لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
البترا بلاغة الحجر
البحر الميت، أولًا
اليوم نبدأ الطريق إلى «البحر الميت». سائقنا «شبْسو» الأشقر القصير المتحفّز مثل قط أريب، يشرح لنا التاريخ العريق للمنطقة، من دون أن نطلب منه شرحًا. لكأنه يتمتّع بالكلام عن أشياء لم يعد لها وجود إلا في رؤوس الآخرين، ومنها رأسه هو أولًا. يشرح ببساطة ومن دون انفعال وكأنه يقرأ الماضي في كتاب. وأنا لا أحب الشرح عندما تكون لدي رغبة في الكتابة. فصبرت، قبل أن أنفجر.
الشمس ساطعة. السيارات تتسابق بجنون. الفضاء شجر وتراب: هضاب تليها هضاب. وفي البعيد يبدو الضوء أصفر رائقًا، والأفق بلا تيه. لكن الأرض تبدو، مع ذلك، عصية على الإدراك. لكأنها لا تريد أن تفشي أسرارها. هضابها المتعاقبة بلا انقطاع تخبئ مرائي الكون القصية، وتجعلنا محدودي البصر، وكأننا ننظر تحت أقدامنا. ويبدو لي أن: «عَظَمة الكون لا تُدرَك إلا بالسفر». الانتقال من مكان إلى آخر هو الذي يفتح أبصارنا على العالَم. هو الذي يجعلنا نعيد النظر بما نحن عليه من بلادة وسكون. السفر هو ميزة الكائن الحي. وهي ميزة لا بديل له عنها إذا أراد أن يكون جديرًا بالوجود. وهذه الهضاب التي لا تكف عن التلاحُم لا توحي بغير ذلك. لكم أحب أن أمشيها على قدمَيّ! ولكن كيف؟ ويخطر لي، على الفور، أن الأساطير الإنسانية الأولى ما هي إلا أساطير المشّائين الأوائل، أولئك الذين أكلوا الأرض وما تحويه مَشْيًا. وسيكون الجواب بديهيًّا على السؤال: كيف نفهم الأرض إنْ لم نَسِرْ عليها؟
على ضفة نهر الأردن، أقف مليئًا بالعواصف والأعاصير! نهر صغير تغطيه الأشجار المتلاحمة مثل جنود شجعان: غَرَب، وزَلّ، وصفصاف، وأشجار أخرى لا أعرف لها اسمًا. المنظر آسِر، ومثير للخيال، حتى إن التعميد فيه يبدو في متناول القلب. بعد مدة طويلة من التأمّل والصمت على ضفة هذا النهر التاريخي الذي تتجاوز أسطورتُه حجمَه كثيرًا، نبدأ المسير من جديد.
على الطريق الذي أمّه السيد المسيح نمشي. وعلى ضفة النهر الذي عمّده فيه يوحنا المعمدان، نقف. الخلق الواقف، مثلي، كله، يحيط بالمكان الأسطوري من دون أن يطوله أحد منا. شيء غامض يحمي الأمكنة التي أصبحت بمرور الزمن أسطورة منيعة على الاحتياز، وكانت، من قبل، متاحة للجميع. هذا هو فعل التاريخ الذي سحرنا بأماثيله؟ بلى! هو هكذا، الآن، مهما فعلنا.
في «غور الأردن»، الشمس في السمت. الفضاء المحيط بنا يتوارى بهدوء عن الأنظار. يغدو، فجأة، بعيدًا ومبهمًا. نهر الأردن الأصفر البطيء الجريان يتابع سيَلانه الصامت الحزين نحو مصَبّه القريب. ضفافه لا تزال تأْوي بعض تلامذة السيد المسيح الذين يُعمّدون فلول السائحين الراغبين في مقشة مبلولة بمائه الثخين. وهو يبدو فخورًا بذلك. لكأنه وُجِد منذ الأزل من أجل أن يتعمّد «الصالحون» بمياهه النادرة القليلة. ذلك هو نهر الأردن الصغير المسالم الذي يبدو راسخًا في واديه الأثير من أجل نَشْر المحبة والسلام.
على الأقدام، نتابع السير مسافة طويلة تحت سطوة شمس «غور الأردن» الثقيلة. بين أشجار كثيفة، وحشائش أشدّ كثافة، لا تسمح بمرور الريح إلينا، نسير مثقَلين بأجسادنا. نرتاح قليلًا، وبشكل متواتر، قبل أن نصل إلى حيث ينتظرنا «شبسو» سائقنا «الفقيه» بالتاريخ. وقبل أن يتكلم، أقول له «بلطف سائح» من الحر والرطوبة: «من فضلك، الآن إلى البحر الميت». ونبدأ المسير صامتين.
على ضفة «البحر الميت» نتوقف لمدة طويلة. وأصير أتأمّل العالم حولي صامتًا ومرتبكًا. في البعيد لوائح التاريخ المرقونة على الضوء تبدو في بهائها. لكأن كِتاب التاريخ لم يغلق قط، أو كأن التاريخ نفسه لم يكف عن الكتابة فيه. وأكاد أوقن «أن أساطير التاريخ لا تزال تحرّك العالم». على ضفة «البحر الميت» الذي لا يزال حيًّا بالرغم من القرون العديدة التي انطوت منذ بدء الخليقة، أرى الكون وكأني أراه للمرة الأولى! العالم يتغيّر معناه، بتغيّر الأمكنة، مثل الطعام الذي نلتهمه جوعى، أو نأكله بفتور، وبلا شهية. وشهيتي لرؤية العالم من هذه النقطة التي أقف فوقها الآن لا حدود لها. لكأنني لم أرَ من قبل شيئًا! أيكون ذلك بفضل سحر التاريخ الذي ادخرَتْه نفسي منذ البدء من دون أن أتحقق منه، من خطئه، أو من صوابه؟ وما هي ضرورة التحقُّق، أصلًا؟
«البحر الميت»: شمس، وملح، وماء. عرازيل فارغة تنتظر المجهول. آماد بلا حدود، وتواريخ مرقونة على وجه الكون أنّى نظرت. أماثيل تتدلّى مثل عناقيد العنب في فضاء البحر السجين من دون أن يطلبها أحد! «البحر الميت» بحيرة مالحة محصورة بين جبال الأردن. وتاريخ هذه الهضاب الجبلية الفاتنة التي تحيط به لا يختلف عن تاريخ مائه المالح الخاتل في أعماق الكون. الماء يبدو ساكنًا أمامي وكأنه موضوع في قارورة عملاقة مغلقة بإحكام. البحر مسجون. إنه سجين القاع الذي لا خلاص له منها. ومع ذلك أحس أن «البحر الميت» ليس ميتًا على الإطلاق.
حوله، هضاب تتلو هضابًا. هضاب مرصوفة حتى الأفق البعيد الذي يبدو قريبًا وكأنه ينبع من العين. لكأن الكون كله يتكوّم فوق ظهر البحر الميت. لكأنه يريد أن يخنق هذا البُحَيْر المسالم والمعزول! بالقرب منه، يقع الطريق إلى جبل «يَنْبو»، حيث عاش النبي «موسى». طريق يمر بآلاف الهضاب الصغيرة والودْيان. الفضاء ساحر بطبيعته ومهيب. لا يحتاج إلى أساطير إضافية ليكون فاتنًا. ومن حول الهضاب المتلاحمة تتشامخ جبال صُفْر جَرّدها النوء القاسي من كل شيء ما عدا صخورها التي تتفتّت من شدّة الحرّ. جبال جُرْد لكنها مليئة بالأسرار. ولكن أيّ سرّ يمكن أن تدركه العين العابرة في هذا الفضاء المتدَثِّر بالتاريخ؟ انظُرْ! أخاطب مَنْ هو أنا، وأضيف في أعماقي التي اهتزّتْ: «اسكتْ! لندع الكون يتحدّث عن نفسه»، ولْنتابع الطريق.
الآن، البترا
اليوم، يوم جمعة. عمّان هادئة. شوارعها خالية. الشمس رحيمة في صباح عمّان هذا اليوم، ونحن نبدأ الطريق إلى «البتْرا». دائمًا نحو الجنوب نسير. ومنذ أن نخرج من لمائم عمّان، تبدأ الصحراء بالظهور. الصحراء الحمراء الصامتة والمسالمة تبدو قريبة من القلب. المسافات تبدو بلا حدود. الصحراء مرة أخرى! من الشمال إلى الجنوب نسير مذهولين، قبل أن نتجه غربًا إلى «البتْرا». سديم من الصمت والضوء الشرس يحيط بنا. لكأن الأرض لنا أهل! أحسّ بهذا الإحساس المفاجئ الغريب، وأنا أتمنى لو نقف قليلًا لألمسها بيدي. السائق الحصيف يتكلّم بلا انقطاع، وأنا لا أسمع مما يقول شيئًا. لكأنني صرت في عالم آخر. عيوني موصولة بالصحراء الحمراء اللامتناهية، وقد بدت لي أنها تعبر خط الأفق بعيدًا نحو السماء. وأحسّني أحيا، من جديد. لكأن روحي تتعدد في جوانحي عندما أرى الصحراء! ولا يعود يهمّني، في هذه الحال، سوى الضوء والمسافات التي لا نهاية لها، وأنا أتبخّر فيهما من غليان قلبي.
متأهّبًا لالْتقاط الأحاسيس، أدع عيوني تسرح في الفضاء اللامتناهي. أبحث عن ذكريات قديمة ضاعتْ مني في سَديم الكون. لكن الضوء الباهر يردّني إلى نفسي هائبًا وكأنه يسوقني بعصا سحرية: ضوء الصحراء العربية التي ألِفْتُ ثناياها. أعود إلى طفولتي العظمى، وأخرج منها، على الفور، قفْزًا، راكبًا على الكلمات التي كنت أتابع خطوطها المتسارعة على الطريق. وأصير أردد في أعماقي والألفاظ تتراقص في قلبي: «كل هذه الصحراء لي»! وأهدئ نفسي وأنا أذوب في الفضاء اللانهائي، مستعيدًا كل شيء، كل ما مَرّ، وما لم يمر، بعد. وأصير أتمتِم بلا لسان: «فعلًا، الكائن لا شيء سوى ذكرياته».
نمرّ «بوادي الحسا» عابرين. نأكل الصحراء باعًا بعد باع. صحراء تغمرها الشمس التي لا ترحم. تضاريسها الحُمْر البعيدة تحجب عن عيوننا آخر الكون. لكأنها تريد أن تسجننا في فضائها الهائل الروعة، حتى لا نتيه عنها قبل أن تحرقنا أعاصير القلب التي بدأت نيرانها تشتعل. غريب أمر هذه القاع التي ما أحببت غيرها، مع أنني أحببت كثيرًا من البلاد. لكنها لا تريد أن تفهم هذا! وأنا لا أريد.
أخيرًا، نصل «الطفيلة» العتيقة ونحن نتحرّى الجهات. صحراء بلا شجر. يتسرّب ضوء آسر منها إلى قلبي. أحسّ بكثبان رملها تتوَهّج بتأثير الشمس التي تصعد مسارها الأزليّ بلا عناء. وفي البعيد أرى السماء تختلط بالأرض. الأفق يبدو خط ضوء قصي، كلما اقتربنا منه ابتعد عنا. السائق يتكلم، أسمعه صوتًا بلا كلمات، وأنا أغرق في أعماقي: أية لوعة تمزّق قلب الكائن الذي يعود إلى مكان هَجَره، من قبل. وأحذّر نفسي، مبتئسًا: «احذر من العودة إلى مكان تَخلّيْتَ عنه»!
أغرق، من جديد، في الفضاء. يبتلعني بحر الضوء الشاخص مثل أمواج تنتظر العبث بالوجود. يسحبني موج الضوء الباهر إلى أقصى نقطة في الأرض، ويردّني ناشفًا بلا أذكار. مشينا مسافات طويلة في الصحراء، ولم ألبث فيها إلا هُنيهات. ها أنا ذا أرى، الآن، ثوبها الأخضر الحَسير، وأشجارها القصيرة اللاطئة بالقاع. نحن نقترب الآن من مدينة «الشوبك»، ومن «وادي موسى»، في الطريق إلى «البترا».
قبل «البترا» بقليل تتحوّل الصحراء إلى جبال. جبال خضر وبَشوشة تحاذينا ونحن نهبط «وادي النبي موسى». من فضاء هذا الوادي المهيب تبدو لنا، أيضًا، جبال «البترا» الوردية ذات الملامح المفجّرة للأحلام. جبال عملاقة روّضها الأهالي، وسكنوها حتى أعلى قمّة فيها. هنا يبدو لنا وجه آخر للعالم لم نعرف له من قبل مثيلًا. تاريخه، تاريخ هذا الكون الذي نراه الآن، وتاريخ الكائنات التي أبدعته، يبدو لنا عبقريًّا، عظيمًا، وكأنه قطعة من الأساطير. وما الأساطير إنْ لم تكن هي «آثار الكائنات الأولى، ومعرفتها المادية الخلّاقة للعالم»؟
الصخر سيد الفضاء
«البترا» عظَمَة بلا حدود! الصخر فيها سيد الفضاء. والعبقرية الإنسانية الأولى التي طَوّعت هذه الصخور القاسية بعفويتها المبدعة تأسر الأنظار. خليط الحجر والحياة شيء مذهل ومثير. شجرة الصخر المعلقة في الريح، المتمايلة تحت نسيم العصر اللافِح، تؤكّد لي أن حب الحياة لا يقاوم. شُجَيْرة وحيدة تطلع من قلب هذه الكتلة العظمى من الصخور الصلدة، وتعلو نحو السماء باسمة وكأنها محاطة بالحرير. شُجَيْرة ظمأى، ولا بد، تملأ قلبي بالحنين، وتؤكد لي أن قسوة الطبيعة أكثر لينًا منا نحن البشر البائسين. لكننا، مع الأسف، لا نعرف، قيمة ما يحيط بنا، ولم نتعلّم، كيف نقرأ ما نراه.
«البترا» آية الحجر، بل هي بلاغته الآسرة. ظلال الجبال المهيمنة على «وادي البترا» تغلب الشمس المتوهّجة. ونسائم الوادي العميق الساقط بين صفين من الصخور الأزلية العظمى يملأ النفس بالفرح والنشوة. الجبال تحمينا من الشمس، ونحن أقزام ندبي في أعماق الأرض الهشّة اللامحسوسة. ندوس عليها برحمة من هول الجبال الراسية فوقها وكأننا ندوس على الريح، لا بل على قلوبنا.
أتابع المسير في وادي «البترا» خاشعًا. الصخور العظمى لا تكفّ عن التدخّل في عيوني، لكأنها تريد أن تسحبني إليها مثل قشة بلا حضور. وأقف، فجأة، في مكاني. أريد أن أعود. لكن… الصخور، آية الطبيعة العظمى، تدفعني، إلى المسير. في مواجهة الصخور الحُمْر المنحوتة ببراعة لا مثيل لها، أتساءل: مَنْ رَقَّنَ هذه الكتل العملاقة من الحجر؟ ومَنْ أعطاها أشكالها الرائعة، وجعل منها إنْسًا وهي صلدة وصمّاء؟ مَنْ كيّف الصخر لكي يحبه الإنسان وكأنه جزء منه؟ ونباتات الفُجوج الهشّة، هذه، التي أراها تَتمايَل، الآن، بغبطة أمام عيوني (أقول عيوني، وليس عينيّ، لأن الكائن في مثل هذه الارتدادات الكبْرى يتحوّل، كله، إلى عيون) كيف تقاوم قسوة الصخر الصارمة التي أحسّها تسحقني أنا البعيد منها؟ بعد الوقوف طويلًا، أتابع المشي، من جديد، مذهولًا. العَظَمة التي أراها لا تدع مجالًا للتأمّل، ولا هي تقبل الاكتفاء. ما يحيط بي في «وادي البترا» فوق ما تحتمله النفس البشرية المحدودة مثل نفسي، نفسي التي لم تكن أمّارة بالسَّيْر، من قبل. أكتشف هنا أننا ضيّعْنا أعمارنا في مرائي التفاهة، وفي الحوارات المبتذلة، وفي احتضان عديم القيمة من الأشياء، ولم نعرف إلا قليلي الإبداع والمتبجحين من البشر الذين لم يُغْنوا الوجود بأي جهد مميّز. حتى هذه الصخور أشد جذبًا للانتباه من كل ما عرفناه، وعشنا معه. خسارة حياتنا لا تعوّض. إنها خسارة الرؤية المبدعة، والرأي القويّ، والعاطفة المشبوبة، والدهشة المثيرة.
في «البترا»، ذات الأعاجيب، أكتشف كل الخراب الذي عشته، وآسف على كل الزمن الذي قضيته ملاحقًا بريق الأشياء وابتذالها، وكأن الحياة بلا قيمة. لم أكن أدرك أن بؤس الوجود ليس بعيدًا من أي أحد منا، وأن الخلاص منه ليس سهلًا، ولا التفوّق عليه. والآن؟ ماذا بقيَ لنا غير أن نسافر علّنا نعوّض بعض ما فاتنا من فتنة العالم وعظمته. وأن نسافر يعني أن نتغيّر، أن نحيا من جديد. فالوجود هو الحركة. وإذن: نمشي، أو نموت! تلك هي بلاغة «البترا» التي قرأتها مرقونة على صخورها.
المنشورات ذات الصلة
الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها… استعادة
«ليس كل منزل تقطنه يُدعى بيتًا». قصيدة «البيت»، إدغار غيست. «حين نتذكر البيوت والحجرات، فإننا نتعلم أن نسكن في داخلنا....
بيوت في البودي وربما نيبالين
ما أكثر ما فكّر آسفًا أن والده كان قاسيًا، بل بالغ القسوة، عندما بدأ ينفذ مشروعه بهدم البيت الأيمن وبناء بديل، سيكون...
صيف إنجليزي… مشاهد مستعادة من الذاكرة
من المعهد البريطاني في بغداد رُشّحْتُ عام 1978م لدورة صيفية للغة الإنجليزية في بريطانيا. تُقامُ الدورات كل عام في كلية...
0 تعليق