كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
علي جعفر العلاق وسيرته الشعرية
نمضي مع قصيدتنا: فإلى أين تأخذنا، وأين تنتهي بنا؟!
منذ العتبة الأولى، عنوان الكتاب «إلى أين.. أيتها القصيدة؟ سيرة ذاتية»، يلقي بنا الشاعر والناقد والأكاديمي الدكتور علي جعفر العلّاق (1945- ) الفائز بجائزة الشيخ زايد لهذا العام 2023م، في مهب عاصفة من الأسئلة الصعبة، فسؤاله «إلى أين؟» يحتمل وجوهًا متعدّدة، وقد تكون متباعدة حدّ التناقض. ولكلّ قارئ قراءته. فما الذي يريده الشاعر من هذا الغموض في سؤاله؟ هل نحن حيال سؤالٍ عن «إلى أين وصلنا؟»، أم «إلى أين نحن ذاهبون؟»، وربما «إلى أين المصير؟» ولعلّ من اليسير على القارئ إحالة «أين؟» إلى «متى» ليغدو السؤال أشد التصاقًا بالصبغة الوجودية «إلى متى أيّتها القصيدة، وماذا تريدين؟ وماذا نريد منك نحن؟». وهو ما يمكن أن نتبيّنه في نهايات هذه السيرة، حين يجد الشاعر نفسه في حالة تفرّغ تام/ شبه تام لقصيدته هذه، بعد انتهاء تجربته الأكاديمية، التي بدأت في جامعة صنعاء واختتمت في جامعة الإمارات/ العين.
في هذه السيرة/ الكتاب (الحاصل على جائزة الشيخ زايد للكتاب، منشورات «ناشرون الآن»، عمّان، 2023م)، يبدو النزوع واضحًا لتأكيد غلبة التجربة الشعرية، وتغليبها على كل العناصر والملامح التي صنعت تجربة العلاق ورحلته الحياتية والإبداعية. الرحلة التي يرسم الشاعر ملامحها هنا، على قدْر من الغِنى والتنوع بحيث يصعب الإلمام بأزمنتها وأماكنها، بأشخاصها أو وقائعها، لكننا سنحرص على نقل روح هذا النص وجوهره. فنحن حيال نص متلاطم المياه بحركته وأمواجه، شِعرًا ونثرًا، وصْفًا وتصويرًا، بواقعية شديدة حينًا، وتخييل يبلغ حدود الفانتازيا أحيانًا. نص متماسك جسدًا وروحًا، ويعكس روح الشاعر وينابيعه: فالقرية، الطفولة، الحلم، والخيال…، وغيرها من المثاليات، هي «صانعة» الشاعر وصنيعه في آنٍ واحد، وهي ما سنسلط الأضواء عليها أكثر من سواها، خصوصًا والكتاب يحمل عنوانًا مرتبطًا بالقصيدة.
بدايات وأرقام
ولو شئنا قراءة بالأرقام لمسيرة هذا الشاعر وسيرته، فإن اللافت هو التأخر في نشر الكتاب الأول؛ فعلى الرغم من أنه كتب الشعر في سن مبكرة، فإن مجموعته الشعرية الأولى صدرت في بيروت- وليس في بغداد- عام 1973م، لكنها كانت البداية القوية له، فقد دخل بها الحياة الثقافية العربية وتعرف إلى أبرز الفاعلين فيها. وتزايدت منجزاته في أوقات متقاربة. وتجلى منجزه الشعري في ثلاثة وعشرين كتابًا، فيما تجسدت التجربة النقدية خصوصًا، والنثرية عمومًا في أحد عشر كتابًا، موزعة من حيث جهة الصدور بين خمس عواصم عربية هي: بغداد وبيروت والقاهرة وعمّان ودمشق.
في خمسة أبواب، وعدد من الفصول في كل باب، يفتح العلّاق خزائن ذاكرته وثقافته ووعيه، لتنثال الذكريات مصحوبة بالتأملات والشطحات. وينطلق الشاعر، في الباب الأول من فصل «واسط، والحَجّاج، وأخيلة الطفولة»، من مدينته واسط، ومسقط رأسه في إحدى قراها، راجعًا إلى مؤسس المدينة الحجّاج بن يوسف الثقَفي، منذ رأى «حقلًا من الرؤوس يانعًا، وفي لحظة قِطافه تمامًا»، وانطلاقًا من صفة «الطاغية» التي وسمت شخصيته، وأهم أسباب تأسيسه لـ«واسط» واتخاذها عاصمة. فقد «كان اقترانها بفائض الاستبداد كبيرًا؛ فهي مدينة لم يؤسِّسها «طلّاع الثنايا» تلبية لنداء الحياة أو الرغبة في إنعاش مدياتها. بل لتجسد واحدة من أكثر فترات القسوة في التاريخ».
الشِّعر أولًا، والشِّعرُ دائمًا
يبدأ العلّاق ارتباطه بالكون والحياة، من أسرته الصغيرة، الأم والأب وتأثيرهما فيه، ثم من حدود قريته، وبالتحديد من «عاقول البراري أو نكهة الحقول الفوّاحة»، أي أننا حيال البيئة والطبيعة والفصول ومناخاتها، ونوع العلاقة معها «الخريف، والبدايات الأولى للرعد والمطر وقطاف الثمار. ولا أزال أتذكرها بحنينٍ شجيّ. بساطة أقربُ إلى الفقر، وتفاصيلُ عصية على النسيان»، أو قوله: إن ثمّة «خيطًا خرافيًّا، دافئًا ونحيلًا، ما زال يمتد بيني وبين تلك القرية وأكواخها الطينية الصابرة»، وهذه من الصور التي يمكن اعتبارها مصدرًا لقصيدته، التي تتعدد مصادرها وتتنوع منابعها مع مدى أسفاره وتجواله، بدءًا من انتقاله إلى بغداد، مرورًا إلى لندن للدراسة الجامعية العليا (الدكتوراه التي خصص رسالتها لتقديم تصوره عن البياتي)، فاليمن ثم أوربا والسويد والإمارات المتحدة وغيرها، وصولًا إلى تركيا حيث يقيم في شقة صغيرة مطلة على غابة ومتنزه، بعد استحالة العودة إلى عِراقه (هو). عِراقه الذي صارت العودة إليه حلمًا مستحيل التحقق.
مصدر آخر من مصادر التربية الثقافية، وبزوغ الموهبة لدى الشاعر، يتجسّد في الأسرة ممثلة في الوالد الذي سيشكّل النموذج المُحتذى لدى الابن، والوالدة ذات المواهب في قول الشعر الشعبي وحفظه وترديده للطفل، والوضع المادي المتوسط للعائلة حيث الوالد في طبقة وسطى بين ملّاك الأراضي والفلاحين العاملين كما العبيد. وكذلك جاءت «الهجرة» إلى المدينة (العاصمة بغداد) لتشكل صورة من صور التغريب عن «المكان الأول» الحميمي والدافئ، ولكن للمدينة عوالمها الساحرة أيضًا، حيث سينخرط الشاب في علاقات جديدة، وينمو في وسط ثقافي تفتقده القرية وريفها الساحر.
ومنذ أيامه الدراسية الابتدائية فالمتوسطة والعليا، سيبدأ بزوغ نجم طالب متميز وشاعر واعد بموهبته في كتابة الشعر بالعامية، قبل التحول إلى قصيدة الأوزان الخليلية، ثم السيّابية. رحلة يسردها صاحبها بقدر عالٍ من التأني المتأمل لكل خطوة ومسار. تليها مرحلة بدايات النشر في الصحف والمجلات المحلية، وعلى وجه الخصوص مجلة «العاملون في النفط» التي كان يشرف عليها الروائي والشاعر والمترجم الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، وهو الذي، مع غيره، سيلعب دورًا مهمًّا في تقديم الشاعر العلّاق إلى الوسط الثقافي.
ولتكريس الشعر والحالة الشعرية، نجد العلّاق في مواقف كثيرة يستنجد بمقاطع من قصائد تعزز حالة ما، أو تفسر هذا الموقف أو ذاك. فهو مثلًا يقول: «تشدّني إلى الماء، منذ طفولتي، رابطة خاصة: شيء ما، أو قوة خفية لا تدخل دائرة الإدراك أبدًا، بل تظل، هناك: في الجذر، أو في قاع البئر، أو ظلمة اللاوعي. لتشكل جزءًا بيّنًا من شخصيتي واتجاهات سلوكي ربما»، ويسارع إلى مقطع شعري يعزّز موقفه هذا تجاه الماء، فيقتطف: «يا ماءُ، يا أيهذا البهيُّ، العصيُّ، الحنونْ/ لغةً كنتَ لي، حينما اخشوشنَ/ الآخرونْ..». أو قد يصف ليلة يفيض فيها النهر ويأخذ البيوت والأطفال، فيقول «وهكذا امتلأت أحلام الأطفال بالماء الطيني والصراخ، وكنت أوشك أن أكون، في تلك الليلة، واحدًا من أولئك الأطفال الغرقى. وبعد ذلك بسنوات طويلة اقتحم هذا المشهد عليَّ أحد نصوصي: تُرى لو مضى النهرُ حتى يتمَّ حماقتَهُ.. أيّنا كان يبلغُ أقصى النهاياتِ/ وأيٌّ سيبقى رهينَ الزبدْ؟». وإذ تحتل القرية، وحياة الريف عمومًا، وفي أي مكان يذهب الشاعر إليه في العالم، الحيز الأوسع والأعمق من هذه السيرة، فإن هذا يفرض ويولد لغة ذات طبيعة شعرية وانتماءٍ شعري، حتى في المقاطع السردية الوصفية الطويلة، يبقى الشاعر شاعرًا ومسكونًا بروح الشعر، بجوهره وفلسفته الجامحة والطامحة إلى «شَعْرنة» العالم، حيث الحياة من دون الشعر تفقد نضارتها ونسغ حيويتها وانطلاقها، ولا حياة خارج الشعر.
حتى وهو يعود إلى القرية متأخرًا، فإنه يعود إلى الطفولة، إلى الفرح والشعر والحياة «كانت أحاسيسي متزاحمة، جياشة. لم أكن أقود سيارتي على طرق أرضية، من حجر أو تراب. بل كانت تندفع بنا، أو بي على الأصح، مأخوذة بنداءات غامضة كانت تهبّ علينا من كل صوب… كنت أتخيلها أجمل القرى وأكثرها عذوبة؛ تسترخي بمحاذاة دجلة». ولعل في تجربته الشعرية عمومًا هذه الروح المسكونة بالريف ومكوناته، أي هذا «المزيج من الإيقاع والكلمة والحركة، يذوب في أعماق ذلك الطفل الذي كنته آنذاك، ثم ينسرب إلى ذاكرته ومخيلته، ويضفي على لغته، لاحقًا، ما يتلبّسها من جسدية ودفء وانفعال يقيها خطر الانزلاق إلى التجريد واللغة الناشفة».
الغجر حياة مختلفة
وكما لو كان يكتب عن غجر لوركا، يكتب عن غجر قريته وفضلهم الذي لا ينسى على تجديد أيام القرية: «كنا نظنهم معروفين في قريتنا والقرى المجاورة فقط. فمن أين لنا، نحن الأطفال آنذاك، أن ندرك أن هذه المجاميع من البشر كانت تجوب العالم كله تائهة مشتتة منذ زمن طويل. مواطنون عالميون. يمتهنون التشرد أو الغناء والرقص، وبيع اللذة، أو اللصوصية أحيانًا. لهم وطن شاسع ومليء بالحرمان، يمتد من الصين وجنوب شرق آسيا والهند وإيران إلى أميركا مرورًا بأوربا الشرقية والغربية». وكي لا يبدو «طهرانيًّا» تمامًا، فإنه يتوقّف عند ما يرى فيه «ذروة المتع الحسيّة وأشدها خفاءً: جسد المرأة». ويصف مشهدًا لا يمكن تصديقه «ينبري الرجال للعزف، بينما تندفع النساء في الغناء، والرقص، ومعابثة الرجال بأكثر الحركات إثارة. قد يعزف الغجري حتى تدمَى أصابعه، لامرأة تتلوى بجسدها أمام الليل والأحداق الملتهبة. وقد تكون هذه المرأة، في الغالب، ابنته، أو شقيقته، أو زوجته!».
هذه ملامح أساسية في تجربة الشاعر وسيرته، وعناصر أولى في مكونات روحه المشغولة بالعذابات والغبطة معًا، وعلى الرغم من حضور الجوانب الأخرى من التجربة، سواء النقدية أو الأكاديمية، وهي أيضًا معجونة بالروح الشعرية ذاتها، فالأجدى هو ترك تلك الجوانب لقراءات أخرى مختلفة ومتخصصة. ولذا نكتفي بهذا القدر من القراءة، وحتى نترك لقارئها متعة استكشاف تفاصيلها الأغنى وشاعرها الأشد عذوبة. فهو، أخيرًا، شاعر «من جيل الستينات وليس منه»؛ لأنه يرفض الأيديولوجيات وصراعاتها المقيتة.
المنشورات ذات الصلة
جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة
احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية...
عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!
لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن...
حاز جائزة الملك فيصل في خدمة الإسلام… محمد السماك رجل الحوار والعيش المشترك
قبل أسابيع حصل الأستاذ محمد السماك على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام. وقد قابلته لأول مرةٍ فيما أذكر عام 1980م في...
0 تعليق