كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
عبدالإله بن عرفة وسؤال المدينة الفاضلة
صدر للدكتور عبدالإله بن عرفة، الأديب والكاتب المغربي ورائد الرواية العرفانية، رواية بعنوان: «أختام المدينة الفاضلة» (دار الآداب 2022م). تكمن أهمية هذا العمل، في الأفق المعرفي الذي فتحه، وهو يعالج موضوعًا قديمًا وجديدًا في الوقت ذاته، إضافة إلى كون طبعة هذا الموضوع يمتد ويصب في مختلف حقول المعرفة بمختلف مجالاتها. ونذكر هنا بأن هذا العمل، امتداد لما قبله من الأعمال. وقد سبق للدكتور عبدالإله بن عرفة أن وصف مشروعه الأدبي بوصف «الكتابة بالنور»، إشارة منه إلى استحضار البعد الرمزي والدلالي للحروف المقطعة في القرآن الكريم، وما تفتحه من آفاق نورانية في الكتابة؛ فالرواية التي نحن بصددها وردت تحت فاتحة (المر). وفي نظرنا أن الأمر لا يتوقف عند فواتح السور وهي 29 في القرآن الكريم، بقدر ما هو استحضار لمنهجية القرآن المعرفية، وما تتصف به من تداخل معرفي بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
الفضيلة ونقيضها
المدينة الفاضلة، أو التفكير في مجتمع ينعم بالفضيلة والسعادة والطمأنينة والراحة، أمر شغل الإنسانية منذ فجر التاريخ وقد طرق أفلاطون (-347 ق.م) هذا الباب بكتابه الشهير «المدينة الفاضلة» وكانت كل متمنياته وأحلامه أن يحكم الفلاسفة المدينة. وفي الثقافة الإسلامية كتب الفارابي (-339هـ/950م) كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة» وهو من أهم مؤلفاته؛ إذ كتبه في مرحلة نضجه المعرفي، وهو يتمنى ويحلم بمدينة يتحقق فيها التعاون بين كل أفراد المجتمع ويسودها العدل وينعم كل أهلها بالسعادة، وتجعلهم بفضائلهم قادرين على مواجهة المدن الجاهلة.
ما يقابل المدينة الفاضلة، هي المدينة الجاهلة أو المدينة الفاجرة، وهذا يأخذنا إلى النفس والفعل الإنساني وما يترتب عنه، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا 8 قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا 10﴾» (الشمس). فالفعل الإنساني بشكل عام تابع للنفس الملهمة والمنقسمة بين اتجاه الفجور واتجاه التقوى، والفلاح يأتي نتيجة لتزكية النفس، والخيبة والخسران تأتي نتيجة لتدسيتها. والحديث عن الفجور والتقوى في حد ذاته حديث في موضوعات القيم والأخلاق وهي خاصية يتميز بها الإنسان من غيره من الخلق.
سؤال المدينة الفاضلة، بوجه من الوجوه يتصل بسؤال الأخلاق، وهو سؤال شغل كُثرًا من المختصين والدارسين عبر العالم، في تفاعل مع مختلف التحديات بفعل التحولات العلمية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية… التي عرفها العالم، ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ 20 اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ 21﴾ (يس). فالمسألة تدور في مدار الهداية إلى مكارم الأخلاق، ومن فضل الله وحكمته أن المدينة لا تخلو من رجال كل همهم هو إرشاد الناس وتقويم سلوكهم. هؤلاء وصفهم الدكتور عبدالإله بن عرفة بأختام المدينة الفاضلة، ودورهم هو أنهم «يقودون المدينة الفاضلة التي تحكم باطن الإنسان، ويؤكدون على بعده الروحي. وتلك هي السياسة العليا التي ينبغي أن يتشوفوا إليها ويعملوا على بلوغها»(١).
وبهذا الفهم فالإنسان وهو يسعى من أجل الارتقاء إلى مقام الفضيلة -المدينة الفاضلة-فنفسه تكون محمولة بفعل الروح، وعندها لا مجال لتستحوذ عليه المادة والأشياء والغريزة… كما أن كل وسائل المعرفة والتعبير لديه من فنون وغيرها ستدور في دائرة الغائية والقصدية التي تراعي كينونة الإنسان، بوصفه كائنًا متجاوزًا للبدن ولما هو حسي، فالغِنَى لديه يتحقق، بالغِنَى عن الأشياء لا بالأشياء. أما التدين في هذه الحالة فيكون خارج عن دائرة الطقوس والأشكال والأشخاص، ويدور في دائرة القيم العليا التي تجعل الناس جميعًا إخوة بمعزل عن انتماءاتهم الدينية والثقافية. وباختصار فالنفس عندما تكون محمولة بالرُّوح، تترتب على ذلك روحانية الإنسان بدل الإنسان المشيأ (نسبة إلى الأشياء) أو البهيمي (نسبة إلى البهيمة) فالبهيمة تتحكم فيها الغريزة أكثر من أي شيء آخر.
أوهام الفردوس الأرضي
تضعنا رواية «أختام المدينة الفاضلة» للدكتور عبدالإله بن عرفة، في قلب نقاش كوني معاصر، يتصل بسؤال مفاده: إلى أين يتجه العالم اليوم؟ بالنظر إلى ما يحيط بالعالم اليوم من أخطار؛ من أبرزها خطر التلوث البيئي، وتغير المناخ، والحروب، وأسلحة الدمار الشامل، والمجاعات، والهجرة، والتفاوت بين دول الشمال ودول الجنوب… وقد كان مرض كوفيد 19 لحظة تنبيه وتذكير بأن مصير الإنسانية مصير واحد مشترك، في وقت تضخمت فيه النزعة المادية والاستهلاكية، وشُيِّئَ الإنسانُ باختزال وجوده في دائرة العمل والإنتاج الذي يفضي إلى الربح. هذا الوضع يصفه الفيلسوف الكندي (آلان دونو) بنظام التفاهة(٢)، وهو يعني بذلك تراجع التفكير العميق والتأملي في النظر إلى الظواهر والموجودات والأشياء، وسيطرة نزعة إرضاء الجمهور وما يطلبه السوق في مجال مختلف الفنون، على حساب الإبداع الراقي والهادف الذي يراعي
فضيلة الإنسان…
في وقتنا الحاضر يحق لنا القول: إن ما يقابل المدينة الفاضلة، هي المدينة التافهة؛ إذ يتمسك قطاع كبير من الناس فيها بكل ما هو سطحي وبكل زَبَدٍ عابر في غفلة عن أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض. قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ (الرعد: ٧١). وقد سبق لعبدالوهاب المسيري أن نَبّهَ إلى أن الفلسفات المادية قد جعلت كثيرًا من الناس يعيشون وَهْمَ تحقيقِ الفردوس الأرضي «الآن وهنا»، وهو ما جعل أفق التفكير لديهم منسدًّا، يبدأ من المادة ويعود إليها على حساب كل ما هو باطنيٌّ وجَوَّانِيٌّ ورُوحِيٌّ؛ إذ ينظرون لأنفسهم كجزء من الطبيعة، شأنهم شأن الكائنات العضوية الأخرى. فطبيعة هذا الانسداد أو السجن داخل أسوار المادة، جعلت وهم الفردوس الأرضي يتحول إلى جحيم(٣).
وعلى الرغم من كل هذه المنزلقات التي تُعَدُّ وجهًا من أوجه التقنية والحداثة، فالتفاؤل والأمل حاضران في ثنايا رواية أختام المدينة، وهي تُعِيد الثقة في الإنسان وللإنسان إيمانًا بأنه «آية وليس آلة، وأنه مبعث خير وأمل وفضيلة وصلاح رغم كل الأعطاب التي قد تطرأ عليه حينما ينسى الحكمة من وجوده والغاية من ولايته على العالم»(٤). لقد عمل الدكتور عبدالإله بن عرفة على استرجاع واستنبات كثير مما هو ماكث في الأرض، ومن طبعه منفعة الناس، استحضارًا منه، بأن التاريخ والماضي متصل وممتد في الحاضر. وعلى هذا المنوال بإمكاننا اليوم تَمَثُّل واستحضار مختلف الحِكَم والفلسفات والفضائل في الشرق والغرب، بما يخدم إنسانية الإنسان المعاصر، وبما يحرره من الأغلال والقيود، سواء كانت باسم التاريخ وثقله، أو كانت نتيجة انزلاقات في النظر والتفكير، أو كانت نتيجة لمتطلبات الواقع والحياة.
نماذج المدينة الفاضلة
سافرت بنا رواية أختام المدينة الفاضلة في عالم مفتوح لا حدود له، يجمع بين فهم الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، وتتداخل فيه عوالم متعددة، يحضر فيها العقل والنظر والحواس والقلب والذوق والوجدان والروح، من خلال نظم لغوي يتداخل مع الواقع وإشكالاته، ويرتقي إلى الأعلى(٥)، بهدف بسط مقاربات الحلول والعلاج من خلال مشهد تخيلي اجتمع فيه خمسة من أختام المدينة الفاضلة وهم: الترمذي (الحكيم)، والفارابي (الفيلسوف)، والمتنبي (الشاعر)، والمعري (الأديب)، ومحيي الدين ابن عربي (المتصوف)، وهو مجلس غني يجمع بين آفاق الحكمة والفلسفة والشعر والأدب والعرفان. وعملت الرواية على استحضار واسترجاع سيرة وحياة كل هؤلاء الأعلام، بنفس يغلب عليه التحليل والنقد والمناظرة بين كل هؤلاء، ولا شك في أن أختام المدينة الفاضلة، لا تنحصر في هؤلاء الخمسة، بقدر ما يشكلون نماذج بارزة.
استرجاع سيرة هؤلاء الأعلام ليس من باب الاسترجاع ذاته، بل يغلب عليه نقد وتحليل وتفكيك كثير من الصور الذهنية التي تشكلت حول هؤلاء وغيرهم، نتيجة خلفيات معينة، ولسبب ظرفي في لحظة عابرة من الزمن. في هذا السياق، تفند الرواية بحِسّ الأديب المنفتح على التاريخ، تُهمة ادعاء النبوة في حق الشاعر العربي الكبير، أحمد بن الحسين الجعفي الكندي الكوفي، الذي صار معروفًا بالمتنبي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدكتور عبدالإله بن عرفة كشف عن كون المغاربة يسمون المتنبي باسم المتنبه، وهي إشارة ربما غير مسبوقة. القارئ للرواية سيجدها تفتح أعينه على أفق خلّاق في فهم حياة هؤلاء الأعلام، بشكل يستحضر السياق الحضاري والثقافي الذي ينتمي إليه كل واحد من هؤلاء.
ارتأى الدكتور عبدالإله بن عرفة، أن يجعل محيي الدين ابن عربي (المتصوف) حَكَمًا بين أختام مجلس المدينة الفاضلة، وهو بهذا يأخذ القارئ إلى مجال المعرفة العرفانية التي تتعاطى مع المعرفة بكونها تكاملًا بين عالم الغيب وعالم الشهادة، في وقت يرى فيه كثير أن المعرفة والعلم منحصرانِ في مجال الحس والتجربة فقط، وقد تَرَتّب على هذا القصور المنهجي كثير من الآفات ليس هنا مجال ذكرها، وهو ما دفع هايدغر إلى إطلاق عبارته الشهيرة: «لن ينقذنا سوى الله». فالمدينة الفاضلة إذن «هي المدينة التي يتبوأ فيها الفضلاء مكان الصدارة حيث يقودون الرَّكْبَ الإنسانيَّ نحو الكمال»(٦).
هوامش:
(١) نفسه، ص. 195.
(٢) انظر: نظام التفاهة، آلان دونو، ترجمة، مشاعل عبدالعزيز الهاجري.
(٣) انظر: الفردوس الأرضي، عبدالوهاب المسيري.
(٤) نفسه، ص. 212.
(٥) قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)} (النحل)
(٦) نفسه، ص. 221.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق