كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
حيرة وتردد: لماذا لا أنشر أرشيفي من شعر أولاد علي البدوي من مصر؟
سأركز على الحيرة والإشكالية التي واجهتُها حين طَلبَ مني الناشر مراجعة كتابي الأول «مشاعر محجّبة: الشرف والشِّعر في مجتمعٍ بدوي» بمناسبة الذكرى الثلاثين على نشره وذلك لإصداره في عام 2016م. كان هذا كتاب عن دور نوع من الشعر الشفهي يُسمى الغَنَاوة (أغنية قصيرة) كانت تلغيه أو تغنيه النساء وبعض الرجال في مجتمع أولاد علي البدوي الذي عشتُ فيه من عام 1978م إلى عام 1980م ثم مرة أخرى في عام 1987م واستمرت زياراتي لهم بانتظام(١).
كنت قد ذهبت إلى مصر من أجل هذا العمل الميداني الإثنوغرافي المرتبط بأطروحتي لنيل شهادة الدكتوراه للتخصص في الأنثروبولوجيا والاهتمام بالحياة الاجتماعية والعلاقات الجندرية. لم أكن باحثة في الأدب العربي أو الأدب الشفوي ولم يكن لدي أي خلفية تقريبًا عنهما. لكنني اكتشفت أن هذا الشعر الشعبي كان جزءًا كبيرًا من نسيج الحياة اليومية مما اضطرني إلى معرفة السبب. فانتهى بي الأمر بالكتابة عن وظائفه ودلالاته، وبخاصة للنساء اللاتي أعرفهن وتناولن هذا النوع من الشعر الشفهي، الذي وصفتُه في ذلك الوقت بأنه يُراوِح ما بين الهايكو (لأنه قصير جدًّا) والبلوز (لأنه يتناول مشاعر الحزن والفقد ما عدا «غناوات» العرس التي كانت عن الحب والأمل).
حكاية مأساوية وحب تم إفشالُه
في كتابي الأول، «مشاعر محجّبة: الشرف والشعر في مجتمع بدوي»، حاولت أن أفهم كيف استخدم الناس في مجتمع واحد في الصحراء الغربية في مصر، وهي مجموعة قبلية تسمي نفسها أولاد علي ولها روابط تاريخية بليبيا، هذا النوع الشعري الشفهي للتعبير عن المشاعر وبخاصة في السياقات الاجتماعية التي تتعارض من نواحٍ عدة مع القانون الأخلاقي للفخر والشرف الذي كان مهمًّا جدًّا لاحترام الذات والمكانة المجتمعية العامة.
في البحث اللاحق الذي يعتمد على ما توصلتُ إليه في أثناء زياراتي الإثنوغرافية في الثمانينيات، كتبتُ قليلًا عن تداول شرائط الكاسيت لشعر أولاد علي الشفوي، وهي أشرطة تجارية غالبًا ما كان يُعدها الشباب. لقد كتبت مقالًا بعنوان «سياسة متغيرة في شعر الحب البدوي» وناقشت فيه نسخًا غير رسمية من شرائط الكاسيت التي تم تداولها واستعرضتُ ما عرفته من تقدير الناس الشديد لغَنَاوات سجلها شاب وأرسلها إلى ابن عمه، شقيق الفتاة التي كان يريد أن يتزوجها، ولكن والدها وهو عمه منعه من الاقتران بها بسبب خلاف مع والده.
قام الحاج، رب الأسرة التي عشت معها طوال عملي الميداني، بتشغيل الشريط لكي أستمع إليه بينما كان يقود السيارة ليأخذني إلى القاهرة في عام 1985م في طريقي للعودة إلى الولايات المتحدة وذلك بعد زيارتي الأولى لهم، وبعد أن أنهيت رسالة الدكتوراه وحصلت على وظيفتي الأولى.
عرف الناس أن الشاب هو المدعو فتح الله الجبيهي. كان «والدي» متأثرًا، يعلق بينما هو يستمع ثم يشرح لي الدلالات. ومن بين القصائد/ الأغاني ما يلي:
«وعر عليه الصبر/ جرح جديد ما زال خاطري». هكذا كانوا يلقونها على الرغم من أن الشاب غناها على الكاسيت. لقد ترجمت الغناوة في مقالتي. وقصيدة أخرى تقول: «نحسب، يا عزيز المحو يبقى لي دوا بعده زادني».
الشيء المثير للاهتمام حول ذلك الكاسيت -الرسالة التي كان يريد إيصالها إلى حبيبته التي جعلها والدها تتزوج من شخص آخر- هو شعور مضيفي تجاه تأثير الكاسيت العميق، ليس فقط على أولئك الذين سمعوا عن حكاية مأساوية وعن حب تم إفشالُه، ولكن على الشابة نفسها التي قِيل إنها استمعتْ إلى الكاسيت عندما عادتْ إلى عائلتها بعد 15 يومًا من زفافها ثم توفيت.
أروي هذه القصة هنا فقط لكي أقول: إنه حتى في الثمانينيات من القرن الماضي، استُخدمت التقنية لنشر الغَنَاوات خارج المواقف الاجتماعية المعينة والمتمثلة في مشهد إلقائها أو غنائها. في الماضي، كانت الأغاني تنتقل بين الناس شفهيًّا. ما أثار كل من استمع إلى الكاسيت هو معرفة كيف أثر فتح الله في محبوبته بعد وصفه مشاعره الموجعة، وكيف أنه في نهاية الأمر عاقب والدها. فكل ما حدث عبارة عن شريط كاسيت محلي الصنع مُعَدّ لأشخاص معينين ولحالة اجتماعية معينة، لكن تم انتشاره.
السؤال المطروح في هذه الندوة هو: ماذا سيحدث لو كانت لدينا الآن إمكانية رقمية؟ أعتقد أن ذلك سيحول بشكل جذري معاني وقوة الغَنَاوة، وهو أمر كان عليَّ مواجهته عندما طلبَ مني الناشر تحديث كتابي كما ذكرت. أريد أن أشارككم أفكاري حول هذا الموضوع. كنت أتخيل أولًا أنه يجب عليَّ تحديث الكتاب من خلال الكتابة عن التغييرات في المنطقة حيث أصبح أولاد علي، الرعاة السابقون، أكثر انخراطًا في مؤسسات الدولة، في وقتٍ كان الغرباء يشترون الأراضي ويسببون الازدحام في منطقتهم من خلال بناء المنازل والمنتجعات، والمجمعات السكنية المسورة للمصريين الحضريين. كان هذا الساحل الشمالي الغربي لمصر.
كنت أفكر أيضًا في تناول الأخبار التي تربط أولاد علي بقضايا الحدود مع ليبيا، ودعم السلفيين في الانتخابات، لكنني غيرت رأيي عندما ذهبت لزيارة عائلتي في أكتوبر 2015م. لقد استُقبلتُ باحتفال بمناسبة عودتي من قبل جميع الفتيات تقريبًا من العائلة الممتدة التي عشت معها بدءًا من عام 1978م. معظمهن متزوجات ويعشن في مناطق أخرى. كما كان هناك حفلة رائعة لوداع قريبتهم التي كانت ستغادر للزواج من مصري يعمل في الخارج؛ فتلك الحفلة احتفال بقدومي أيضًا.
كان الجميع مبتهجين وتبادلوا أخبار أفراد الأسرة والشؤون السياسية والانتخابات الأخيرة. لقد فوجئت عندما وجدت الشابات يدافعن عن أحزاب سياسية مختلفة ويسخرن من بعضهن (بلطف) على اختياراتهن تلك. ثم في صباحي الأخير، استيقظت على تضرع وضجيج بينما كنا ننتظر بفارغ الصبر أخبارًا من المستشفى عن إحدى الأخوات التي جاءها المخاض المبكر. كانت والدتها (أرملة الحاج) قلقة جدًّا. ودعتِ الله طالبة العون والولادة الآمنة لابنتها. إنه حمل غير عادي بعد انتظار دام عشر سنوات وبمساعدة إجراءات عملية أطفال الأنابيب، شعرنا بالارتياح لسماع الأخبار، الآن بعد أن أصبح لدى الجميع هواتف محمولة، بأنها أنجبت تَوْءَمينِ أصحاء وذهبتُ بصحبة والدتها إلى المستشفى في الإسكندرية.
من الشفهيّ إلى الكاسيت إلى الرقمنة
شعرت الآن بعدم الارتياح تجاه الواجب الذي فرضتُه على نفسي للكتابة عن التغيرات الاقتصادية والسياسية في المنطقة. لن يؤدي ذلك إلا إلى وضع هؤلاء الأفراد، الذين كنت أعرفهم عن كثب ولمدة طويلة وأحببتهم كثيرًا، في سياق المخطط العام- للتحديث، أو ضياع الثقافة، أو العولمة، والأسلمة، أو أي شيء آخر. لقد تبين لي أن هذه التغييرات كانت مجرد خلفية لما يهم- الأشخاص والعلاقات الأسرية. الأم التي ماتت بالسرطان. العمة التي تعاني مرضَ الزهايمر. الانتظار القلق وخيبات الأمل من العقم. الكفاح من أجل الحفاظ على القيم الأخلاقية والروابط القبلية في خضم مجتمع ممتد منظم على أسس وقيم مختلفة عن تلك النظم القبلية والتراث الرعوي لأولاد علي. ما الذي يمكن أن أجنيه من التراجع عن كل هذا وإبداء مثل هذه الملحوظات العامة؟ لمن سأقوم بمسح المشهد وتحليل الأنماط؟
التحفظ الذي لدي حول مشروع تحديث «المشاعر المحجّبة» قد بدأ بالفعل خلال التحضير لزيارة 2015م، التي تعيدني إلى موضوع الشعر الرقمي. لقد عاهدت نفسي أن أُحضرَ لهم، في تلك الزيارة، ليس فقط صور الرجل الذي كان مضيفي، رب الأسرة الذي وافته المنية، بل بعض الأشرطة الصوتية التي سجّلتُها. فعلى مر السنين تلقيت طلبات من زملائي الأساتذة للحصول على نماذج من الغَنَاوات. في البداية كنت أرسل لهم مجموعات قصيرة مسجلة على شريط كاسيت لكي يستخدموها في فصولهم عند تدريس كتبي. ثم تغيرت التقنيات. ولمدة وجيزة، كنت أحيلهم إلى موقع على الإنترنت لإحدى الجامعات في وسط أميركا التي قامت برقمنة بعض الأغاني لتضاف لواجبات طلاب الجامعة الجدد. نبهتني رسائل البريد الإلكتروني القلقة أن الموقع قد تم حذفه. فتساءلت عما سأفعل.
بدأت أتخيل إنشاء موقع على شبكة الإنترنت يتلاءم مع هذه النسخة الجديدة من «المشاعر المحجّبة». بصدق، اعتبرتْ أن هذا قد يكون بمنزلة خدمة، ليس فقط لأولئك الذين يرغبون في إثراء فهمهم عن هذا المجتمع من خلال كتبي، ولكن للأجيال القادمة من أولاد علي. ألن يُثمنون الوصول إلى هذه النماذج الثقافية الثرية؟ حتى إنني بدأت أتخيل أن الموقع يمكن أن يحتوي على روابط لكتاباتي الإثنوغرافية حول هذا المجتمع، وبخاصة الترجمة العربية لكتاب «المشاعر المحجّبة»، التي يكاد يكون من المستحيل العثور عليها. أخرجت من درج الملفات السفلي صناديق مليئة بأشرطة الكاسيت القديمة ذات الأغطية البلاستيكية المشروخة وعليها بعض العبارات المخربشة. بدتْ فجأة هذه الأشرطة القادمة من أواخر السبعينيات والثمانينيات التي اختلطت برسائلي الشخصية ودفاتر الكلية القديمة ليست جزءًا من حياتي الماضية فقط وإنما كأرشيف. فهل مسؤوليتي أن أجعلها متاحة للجميع؟
أصوات من الماضي
لقد عملت على ترقيم الأشرطة وفهرستها بمساعدة معيد في الجامعة. لكن فيما بعد، بدأت الشكوك تتسلل عندما بدأتُ في الاستماع إلى الأشرطة الرقمية. تدفقت تلك الأصوات المألوفة. لقد غمرني الحنين إلى الماضي. كان من السهل التعرف إلى أصوات المتحدثين حتى بعد كل هذه السنين الطويلة. بالإضافة إلى القصائد والأغاني والحكايات الشعبية التي طلبتها بالتحديد وكان الناس سعداء جدًّا للسماح لي بتسجيلها، كنت أحيانًا ألتقط شذرات من محادثات يومية تتداخل في أثناء التسجيل. حيث كان هناك جدل عابر أو نقاش فضيحة. لقد اتضح لي حتى الآن، بعد خمسة وثلاثين عامًا، وبعد أن توفي العديد من المتحدثين، ونضج أو كبر آخرون، أن أقارب وأطفال الذين تم التطرق إليهم لا يزالون موجودين. بالتأكيد كانت هذه مادة حساسة جدًّا لا يمكنني مشاركتها مطلقًا.
لقد أُجبرتُ أن أرى أن نشر هذه الأشرطة على أنها «أرشيف» قد يتحول إلى إشكالية، حتى لو كانت فقط غناوات أو شعرًا. تم تأكيد هذا الحدس من خلال ما حدث عندما قمت بتحميل بعض الملفات الرقمية على ذاكرة بيانات لإحضارها إليهم في أثناء زيارتي. كنت حريصة على فصل التسجيلات التي سجلتها للحاج، والدي المضيف، عن بعض تسجيلاتي للنساء والفتيات اللاتي كن يغنين في أعراس، ويروين القصص، ويرددن الغناوة. مثل ألبوم الصور الذي رتبته وأحضرته في وقت سابق، بعد وفاة الحاج مباشرة، كانت تسجيلاته تحكي قصة حادثة في أثناء جمعه للخردة المعدنية بعد الحرب العالمية الثانية، وترديده لبعض الغناوات؛ مما أثار اهتمام الجميع. كان من الغريب سماع صوته مرة أخرى في هذه الأسرة. لقد تعلمتُ شيئًا جديدًا عندما عَلقَ الناس بأن غناوة الحاج، تلك التي سجلها سرًّا في غرفته في إحدى الأمسيات، كانت رثاءً لابن عم قُتل. كانت تلك الوفاة جرحًا مؤلمًا لجميع أفراد الأسرة الممتدة، وهذا الفقد كان معروفًا في جميع أنحاء المنطقة. أدركت حينها أن هذه مشاعر أيضًا ومن المربك كشفها أمام العالم. ما الذي ستثيره هذه الأغاني؟ وما الالتزامات القانونية؟
أخذ أبناء الحاج وأبناء أخيه ذاكرة البيانات التي تحتوي على كلمات الحاج والأغاني ليقوموا بتشغيلها للآخرين في غرفة الضيوف (ماندارا). لم يكونوا مهتمين بتسجيلات النساء، ولم يتصورا تشغيل أغاني الزفاف في تلك الجلسة. إنهم يعتبرونها غير لائقة كما هي الحال مع أي تطرق للجنس في الجلسات المختلطة. عندما جاء صديق قديم ورفيق من عائلة الحاج لرؤيتي وجلس معي وأرملة الحاج، طلبتُ رأيهما. ذكرت أنني كنت أتساءل عن تحميل الأشرطة على الإنترنت حتى تتمكن الأسرة من الاطلاع عليها. كان رد فعل الصديق مبدئيًّا إيجابيًّا «بالتأكيد، يمكنك فعل ذلك بأشرطة الرجال». وأضاف، «لكن بالطبع ليس النساء».
وافقت «والدتي». كانت تعلم أنني كنت أعرف لماذا هذا غير مناسب، على الرغم من أنها لم تكن تعرف ما الإنترنت. وفي وقت لاحق، عندما استشرتُ إحدى بناتها حول نشر التسجيلات، بالإضافة إلى نسخة من الترجمة العربية لكتابي التي لم تعد متوافرة (لأنها سألتني للتو إذا كان لدي نسخة أخرى)، قالت: يجب ألا أفعل ذلك. كان الجميع يعلم أنني عشت مع عائلتها وبالتالي سيتم التعرف إلى الأشخاص.
تفكيك التعميمات وفضول الغرب
لقد كتبتُ الإثنوغرافيا الثانية، «كتابة عوالم النساء: قصص بدوية» عن أولاد علي لأنني شعرت أن «المشاعر المحجّبة» كان عملًا منهجيًّا، و«أنثروبولوجيا» أيضًا(٢). في الكتاب الثاني، استخدمت قصصًا حميمة من الحياة اليومية لتفكيك التعميمات حول منظومة القرابة ورمزية الشرف في المجتمعات العربية. لقد وضعت الأفراد في ظروف تاريخية متغيرة وأظهرت أنهم يجادلون ويختلفون مع بعضهم الآخر. كان هذا لتجنب الانطباع السائد عن التجانس. كانت لدي شكوك حول هذا الكتاب الكاشِف جدًّا، على الرغم من أنني كنت أعرف مدى الجهل المنتشر حول هذه المجموعة القبلية، سواء في مصر الحضرية أو في «الغرب».
لقد ازدادت شكوكي بشأن ما تم الكشف عنه في كتبي. إن واجبي المفروض على الذات تجاه المعرفة أصبح أجوف. لماذا يجب عليَّ إرضاء فضول الغرباء حول ما حدث لهذا المجتمع؟ شعرت بالاستياء تجاه المسؤولية التي شعرتُ بها لعقود من الزمن، ومن خلال الإثنوغرافيا المتعاطفة والحذرة، في محاربة الآراء السلبية التي يتبناها الغربيون حتى العرب الآخرون الذين يجهلون هذه الطريقة في العيش بعد هذه الزيارة لهم في عام 2015م، بدأت أتساءل عن رغبتي النبيلة في المساهمة في خدمة الأجيال القادمة من أولاد علي من خلال إتاحة أرشيفي وهذا السجل الخاص الذي يوثق الطريقة التي عاشوا بها في السبعينيات والثمانينيات. تلك النماذج من الغناوة التي قمت بتحليلها في «مشاعر محجّبة» وضمنتها فيه كانت تُلقى في سياقات اجتماعية معينة فقط. ومع ذلك، في هذه الكتب، توجد غناوات وهي متاحة للقراء. وإذا كنت سأقوم بنشر الأشرطة الرقمية، فستكون هي الأخرى متاحة لأي شخص يسمعها، وستكشف عن المشاعر الذاتية التي كان من المفترض أن يتم إيصالها فقط لأشخاص معينين في سياق محدد.
لذا فإن الأسئلة التي أود طرحها في الختام حول رقمنة الشعر الشفهي هي تلك التي نطرحها الآن نحن العلماء في الأنثروبولوجيا على أنفسنا، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى تحديات إنهاء الاستعمار في تخصص الأنثروبولوجيا: ما الغرض من بحثنا ولمن؟ كيف نرد الجميل كما ينبغي للمجتمعات التي تشاركنا عوالمها؟ إذا فكرت في رقمنة الشعر الشفهي الذي جمعته في سياق العمل الميداني الإثنوغرافي وجعله متاحًا للجميع ونشره لجماهير متنوعة، فما الذي أتمنى ويتمناه آخرون مثلي أن أكسب من فعل ذلك؟ هل نقوم بذلك كمساهمة للبشرية- مثل مشروع التراث الثقافي العالمي لليونسكو؟ هل سنفعل ذلك ليكون لدينا سجل قيّم لأنواع الشعر العربي الشفهي؟ هل سنجعل هذه القصائد متاحة للدراسة والتحليل أو للترجمة أو للمحافظة عليها وأرشفتها للمستقبل لأنها نوع يحتضر تم استبداله بأشكال جديدة، بما في ذلك موسيقا البوب وغيرها من الثقافة الشعبية المنقولة للجماهير؟
من الذاتي إلى الفضاء العام
نشأ التردد من رد فعل أصدقائي الذين أطلعوني على هذه القصائد تجاه ذاكرة البيانات، كما وصفتُ، وسأردُّ على موضوع الرقمنة: من شأن الرقمنة ونشر المادة على قطاع واسع أن يصحبها تعدٍّ على الحدود الاجتماعية، من خلال السماح للغرباء بالاستماع إلى ما كان من المفترض أن يكون حميميًّا ومتداولًا بين الأقارب والأصدقاء، وجعل الرجال يستمعون إلى قصائد النساء في مجتمع يحترم ويقدر الحدود الاجتماعية ما بين الجنسين.
نظرًا لأن هذه القصائد أو الغناوات لم يتم إلقاؤها من شعراء معروفين أو أنها منسوبة إليهم، فما الذي يعني أن تتم رقمنتها وجعلها مشاعة في الفضاء العام، وهي التي كانت لأفراد يوظفونها في سياقات معينة ليقولوا شيئًا معينًا، وللتعبير عن المشاعر التي من شأنها أن تحرك الآخرين وتؤثر تبعاتها في مجرى المواقف كما في مثال شريط كاسيت فتح الله؟ ماذا يعني أن يتم تجريدها من سياقاتها والكيفية التي اعتاد الناس أن يستخدمونها للتعبير عن أنفسهم والتواصل مع الآخرين؟ كما أنني قلقة بشأن الطابع الذاتي لهذه القصائد وما يعنيه نشرها في الفضاء العام؛ إذ من الممكن التعرف إلى الأشخاص من خلال أصواتهم في أثناء الاستماع إليهم، سيحدث ذلك على الأقل بالنسبة للمجتمع المحلي في مصر. كما قالت أختي: «الجميع يعرف أنك كنت تعيشين مع عائلتنا».
يمكنني مواجهة مخاوفي بأساليب عدة من خلال إبعاد السياق ونشر ما كان الناس يقصدون أن يكون شبه خاص أو بصوت موسيقي خفيض، ومخصص للسياقات الاجتماعية والأحداث والأشخاص.
قد أقنع نفسي أنه مع مرور الوقت، لن يمكن التعرف إلى الناس. أعتقد أن بعض قصص الحب الجميلة التي سمعتها كان فيها اقتباس (وأفضل جزء من هذه الحكايات) من غناوة أو أي شكل شعري آخر. ربما كان هؤلاء أيضًا أشخاصًا حقيقيين يعرفهم الآخرون، لكن قصائدهم تحيا وتثير عواطف من يسمعها اليوم لدرجة أنه تم حفظها شفهيًّا. فلماذا لا يتم حفظها رقميًّا وأرشفتها؟!
يمكنني أيضًا أن أطمئن نفسي إلى أن إتاحة الغناوات للآخرين من خلال رقمنتها سيمنحها وظيفة رائعة للآخرين كما كانت لي، وكما كانت للأشخاص الذين ألقوها واستمعوا إليها. هذا الشكل من الشعر الشفهي، الغناوة، يفتح احتمالات جديدة للإحساس والتفكير والعمل؛ مما يمنحنا تثقيفًا عاطفيًّا بالطريقة التي يقوم بها الشعر دائمًا، وأعي أنني ألجأ إليها أحيانًا للتعبير أو لبلورة ما أشعر به.
أتذكر أنه في حفل زفافي، قبل 34 عامًا، تمنيت كثيرًا أن يكون أصدقائي من أولاد علي حاضرين؛ لذلك قرأتُ شيئًا من الغناوات التي اعتقدت أنهم ربما يغنونها في تلك المناسبة، متمنين للعروس التوفيق. وينطبق هذا أيضًا على النساء والرجال الذين يعرفون هذا الشعر: فهو صيغ وتراكيب معينة وبالتالي فهو في بعض النواحي غير شخصي لهم أيضًا- فهم كذلك معجبون به ويحبونه بسبب قوته المؤثرة. ما أثار اهتمامي وطرحته في كتبي هو كيف جعلوا الغناوة شخصية ووظفوها في المواقف الاجتماعية للتواصل؟! ولكن من المؤكد أن مشاعرهم الإنسانية وفهمهم للحب والفقد قد تشَكلتْ وامتدت وصيغت بطرق معينة من خلال مخزون هذا الشعر الشفهي. هذا بالتأكيد هو الحال مع الفنون الكلامية في كل مكان، حتى في موسيقا البوب.
وأخيرًا، ما زلت أتساءل عما إذا كانت رقمنة هذه الأنواع وغيرها من الأجناس الشفوية من الشعر والحكايات الشعبية التي سجلتها منذ زمن طويل، على عكس الكثير الذي كتبته فقط صوتيًّا في دفاتر الملحوظات الميدانية الخاصة بي، ستكون في الواقع ذات قيمة؛ لأن هذا سيحافظ عليها كمادة شفهية، فهذا التراث كان دائمًا شفهيًّا يردده الناس فيما بينهم. لم تكن الكلمات فقط، ولكن الطرائق التي تُلقى أو تُغنى بها هي ما يهم. هل هذا يستحق الحفاظ عليه؟
سأكون ممتنة لبعض التوجيه حول ما يجب أن أَفعله أخلاقيًّا مع مئات من الغناوات المكتوبة والمترجمة تقريبًا التي جَمعتُها بين عامي 1978م و 1987م تقريبًا، وأَدرجتُ بعضًا منها فقط في كتابي «المشاعر المحجّبة»، و«كتابة عوالم النساء». والأهم من ذلك، ماذا عليَّ أن أفعل بالتسجيلات الرقمية الموجودة الآن على قرص بيانات، في درجٍ، بسبب ترددي.
*أكاديمية سعودية، درّست في جامعتي هارفارد وكولومبيا.
هوامش:
(١) تُرجم كتاب ليلى أبو لغد ونُشر باللغة العربية مع تغيير في العنوان الذي بالإمكان ترجمته إلى: «مشاعر محجّبة: الشرف والشعر في مجتمعٍ بدويٍّ» وهو ما استخدمته في النص. انظر: ليلى أبو لغد، أولاد علي، مشاعر محجبة: دراسة حول الدور الحيوي للشعر وتحليل دور المرأة في مجتمع أولاد علي في مصر. ترجمة أحمد جرادات. (القاهرة، نور- دار المرأة العربية، ١٩٩٥م).
(٢) Abu-Lughod. Lila. Writing Women’s Worlds: Bedouin Stories. Berkeley: University of California Press, 2008.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق