرحمن، المختص بدراسات الهجرة والدياسبورة الهندية في بلدان الخليج، وله خمسة مؤلفات، وما يزيد على 50 دراسة مستفيضة في موضوع تخصصه، وكتابه: «هجرة العمال الهنود إلى الخليج: تحليل اجتماعي واقتصادي» يُعَدّ من المراجع الأولية والأساسية في دراسات الدياسبورة الهندية في الخليج العربي.
ولا بد أن نشير إلى الكاتب محمد أزهر من جامعة عليكرة الإسلامية، المختص بشؤون الطاقة والمالية العامة والعلاقات الاقتصادية بين الهند وغرب آسيا، وكتابه المعنون بـ«اقتصادات الخليج المعاصرة والعلاقات بين الهند والخليج» يُعَدّ مرجعًا مهمًّا لدراسة العلاقات الاقتصادية المعاصرة بين الجانبين العربي والهندي. إذًا، فالمؤلفات الهندية الجديدة حول العالم العربي توالت وتتوالى باستمرار، وخصوصًا منها تلك التي تصدر باللغة الإنجليزية عن الجامعات الهندية الآنف ذكرها.
من العربية إلى الهندية.. والعكس
● هل هناك أدب هندي معاصر أو حديث باللغة العربية اليوم؟ وهل من يشجع على مثل هذه الظاهرة أو الحراك الإبداعي؟
■ إن كنتم تقصدون بالأدب الهندي المعاصر باللغة العربية الأجناسَ الأدبيةَ الحديثةَ كالقصة والرواية والمسرحية والشعر الحديث، فلأكن صريحًا معك، هذه الأجناس الأدبية مفتقدة في المشهد الأدبي الهندي عمومًا، وقد يكون سبب ذلك أن الإبداع يقتضي من المبدع أن يمتلك مقدرة لغوية طبيعية كمثل الناطق الأصلي بها. أما التأليف العلمي، فذاك شأن آخر، وإن لم ينتبه إليه كثيرًا علماؤنا. وعلى أي حال، فلقد بدأ المشهد يتغير رويدًا.. رويدًا منذ أن نشر الكاتب الشاب حامد رضا روايته «أحلام ضائعة» في القاهرة العام الماضي، وأقبل عدد من الكتاب الشباب على كتابة القصص القصيرة، ونشروا مجموعات قصصية في القاهرة، وفاز بعضهم بجوائز في مسابقات أدبية حول القصة القصيرة أقيمت في السنوات الأخيرة في العالم العربي.
على مستوى آخر، كانت مجلة «قطوف الهند» الإلكترونية الفصلية المُحكمة (التي أترأس إدارة تحريرها) قد أجرت في العام الماضي مسابقة حول القصة القصيرة لطلبة الجامعات الهندية بمناسبة الاحتفاء بـ«اليوم العالمي للغة العربية»، متلقية خمسين مشاركة للمنافسة، ونشرت القصص الفائزة في المسابقة في العدد الأخير من المجلة، وهي ظاهرة تبشر بالخير على مستوى الحراك الإبداعي المكتوب بالعربية في الهند. أما حضور الهند في الشعر العربي التقليدي، ولا سيما في موضوعات كالمديح النبوي والغزل، فلا بأس به، ولكنه لم ينل الاهتمام المطلوب من جانب أغلبية القُرّاء المعنيين بالكتابة الإبداعية الحديثة.
● وكيف تتجلى الكتابات الفكرية والأدبية والثقافية الهندية بالعربية في بلادكم الغنية بالطاقات والإبداعات على اختلافها؟
■ المؤلفات الهندية باللغة العربية تكاد تنحصر في موضوعات دينية إسلامية، كالتفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ الإسلامي، والترجمة، والسيرة، وقليل جدًّا منها يتعلق بالأدب. وهنا لا بد من أن ننوه ببعض مؤلفات الشيخ أبي الحسن الندوي الذي ألّف مئات الكتب بلغة الضاد في موضوعات إسلامية وأدبية أيضًا، فكتبه: «إذا هبت ريح الإيمان»، و«الطريق إلى المدينة»، والقراءة الراشدة (للأطفال)، و«مختارات من أدب العرب»، يمكن أن نعدها كتبًا أدبية ذات نكهة إسلامية. وبعد وفاته في عام 1999م، لم يظهر كاتب هندي يداني قامته في مستوى التأليف باللغة العربية، وإن كان هناك من ألفوا كتبًا في موضوعات تتعلق بالثقافة الإسلامية في شتى المدارس الدينية وأساتذة الأقسام العربية في الجامعات الهندية.
من الشعراء الهنود المعاصرين تذكر أسماء كل من: الشيخ عبدالله السلمي، صاحب دواوين شعرية عدة، ومحمد ضياء الدين الفيضي، والشاعر الشاب صبغة الله الهدوي، والأستاذ عبدالله الأماني الفيضي، والشيخ أنور عبد الله الفضفري، وكلهم من ولاية كيرالا الهندية، وهم ينظمون قصائد رائعة باللغة العربية. وبخصوص الصحافة العربية العلمية في الهند، فهي مزدهرة جدًّا، وتعكسها عشرات الدوريات والمجلات الصادرة عن كبرى المدارس الدينية، وأقسام اللغة العربية في الجامعات الهندية التي تنشر وبشكل دوري كثيرًا من البحوث العلمية.
الترجمة بين اللغتين الهندية والعربية
● المعروف أن دولة الإمارات العربية المتحدة تحتضن أكبر جالية هندية من حيث العدد بين الجاليات الهندية المتوزعة بين سائر دول مجلس التعاون الخليجي.. والسؤال الآن: ألا يفترض أن يكون لهذا الأمر تأثيره الطاغي في أُولِي الأمر في الهند.. على الأقل لجهة عملهم على عدم السماح بالإضرار بمسيرة تعليم لغة الضاد في بلادهم، وتعزيز المثاقفة العربية- الهندية، ومنحها الأولوية على ما عداها من أولويات؟
■ ثمة علاقات وروابط راسخة تربط الهند بالعالم العربي؛ والحكومة الحالية برئاسة السيد ناريندرا مودي عزَّزت هذه العلاقات أكثر فأكثر، حتى ارتقت إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية مع دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. وهناك استثمارات عربية خليجية بمليارات الدولارات في الهند.. والعكس صحيح أيضًا، ولكن طبيعة هذه العلاقات تجارية واقتصادية. أما حجم التبادل الثقافي بين الجانبين فضعيف جدًّا، مقارنة بحجم التبادل التجاري والاقتصادي؛ ولذلك من الأهمية بمكان تفعيل التبادل الثقافي بين الهند والعالم العربي من خلال ترجمة الآداب الهندية إلى اللغة العربية.. وبالعكس، وتبادل زيارات المفكرين والمثقفين والطلبة، واعتماد مشروعات علمية وثقافية مشتركة ونحو ذلك مما يصب في مجمله في مصلحة المثاقفة العربية- الهندية.
● لنتكلم أخيرًا عن ترجماتك فيما خص اللغة العربية وآدابها في الهند، وغيرها من الأمور ذات الصلة؟
■ أنجزتُ في السنوات المتوسطة الماضية ترجمات لبعض روائع الأدب الهندي باللغتين الأردو والهندي إلى اللغة العربية، منها رواية «نهر النار» (بالأردو) للروائية قرة العين حيدر (حائزة على أعلى جائزة أدبية في الهند عن روايتها «جيان بيت»)، ورواية «الوشاح المدنس» (عن الهندية) للكاتب الشهير فانيشوار ناث رينو؛ إضافة إلى ترجمات لبعض الكتب العلمية والسِّيَرية إلى العربية منها «مواطن الحداثة» لديبيش شاكرابارتي، و«فكرة الهند» لسونيل خيلناني، و«السير في الطريق السريع» لرام بوكساني. وترجمت بعض القصص الهندية إلى العربية لهيئة الكتاب الوطنية الهندية.
أما حاليًّا فأشتغل على نقل بعض الأعمال الروائية العربية إلى اللغة الأردية، مثل رواية «الديوان الإسبرطي» للجزائري عبدالوهاب عيساوي (جائزة البوكر العربية- 2020م)، ورواية «حانة الست» للمصري محمد بركة، و«رقصة الجديلة والنهر» للمصرية وفاء عبدالرزاق. كما أعكف أيضًا على تأليف كتاب حول فن الترجمة من العربية إلى الإنجليزية.. وبالعكس، وكتاب خاص بالنظريات الأدبية والنقدية الحديثة (باللغة العربية) للطلبة الهنود. كما أشتغل على كتاب يتناول، وبالمقارنة، الموضوعات الاجتماعية في عالم الروايتين: العربية والأردية. وأعمل كذلك على إعداد كتاب حول الجذور الهندية لدراسات ما بعد الاستعمار.. وسيصدر بعض هذه الكتب قريبًا جدًّا إن شاء الله.
المنشورات ذات الصلة
المؤرّخ اللبناني مسعود ضاهر: مشروع الشرق الأوسط الجديد يحلّ محل نظيره سايكس بيكو القديم
الدكتور مسعود ضاهر أحد أبرز المؤرّخين العرب في لبنان والعالم العربي اليوم. هو صاحب مدرسة في الكتابة التاريخية تتميز...
بمناسبة صدور كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء» خوسيه ميغيل بويرتا: نحن أمام مسؤولية إبراز التعايش مع الإرث الأندلسي بمفاهيم عصرية
بمناسبة صدور كتابه باللغة العربية «رياض الشعراء في قصور الحمراء» بالاشتراك مع الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع،...
زياد الدريس: مركز عبدالله بن إدريس يهدف إلى تشجيع الابتكار وجائزة ابن إدريس أكثر من كونها شعرية أو أدبية
يتطرق الدكتور زياد بن عبدالله الدريس، أمين عام مركز عبدالله بن إدريس الثقافي، في هذا الحوار، إلى دور المركز في تنشيط...
حوار الكاتب والشاعر اللبناني أحمد فرحات والأستاذ الدكتور مجيب الرحمن رئيس مركز الدراسات العربية والإفريقية، بجامعة جواهر لال نهرو، بالهند حوار شبق وممتع للغاية، يدلي دلوه على جذور الثقافة العربية وجهود الهنود في اللغة العربية مع إبراز مجالات الضعف والتدهور. نأمل أن هذا الحوار سيؤدي دوره الرئيس في تنبيه المعنيين بالعربية من الجانبين الهندي والعالم العربي للنهوض بهذه اللغة العظيمة؛ لغة الضاد، ولغة الشعر والحضارة والعلوم والتاريخ الفكري والحضاري المجيد. بارك الله في المحاور والمتحاور معه.