كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
عزلة الشاعر وواقع الشعر
حاورتُ الشاعر الراحل محمد الثبيتي منذ قرابة عقدين في لقاء إعلامي، وكان حينها قد مال إلى العزلة، وابتعد من النشر وأجواء الصحافة الثقافية في أعقاب ما تعرضت له موجة الحداثة من نكسات، وعلى خلفية ما واجهه ديوانه (التضاريس) من هجوم التيارات الإسلامية؛ إذ صودر من الأسواق، ثم سحبت من الشاعر جائزة النادي الأدبي في جدة، أتذكر قوله وقتها: «لستُ موظفًا عند النقاد» مؤكدًا أنه تجاوز (التضاريس) لكن النقاد لم يتجاوزوها، وظلوا يسجنون قصيدته في أجوائها، وأنه ملّ من إقناع الأكاديميين بذلك، وكدليل على تجاوزه هذا؛ أنشدني لأول مرة قصيدته النوعية (تعارف/ غرفة باردة)، وتضمنت تأمله الذاتي واشتغاله بالمحسوس واليومي، تمامًا كما يصف النقاد قصائد شعراء اليوم التي تحولت من الشأن العام إلى الخاص، ومن قضايا الأمة إلى هموم الفرد..
والحقيقة أن نصوص الثبيتي في الثمانينيات كانت مختبر جيل كامل من النقاد السعوديين المفتونين بالشعر الحديث آنذاك، وهو ما أثقل روحه المرهفة وشخصيته الميّالة للعزلة والخجل، غير أن عزلته وغيابه الطويل بعد (التضاريس) أنتجا في وقت لاحق مجموعة (موقف الرمال) التي رآها هو نقلة فنية وبنيوية في شعره إلى مرحلة جديدة.. ومنذ أن رأيته في لقاء المثقفين السعوديين بالرياض منفردًا وحائرًا، مرورًا بانتظاره على مسرح كلية اليمامة حيث أدرج اسمه في الأمسية ولم يحضر، حتى زرته في المستشفى في أيامه الأخيرة بجدة مستوحدًا ومنتظرًا الرحيل؛ ظلت شخصية الثبيتي عندي برهانًا على الثمن الذي يدفعه الشاعر لإنتاج قصائده، إنه كم هائل من المزاجية والعزلة والفردية..
عادت إليّ بعض هذه الذكريات وأنا أقرأ مقالة الشاعر سعدي يوسف المنشورة في هذا العدد من مجلة الفيصل، حين تساءل: «ثمّة صمتٌ أطالَ الـمَـكْثَ. مَن بعد الثبيتي؟» مستفهمًا عن حال الشعر السعودي بعد غياب الثبيتي، والواقع أن سعدي يوسف كرر السؤال نفسه عن المشهد الشعري في دول عربية أخرى بعد رحيل كبار الشعراء العرب، وقد تبدو الإجابات الجاهزة عن هذه الأسئلة يسيرة، بإحالتها إلى ما يتردد عن زمن الرواية، أو ظهور أوعية إلكترونية جديدة للتعبير، وخلاف ذلك من أسباب؛ غير أنها جميعًا غير كافية لتكون إجابة شافية عن مساحة الشعر الآخذة في التقلص والانكماش.
وقد خصصت « الفيصل » ملف هذا العدد لمحاولة الإجابة عن أسئلة غياب الشعر العربي ومآلاته في السنوات الأخيرة، وكثير ممن شاركوا في هذا الملف رفضوا فكرة تقسيم أحوال الشعر جغرافيًّا مؤكدين أن ما يمر به الشعر العربي هو شأن عام ولا يخص منطقة أو بلدًا بعينه، وسيجد القارئ مقالات لكبار الشعراء والنقاد العرب يحاولون فيها التعاطي مع المسألة الشعرية اليوم، رافضين وصفها بالأزمة، مؤكدين أن «الشعر ضرورة» كما يعبِّر أحمد عبدالمعطي حجازي في مقالته.
ولعل أكثر الظواهر بروزًا فيما يخص الشعر العربي اليوم هي مرور الربيع العربي ثقيلًا على الشعب خفيفًا على الشعر. خرجت الناس إلى الشوارع والميادين، وصدحت الحناجر ولم نرصد قصيدة واحدة ترددها الجماهير، لقد حمل العرب حقائبهم، وتشتتوا في المنافي، أو هاجروا في البحر، وتركوا الشعر وراءهم.. إن غياب الشعر عن أكبر هزة زلزلت الثقافة والسياسة العربية لهُو سؤال كبير، وحيثما قرأت اعتذارات نقدية تقول: إنها لحظة انفعالية آنية يحتاج الشاعر وقتًا ليستوعبها؛ تذكرت الجواهري ونزار قباني وغازي القصيبي.
القصيدة هي ثمرة احتدام طويل، إنها المرحلة الأخيرة من تجارب حياتية ولغوية يجب أن يعيشها الشاعر، وإذا قطع هذا الاحتدام طارئ ما؛ أفسد التجربة كلها، ونغّص على الشاعر عزلته التي يغتنمها ليجمع المعاني وتنصهر الصور في الكلمات، فهل تتوافر هذه العزلة في أيامنا هذه؟ لقد صار الشعراء اليوم مصلوبين على حساباتهم في فيسبوك وتويتر، وما إن تعنّ للشاعر فكرة حتى يسربها في مئة حرف لتغيب وسط ملايين الحروف الأخرى في الدقيقة الواحدة.
ويعنيني هنا إيراد حكاية شاعر ظل يقاوم فكرة الهاتف الذكي وحسابات المواقع الاجتماعية وتطبيقاتها المتناسلة، ونجح في الصمود سنوات حتى هُزم أمام إلحاح الناس، وصار اليوم يكره قراره بشراء هذا «الجاسوس الصغير» كما يسميه. لقد أنهكت الأخبار العاجلة وبرامج المحادثات خصوصية المبدع، وانطواءه الخلاق، ولعلها خدمت الكاتب والإعلامي، غير أن الأجهزة الذكية أجهزت على خيال الشاعر، واقتحمت عليه الباب، وهاجمته بالنصوص والمعلومات والصور.
ولد الشعر عند العرب ليكون وسيلة التواصل الاجتماعي، به يتناقلون الأخبار ويعبرون عن أشجانهم وأفراحهم، عن واقعهم وأحلامهم، وجاء استحداث وسائط تقنية لهذا الاتصال الاجتماعي ليؤثر في الشعر تأثيرًا بالغًا، لقد هزم الفيديو الصورة الشعرية، وخضع المجاز والاستعارة أمام النصوص الإخبارية والتعليقات اليومية. عالمنا اليوم شديد الواقعية، لا يترك مساحة للخيال الذي هو مادة الشعر.. إنه واقع جديد يتطلب استجابات جديدة تناسبه. هكذا نرى الشعر محض نص هامشي لأغنية سريعة، لقد عبث موسيقيو اليوم بالقصيدة؛ كي تستجيب للنوتات الزاعقة، وهكذا أيضًا نجد الشعر يلهث في مسابقات لا علاقة لها به، وإذا أردتَ دليلًا أخيرًا على واقع الشعر الآن فما عليك إلا قراءة قصائد الفائزين بالجوائز الشعرية العربية.
المنشورات ذات الصلة
تطور الخط العربي
كشف كثير من الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة، وكذلك عمليات التنقيب المستمرة في تراث الجزيرة العربية ومخزونها الثقافي،...
مستقبل الأمن الغذائي في الوطن العربي
يرتبط الأمن الغذائي ارتباطًا جذريًّا بتوفير الشروط الأمنية الأساسية التي تضمن سلامة التبادل التجاري، وتيسير عملية...
أسئلة الرواية التاريخية
الرجال مواقف وكلمات، والتاريخ يصنعه الرجال وتخلده المواقف والكلمات، وتتناقله الأجيال جيلًا بعد جيل حتى يصبح جزءًا...
0 تعليق