لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
المقهى مرآة لتبدل مجتمع وعصر
يمكن لاختفاء مقهى واحد أن يؤشر إلى التبدل في مدينة برمتها وإلى مرحلة بكاملها، فكيف باختفاء مقاهٍ عديدة. مؤخرًا اختفى أكثر من مقهى في صنعاء، كانت فضاء للمثقفين والأدباء والصحافيين وسواهم. تكاثرت المقاهي الحديثة في المدينة مطلع الألفية الجديدة، معلنة عن ملامح عصرية. كانت من خلاله المدينة تدشن مرحلة جديدة، أكثر اتصالًا بأساليب الحياة المدنية الحديثة. تبلورت بأكثر من فضاء يسوده الاختلاط، تتقاطع فيه سمات تعبيرية ثقافية واجتماعية وإنسانية.
لم تكن المقاهي مجرد أماكن عامة لتجمع فئات مختلفة من الناس. إنما علامات تولدت حولها ما يمكننا أن نعده ظاهرة اجتماعية وثقافية جديدة. متغيرات في مدينة تحاول أن تخلع رداءً تقليديًّا متقادمًا، متحسسة رُوحًا مدنية تتعرض للاحتجاز. وفي تلك العلامات، تخلّق فضاء حر، ليس فقط بانعدام الحواجز التي تفصل الرجل عن المرأة. إنما بما أضفته من متغيرات وتحولات، أفصحت عن نفسها بنعومة، من دون أن تلغي ثوريتها الكامنة. وبما يضفيه المقهى من أساليب وقيم، يتشكل حوله عوالم واسعة وممكنة للتغيير.
يرصد المقهى طورًا من التحول في صنعاء، سرعان ما جرفه شبح العودة للماضي. ففي حضوره الزمني كعلامة لطور من التحول المدني، كان اختفاؤه مدماكًا لارتداد سريع وقهري نحو عصور ظلامية. لا تشكل المقاهي فقط جزءًا من ذاكرة المُدن لكنها تفوح برائحة الأشياء والكلمات. وتتسع لتشغل حيزًا في الوعي الجمعي للمجتمعات. وبلا شك أن وراء ما تعرضت له المقاهي من عملية خنق في صنعاء، استيلاء جماعة الحوثي على المدينة في عام 2014م.
كانت الشعارات الأيديولوجية المتواشجة مع سقوط العاصمة، تعمل على استباحة الفضاء العام وتدجينه. وبما أن نزوعها للسيطرة، يتعارض مع كل ما هو مدني، بدأت بأكثر رموزها حضورًا. ليس فقط بإخفاء العلامات التي يشكلها حضور المقهى، إنما بما كانت تعلنه من أساليب مدنية عصرية، وتسمح به من مظاهر أكثر انفتاحًا. يمكن قراءة تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية، عند تقاطع شارعي الدائري والجزائر وسط صنعاء. في الوقت الحالي اختفت البوابة المفضية إلى مقهى «كوفي كورنر». ليس بوصفه علامة أو مكانًا. إنما أيضًا بوصفه فضاءً لروح المدنية التي تعرضت للاستئصال مؤخرًا.
جماليات غطّتها الشعارات
هناك حل مكان السور والبوابة المفضية للمقهى، محلات تجارية. لكن هذا التبدل، اتخذ مرحلتين، بدءًا باختفاء واجهة المقهى عند التقاء الشارعين الرئيسين، نتيجة خلاف بين ورثة محل المقهى. ليكتفي الأخير ببوابة خلفية، فاختفت مساحة أمامية توزعت عليها أشجار التنوب بالقرب من الطاولات، حتى إن البيانو بحضوره الديكوري اللافت عند المدخل الأمامي للمبنى، أصبح محشورًا في الهامش. قبل أن يصبح المكان برمته متلاشيًا، كما لو أنه منصة مسرح تحطمت، واختفت مقاعده. كان يمكن استحضار مرآة متخيلة يتشكل على سطحها، بضعة جماليات في المدينة غطتها الشعارات.
ومن وراء هذا المشهد، نرى فضاءً واسعًا تعرض للخنق والتضييق، مارَسَ فيه المثقفون حضورهم. ليس ذلك المقهى فقط، إنما كل العلامات الشبيهة له، بما أنها انعكاس لفورة تحولات، أصبحت موصومة كخطايا. في ذلك المفترق، ارتطمت أزمنة تقاطعت حولها آمال واستعارات الخروج إلى رحابة العصر الحديث. وتحطمت بركام من الإفرازات الشعاراتية، سممت الفضاء المدني وخنقته. وها هي تعمل على قتله. تزامن ظهور تلك المقاهي مع تصاعد حس مدني، وتعبيري، يسعى لفضاء أوسع من الحرية. ففي أكثر من حيز، تولدت منابر اجتماعية وثقافية ومعيشية. وللقهوة أيضًا حس تعبيري متصل بأفكار ثورية. ولعلها توازت مع إرهاصات ثورية، وتفجر الاحتجاجات الشعبية. كما لو أنها تلازمت بمضمونها العام مع تصاعد الحس الثوري. ومع استيلاء جماعات تقليدية على الثورة، وإصابتها بمقتل، تعرض الفضاء المدني إلى الاستباحة. وكان المقهى أهم رموز هذا الفضاء استهدافًا.
روح بربرية
تحيل لنا كتب التاريخ شواهد كثيرة عن مصير المدن، حين تجتاحها روح بربرية؛ إذ تستبيح كل ما له صِلَة بالتحضر والمدنية. وصنعاء شاهد نموذجي في عصرنا على ذلك. اختفت تلك الأماكن التي تختلط برائحة القهوة المحمصة في بعض الوقت. بما تفتحه من فضاء للاختلاط، للنشاطات الثقافية. فقد كانت أيضًا مسرحًا لالتقاء مثقفين، وشكلت منابر للأفكار وفضاءً للحوارات. إضافة لاستضافة بعضها معارض صغيرة، أو ندوات، وأنشطة اجتماعية وثقافية. ولأن فضاء تلك المقاهي أفسح حيزًا واسعًا لتفاعلات ثقافية ومدنية، بما في ذلك قيم اجتماعية متحررة، فإن هذه المقاهي تعرضت لملاحقات الجماعة المسيطرة على صنعاء. وبوصفها خطرًا على شعارها، عملت على وصمها أخلاقيًّا والتشنيع بها. وجرى استهداف تلك المقاهي من خلال حظر الاختلاط. وكان الهدف بدرجة أساسية حظر فضاء مدني يتسع، والعمل على خنقه. وهكذا اندثرت سلسلة من المقاهي. كان مقهى بيت المعرفة، آخر تلك المقاهي التي ظلت تسمح بالاختلاط. فهذا المقهى أتاح فضاءً حرًّا، بما فيه من اختلاط، سمح للشباب باللقاء والتعبير عن أنفسهم، بما في ذلك الغناء في الهواء الطلق في فناء المقهى. لكن مثل بقية المقاهي، تعرضت إدارته لتحذير شديد بإغلاقه ما لم يتم منع الاختلاط فيه.
اختفاء المبادرات الشبابية
وبذلك، اختفت كثير من المبادرات الشبابية، التي كانت تؤسس لنقاشات ثقافية، مناقشة كتاب أو فِلْم سينمائي. لم يكن استهداف المقاهي سوى بداية لاستباحة كل علامات التمدن، بما في ذلك الجامعات. فتحريم الاختلاط كان مجرد ذريعة، لخنق الفضاء المدني العام. وفي هذا السياق، أُعلِنَ عن قرار يحظر الاختلاط في كلية الإعلام بجامعة صنعاء. بموجبه حُدِّدَ ثلاثة أيام من الأسبوع للطلاب، وثلاثة أيام للطالبات. بحيث لا يسمح للطلاب بحضور الأيام التي تدرس فيها الطالبات، أو العكس. وهذا يعني تضييق ساعات الدراسة في كل عام دراسي إلى النصف لكل طلاب الكلية. من ناحية، جسد المقهى بصورة ما ظاهرة لتحولات مدنية شهدتها صنعاء على مدى عقود. كانت امتدادًا لكيانات راسخة مثلتها الجامعة وبعض المنصات الثقافية. وها هي تتعرض للخنق. صحيح أنه لا تزال توجد مقاهٍ تسمح بالاختلاط، وتحديدًا تلك الموجودة في المولات. لكنها على الأغلب لا تتيح الفضاء الذي تتيحه تلك المقاهي التي أغلقت من خلال زواياها الدافئة. ففي ضوضاء المولات، لا يحدث فعل ثقافي أو نشاط، بما في ذلك النشاط المقتصر على مناقشة أفكار أو قضايا ثقافية. مع أنه ليس من المستبعد، أن تتعرض تلك الأماكن إلى حظر الاختلاط. لكنها هذه تبقى هامشية، مقارنة بما سمحت به مثيلاتها المنزوية في مساحات خاصة، تتيح شكلًا من العزلة ضمن أركانها.
لم يقتصر حضور اللقاءات الثقافية على تلك المقاهي. من المعروف أنه منذ ظهور أول مقهى في العالم، تخلقت حوله ثورة اجتماعية. فهناك يوجد رواد من مختلف الطبقات جنبًا إلى جنب. كما أنها تحولت إلى منابر لتداول قضايا ثقافية وسياسية. ولم يقتصر هذا الاختناق على اختفاء المقاهي الحديثة التي سادت فيها الأجواء المدنية الحديثة. إنما أيضًا ألقى بظلاله على المقاهي الشعبية. فهذا وإن لم يكن يسمح بالاختلاط، لكنه أصبح ملاذًا للناس ولنقاشاتهم اليومية. فمثلًا كان حضور المقهى كمنبر ثقافي وسياسي يومي، متصلًا بالمكان. وعلى سبيل المثل كان مقهى عبدالجبار الصلوي في شارع الدائري، وجهة لعدد من المثقفين من الكتاب والطلاب وكذلك أساتذة الجامعة، وبعض السياسيين. كان المقهى مجاورًا لصحيفة الوحدوي، كما أن موقعه الواقع في المنتصف بين مبنى جامعة صنعاء القديم ومبناها الأحدث، وهو ما جعله له مميزات جغرافية مهمة. وما إنْ غيرت الصحيفة موقعها، ومع متغيرات كثيرة، حتى تغير روح المكان مع اختلاف رواده. وبصورة عامة، ضاق فضاء التفاعل العام في المقاهي منذ 2014م. أصبحت النقاشات تُدار بحيطة أكثر. على صعيد آخر لم يعد بالإمكان رؤية الجالسين وبجوارهم حزمة من الصحف اليومية والأسبوعية. اختفت الصحف المحلية من الحياة اليومية، ليس من المقهى فقط، معبرة عن اندثار حقبة عاشتها الصحافة اليمنية. واقتصر الحضور على صحف ذات لون سياسي واحد يمثل خطاب الجماعة المسيطرة على العاصمة. خلافًا لسنوات كان فيها هامش واسع من التعدد وحرية الصحافة.
للمقاهي أيضًا طريقتها في رواية الأشياء، كما لو أنها مرآة لتبدل مجتمع وعصر. فكثير من تلك الملامح المدنية كان يمكنها الصمود في الحرب. لكنها عجزت عن الصمود في مواجهة آلة قمع أيديولوجي، قوضت الفضاء المدني، وحاولت إخضاعه.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق