كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«كراساتي الباريسية» للطفية الدليمي… مكابدات اللجوء والشغف بالفن والحياة
لم تكن كتاباتها صيغًا أو قوالب جاهزة، ولا تعبيرات سمجة، ومستهلَكة، ولا فذلكات لغوية صادرة من مؤلفة تلهث وراء الشهرة السريعة، والمجد الزائف، بل هي آثار فذّة نابعة من تأملاتها العميقة في كنه الحياة والوجود والموت، في ماهية الألم والقلق والحب والخذلان والكرامة والحرية والجنون، هي التي عاشت سنواتها الطويلة في انشغالات اجتماعية ووظيفية، وتنقلات بين (بهرز) و(بغداد)، و(عمّان) و(باريس)، و(بيرن)، و(زيورخ)، وعلى صعيد الكتابة تنقلت بين القصة القصيرة والرواية والمسرح والسيرة والمقالة والدراسة والترجمة وسواها.
كنز من الذكريات
تكتب لطفية الدليمي دومًا عن خياراتها الفكرية، ورؤيتها الإحيائية للعالَم؛ لكونها ترى الجمال مرادفًا للحياة والحب والعمل والصدق. كما تكتب عن شغفها بالفنون والآداب، وعن مغامراتها الحياتية والإبداعية، وعذاباتها في الوطن وبلد اللجوء، ناهيك عن مشاهداتها الكثيرة. وحين أقول مشاهداتها، فأنا أعني أن لطفية الدليمي جرّبت أن تعيش في باريس، مرةً، قريبة من مركب آرثر رامبو السكران، ومن أسطوانات أديث بياف ذات الصوت الشجي، ومن وجودية سارتر، وجرأة سيمون دي بوفوار. وخرجت من تلك التجربة بكنز من الذكريات الجريئة والمثيرة. وأنا أعني هنا ما سطّرته في «كراساتي الباريسية».
سمحت، دومًا، لقلمها أن يتمتع بكامل حريته، وأن ينساب على الورق فيكتب ما يشاء، من دون قيود. فما أحلى أن تتنفس بملء حريتك، وأن تكتب ما يحلو لك، وأن تصرخ تعبيرًا عن استيائك ووجعك، وأن تفكر وتبدع وتتعلّم تقنيات الأمل والفرح، وتزج نفسك في نهر الحياة الشهي، والمتدفق؛ تبتكر نمطك الخاص في العيش، وتقاوم محاولات التدجين، وتكتسب شخصية عصية على التطويع، وترفع عقيرتك بالغناء في زمن كبت الحريات وتحريم البوح العاطفي، حتى الوجد الصوفي، وأن تجعل روحك المفعمة بالعشق والجرأة تحلّق في سماء التمرد والحرية، في الزمن الذي تقيّد فيه السلطاتُ المتنوّعة بكل جبروتها، وشراستها، وعنفها، رِجليكَ، وأرجلَ كلِّ المبدعينَ في العراق، و(العالَم العربي)، ومنها رِجلا (لطفية الدليمي).
لا، لم تشأ هذه السيدة العراقية، ابنة سومر وبابل وأكد وآشور، أن ترسف بقيودها الثقيلة، وتتشكّى، وتندب حظها العاثر؛ لأنه لم تكن ظروفها الحياتية مناسبة تمامًا، بل غالبًا ما كانت مليئة بالمتاعب والآلام. لا، لم تفعل ذلك على الإطلاق. شاءت أن تبتكر، أن تبدع، أن تندفع مرةً وإلى الأبد في فضاء الخيال الذي لا حدود له، وهو، بالطبع، الخيال، الذي يأخذنا إلى النبل، والسمو، والخصوبة.
وعبر كتاباتها السردية لم تشأ أن نلتفت إلى جمال لغتها، ورشاقة أسلوبها، وقوة حبكتها الروائية، وتماسك أحداثها فحسب، بل كانت تريدنا أن نعدّل مفاهيمنا، أن نغيّر طرائق تفكيرنا، أن نتخلّص من كل العقليات المتكلسة التي ظلت تفرض سيطرتها علينا طوال عقود من الزمن. إنها تريدنا أن ندرس الواقع، والحياة، والوجود، بكل ما أوتينا من حرية، وتفتح، وأريحية، وأن نوظف كل إمكاناتنا في الخروج من قوقعة الجمود، وأن نجدد حياتنا، وأن نرتقي ونتطور ونهذب ذائقتنا، ونثري عقولنا، ونحرر أرواحنا ليس من خلال الفلسفة والأدب والشغف بالرسم والموسيقا فقط، بل حتى من خلال العلوم والتقنيات والمستقبليات والذكاء الاصطناعي. وفيما هي تسرد لنا تجاربها الحياتية في كراساتها الباريسية، لم تشأ الدليمي أن تلمع شخصيتها، أو تعدّل ذكرياتها وتزوّقها، بل كانت صادقة مع نفسها، وتركت ذكرياتها تتكلم بكل عنفوانها، وجرأتها، وصدقها، إذا جاز لنا أن نستعير تعبير فلاديمير نابوكوﭪ الذي منح سيرته عنوان «تكلّمي أيتها الذكريات».
ذاكرة استثنائية
يعيش المرء تجربة فريدة وهو يجد نفسه في كل كتاب تؤلفه السيدة لطفية الدليمي إلى درجة التماهي. فالوسادة التي تنام عليها هي الوسادة ذاتها التي سفحنا عليها دموعنا لمّا اكتشفنا الكذب والخداع الذي سوّقه لنا المحتلون، وباعونا لعبة عاطلة لم نستطع تفكيكها، ولا إصلاحها. إضافة إلى أنه سرعان ما يُدرك القارئ أنها تفعل ثلاثة أشياء معًا؛ هي تعيش حياتها، وحياة الآخرين، وفي الوقت نفسه تكتب وتحلم؛ وفي أحلامها تُسائل الواقع القاسي، وتفتش عن مفاتيح الخلاص. وحين تعيش أيامها، فهي في الوقت نفسه تحتج على سقط المتاع الذي يحيطنا، لا تأبه بأن تكون وحيدة في الدرب الذي تسلكه، فما يتأجج في رُوحها من عواطفَ، وما يتوقد في دماغها من أفكار، هي التي تمكنها من اختراع شخصيات ظلّية حميمة، شبيهة بها، بشكل دائم.
ولو لم تتمتع لطفية الدليمي بذاكرة استثنائية لما تمكنت من سرد تجاربها الحياتية، وانكسارات أبناء جيلها، ووصف الدمار الذي لحق ببلادها، جراء الحروب المتتالية، أو الاقتتال الطائفي بعد 2003م. فالسرد المؤثر يتطلب قدرة على جمع الحقائق الضائعة التي نعثر عليها في حياتنا اليومية، إلا أننا قلَّما نلتفت إليها. كانت تتألم وتعاني، وهي تنصت إلى أصوات الرصاص في ليالي الرعب التي تواترت على بغداد بعد الاحتلال الأميركي، وترهف السمع للخطى المريبة في حديقة بيتها الخلفية. تقول في ص43: «أدفن وجهي في الوسائد وأنشج، لا أسمع سوى وجيب قلبي ولا أدرك سوى رجفة جوارحي».
تصف كل شيء جرى لها وللعراقيين إبان تلك الحقبة الزمنية التي تشردوا فيها، وتعذبوا، وانكفؤوا على أنفسهم لائذين بالصمت، كاتمين نشيجهم، لا يفكرون إلا بالحفاظ على أرواحهم، وبما تبقى من صبرهم. تصف هذا بواقعية صادمة كي تنفس عن معاناتها، إلا أنها، على ما نعتقد، أثثت فصول كتابها هذا بالخيال؛ لأنه وحده الذي يسدّ ثغرات ذلك الواقع القاسي، الصارم، ويتغلب على عجزه وضآلته وقصوره؛ لأننا بواسطة الخيال، ومن خلاله، ننتصر على أنفسنا، وهو الذي يمكننا من فتح مسارات ودروب في جدار جهلنا. الخيال هو المَلَكة التي جعلت كل شيء ممكنًا ومتاحًا؛ هو الإرث العظيم الذي ورثته البشرية منذ براءة الأيام الأولى. وها نحن، في هذا الكتاب الشائِقِ نَتعرّف إلى ما في نفوسنا من مخاوفَ، وتطلعات، ومآسٍ. ففي ص 29، تكتب قائلة: «تأتي الكلاب الضالة إلى الحديقة فأجد ذراع رجل وكف طفل، وأسمع استغاثات مروِّعة، وأرى مصيرنا موكولًا لقاتل وكلب وغراب».
صاحبة «سيدات زحل» منحت نفسها كل الحرية في التخيل، وحمت نفسها من السلطات القمعية التي أرادت أن تحرمها من حق الدخول إلى (جمهورية الخيال)، وتصادر جرأتها، واستقلالها، وكرامتها الفردية، والتماهي مع الشخصيات الأدبية والفنية التي أحبتها، وتأثرت بها، ومنها آرثر رامبو، وستندال، وجان كوكتو، وريلكه، ونيتشه، وسيمون دي بوفوار، وسارتر، وهرمان هيسه، وكازنتزاكي. هؤلاء الشعراء والكتاب والفلاسفة هم دعائم أملنا، وهم الذين يحثوننا على الاستمتاع بالشمس، وخضرة المروج، وشدو الطيور، ويحرضوننا دومًا على إزالة البقع المعتمة من أرواحنا، والحفاظ على بذور التمرّد في داخلنا.
العين الثالثة للخيال
وعلى الرغم من أن الكاتبة الدليمي تمتلك ذاكرة مدهشة، فإننا نحسب أن شأنها شأن أغلب الكُتاب، لا تكتب الماضي إلا بقدر كبير من الخيال، فهو الذي يملأ فجواته، يشخّص ما وقع فيه، يبحث عن الدوافع والرغبات التي كانت كامنة فيه وحرّكت تجاربه. يسعفنا التخييل دومًا في بناء ما يتعذر بلوغه، وما لا يُمكن استعادته إلا داخل اللغة ومتخيلاتها، فالماضي برمته ينحل في اللغة، بما أنه «مسكن للكينونة»، كما يقول هايدغر. وبما أن الدليمي تمتلك ذخيرة واسعة من المفردات، لا بل المفردات المعبّرة، والشاعرية، المكتنزة بالمعاني والدلالات كان باستطاعتها أن تطوّعها لتخلق حيزها الخاص، وعالَمها المميز، وتترك بصمتها على كل ما ترويه، وتصفه.
«نحن بحاجة إلى استرداد العين الثالثة للخيال»، هذا ما تقوله آذر نفيسي في كتابها المعنون «جمهورية الخيال». وتضيف هذه الكاتبة الأميركية من أصل إيراني: «إن مهمة الدفاع عن حق الخيال والتفكير الحر هو مسؤولية؛ ليس مسؤولية الكتاب والناشرين فقط، بل مسؤولية القراء، أيضًا».
وفيما تتمشى لطفية الدليمي مرتبكة، وحزينة، وحيدة في متاهات أزقة باريس الضيقة أو شوارعها التي تؤطر أرصفتها المقاهي والضحكات وأشذاء القهوة ورنين الأنخاب يُخيّل إليها أنها تلمح «شبح الكاتبة جورج صاند رفقة عشيقها الموسيقار شوبان، وهما يترجلان من عربة تجرها الخيول، أسمعها تتحدث عن كل ما أصاب فرنسا خلال جنون وقائع (كومونة باريس)، وبعد انحسار جحيمها من إراقة دماء وخراب وثأر ونهب وتدمير مبانٍ وتماثيل ونُصب عظيمة» ص 99.
وهي في كتابها هذا لا تبهرنا فقط بفصول الكتاب المكتوبة بتدفق وانسيابية لافتين، وحسن اختيارها للمفردات، وجمال أسلوبها، ورشاقة عباراتها، وعمق المعاني التي استقتها من تجاربها، وتأملاتها، وقراءاتها، باللغتين العربية والإنجليزية، بل تُبهرنا، أيضًا، بجرأتها الفريدة، وصراحتها الأخاذة، ودفاعها عن الجمال، والأنوثة، والحرية، والعدالة الاجتماعية بعد أن انهارت النظريات والأيديولوجيات، التي ظللنا مخدوعين بها على مدى عقود طويلة من الزمن، وبعد أن انكشفت لعبة المحتلين الغزاة، وباتت وعود الحاكم الطاغية تبعث على الضحك. وها نحن، أخيرًا، نستيقظ من الحلم اللذيذ لكن المُضلِّل الذي ما فتئنا نلهث وراءه كالمغفلين، نجد أنفسنا وسط الخرائب والدمار، نرى بعيوننا أرتال التوابيت تشق طريقها إلى المدافن، وطوابير الأرامل اللائي فتك بأزواجهن أولئك الذين سمموا حياتنا بمفاهيم الكراهية والقتل التي أدخلوها من الأبواب الخلفية للتاريخ. فإذا تعين على العراقيات أن يمتنعن عن لبس الفساتين الهفهافة، المزينة بالدانتيلا، وارتداء الشالات الملونة المزخرفة بالأشعار والرسوم، فكيف يتسنى لهن كبح عواطفهن، وكيف يستطعن أن يتخفين وراء الصمت، ممتثلات للسلطات التي أصدرت أوامر ظالمة بإزاحتهن من المشهد اليومي.
تلك الرحلة الباريسية عرّضت لطفية الدليمي لمأساة إنسانية هائلة، ولم يكن باستطاعتها أن تُرغم نفسها كي تكون متفائلة؛ لأنها عانت مكابدات اللجوء، وتعين عليها في بحر عامين أن تنام تحت 45 سقفًا، في منازل وفنادق جيدة ورديئة، وفي غُرَف مستأجرة وشقق معتمة، في عمارات بلا مصاعد، وفي منازل أبناء وصديقات. وفي الوقت نفسه لم يكن باستطاعتها أن تقتلع بلادها من ذاكرتها. وهي ذي عالقة الآن بين عالَمين؛ عالم البلد الذي لجأت إليه، والعالم الذي احتضن طفولتها، وشبابها، وبدايات تكوينها، وتمرّدها.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق