كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
القاهرة… مدينة من رموز وصداقات
ما يترسّب في ذاكرة الطفولة يعيش طويلًا، تمر به الكهولة ويظل سليمًا، ويبلغ الشيخوخة ولا يشيخ، وقد تتسع أبعاده ويأخذ شكل الأسطورة، لا يتضح ولا يكتنفه الغموض. وكان للقاهرة، في طفولتي، ملامح الأسطورة.
ارتاحت إلى صيغة: «الأفعل»، فهي أوسع المدن العربية وأكثرها سكانًا، مدينة إلى جانب المدن وأوسعها هيبة، وعاصمة تزهو على العواصم. نيلها أطول الأنهار، ينبع من «سدرة المنتهى»، وهو مكان في الجنة، ويصب في بحر من بياض، يعلن أن «مصر هبة النيل»، وأن بهاء المدن من أنهارها. إلى جانب النهر تقف الأهرام شامخة منذ زمن سحيق، وأن في المدينة المختلفة مسجدًا دعاه المسلمون: «الأزهر الشريف»، وأن اسمها يخبر عن مدينة «تَقْهر ولا تُقْهر».
أشهرت القاهرة رموزُها المتوارثة، المصوغة من حجر وماء ومعرفة تكاد تكون مقدسة، ومن أبي الهول «الذي جدع جنود نابليون أنفه»، وأشهرت «حناجرَ ذهبية» مطلعها «أم كلثوم»، «كوكب الشرق»، كما دعتها سيدة من القدس، صفّقت لها طويلًا، قبل أن تودّع مدينة سائرة إلى «التهويد» في زمن يقف على الأبواب، وأسمهان القتيلة الملائكية الصوت، أبهرت عيناها الجنرال الفرنسي ديغول، كما جاء في مذكراته، ومحمد عبدالوهاب «مطرب الأمراء والملوك» بلغة زمن قضى، وفريد الأطرش الذي لاحقته صفة «الشامي» حتى رحل.
وزّعت القاهرة صورها، ذات مرة، على ذاكرتي البعيدة وعلى مشهورين احتفى بأسمائهم وعي شعبي مرتاح في ضاحية دمشقية شبه مغلقة كانت تدعى: «حي الأكراد»، ثم دعيت بغيره. ما جاء اسم قاهري/ مصري إلا ولحق به نعت عالي الصوت: يوسف بيك وهبي عميد المسرح العربي، قامة من أناقة وصوت جهير، والمسرحي نجيب الريحاني، ضحكه باكٍ وبكاؤه يبعث على الضحك، وزوجته -إلى حين- بديعة مصابني، حوّلت الفن إلى تجارة والتجارة إلى فن، و«ملك الفكاهة» إسماعيل ياسين، عشقناه أطفالًا وتأسينا على مآله في بداية الشباب.
وما كان الحال في مجال القراءة و«تهذيب العقل» مختلفًا؛ إذ «الشيخ» طه حسين عميد الأدب العربي، نقرأ كتابه «الأيام» ونستظهره، و«عبرات» مصطفى المنفلوطي يحتفظ بها الطامح إلى «إنشاء بليغ»، وإبراهيم عبدالقادر المازني الساخر المتأسّي على مصير فلسطين، وعباس العقاد في «عبقرياته»، نقرؤها لشهرتها ونفهم منها القليل، وأحمد حسن الزيات ومجلته «الرسالة» الذائعة الصيت، التي عاشت ثلاثين عامًا، بدأت في ثلاثينيات «القرن» وأغلقت في مطلع ستينياته، و«الهلال» مجلة جورجي زيدان، الأشبه «بموسوعة صغيرة»، وجامعة فؤاد الأول يقصدها طلاب علم ميسورون، ناهيك عن جامعة الأزهر، يذهب إليها طلاب «مثلنا» يعودون «مشايخ» يحظون بالاحترام ويباركون غيرهم… كما لو كان ارتيادها يغدق على التلميذ لقبًا ويزيده عمرًا وإجلالًا ونطقًا باللغة عاليًا متمهلًا لا ينقصه التكلّف.
ستأتي صورة أخرى للقاهرة، موئلًا للإبداع الأدبي الحديث مجسدًا في اسمين عامرين بالجدة: يوسف إدريس وكتابة القصة القصيرة المتميزة في مجموعته: «بيت من لحم»، جمعت بين المأساة والسخرية؛ إذ العمى يساوي بين الأجساد المختلفة، والأجساد المحرومة، المختلفة الأعمار، تستدعي الأعمى وتبارك عماه. والروائي نجيب محفوظ الذي عرّفنا على «خان الخليلي»، أنطق شخصيات روايته بمفارقة ماكرة الأقدار، فالوسيم الضاحك لا ترحّب به الحياة، والأعجف الكدر الوجه يتابع حرمانه راضيًا. واعتبر المعلّم الثانوي: «يوميّات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم عملًا روائيًّا بديعًا.
الدخول مبكرًا إلى عوالم القاهرة
دخلتُ عوالم القاهرة مبكرًا، متوسلًا الرواية والسينما، تعرّفت إلى أسماء الأمكنة ومخرجي السينما وملامح قليلة من «الرقابة الفنية». نقل الراحل حسن الإمام والمنعوت بمخرج الروائع رواية محفوظ «قصر الشوق» وخنق فيها أشياء، واختار آخر رواية يحيى حقي: «قنديل أم هاشم» وأعاد كتابتها كما يشتهي، و«أفْلم» الموهوب توفيق صالح رواية صلاح حافظ «المتمردون» ولم ينل رضا الرقابة، وتعامل صلاح أبو سيف مع «القاهرة الجديدة»، رواية محفوظ بعد مرحلته الفرعونية، حاذر الرقابة ودعاها: «القاهرة 30»، احتفظت «القاهرتان» بفساد متين البنيان.
زرت القاهرة مرة أولى صيف 1976م، هربًا من «الحرب الأهلية العربية في لبنان»، بلغة المفكّر اللبناني مهدي عامل، الذي لاحقته أكثر من رقابة ظالمة وقضى شهيدًا. ملأتُ حقيبة السفر بأسطورة القاهرة، ولم أستطع التصرّف بها، وأرجأت التصرّف إلى زيارة قادمة، وبقيت الأسطورة سليمة لم تُمَسّ.
كان صديق لبناني يعمل في دار الفارابي، دار نشر يسارية في بيروت، زوّدني بعنوان «دار الثقافة الجديدة» في القاهرة وقال متفائلًا: لن تضل الطريق، اسأل عن «شارع صبري أبو علم، محمد الجندي» وتجد نفسك وصلت، فالطيور على أشكالها تقع، كان التفاؤل مشروخًا عوّضته صدفة «طيرُها».
عارفٌ بالقاهرة القديمة والجديدة وما بينهما قال: أنا صلاح عيسى، بشوش طويل القامة، ظاهر الوسامة كأنه في عشريناته. تعرّفت إلى مقالاته الجادة في مجلة «الكاتب» التي أدارها فترة أحمد عباس صالح صاحب كتاب «اليمين واليسار في الإسلام» كان عيسى يساريًّا بلا أقنعة أسّس، كما قال لي حركة «حشد» اختصرت حروفها الأولى: «الحركة الشعبية الديمقراطية»، أغلق «أبوابها» بعد حين، ونسي موقع الأبواب لاحقًا. اكتفى بصفة «المؤرخ»، كان مجددًا في مجاله، وخلّف وراءه كتابًا- وثيقة: «مثقفون وعسكر»، هذا إذا كانت الذاكرة بلا ثقوب.
التقيت في «دار الثقافة الجديدة» عجوزًا ناصع التهذيب اسمه «محمد الجندي»، مؤسس الدار، قال آخر يجاوره: «والد الأستاذ شارك في بداية عشرينات القرن في «جمهورية زفتة»»، لم أفهم شيئًا، كانت ربما ثورة شعبية محدودة تطالب بالعدالة. وراء الطرفين كان إنسان مشغول تدثّر بالصمت وبشيء من الشرود، عرفته قبل أن ألتقيه.
الذي بدا شاردًا كان صامتًا، بدا مسؤولًا عن الدار، جمّ الأدب، بقميص «نصف كُم» يدعى: صنع الله إبراهيم صديقًا مقربًا من الصديق السوري محمد ملص، درسا معًا الإخراج السينمائي في موسكو، وقدّم الأول «عملًا تطبيقيًّا» عند التخرّج، لا يزال اسمه يفلت مني: «كل شيء جاهز، كل شيء في مكانه سيدي الضابط». في العنوان ما يسخر من عسكري مترهل الانضباط.
استضافني صنع الله لأيام بكرم لا ينسى. حافظ على اقتصاد الكلام، وأضاف إليه صفات ثلاثًا: دوامه الصباحي على قراءة الصحف، يستقبلها «بكأس من الشاي مع اللبن» وسيجارة عالية الهمّة، وطاولة عليها مقص وأكوام من «قصاصات الصحف»، التي عقدت مع رواياته صداقة دائمة محاكيًا، ربما، الروائي الأميركي جون داس باسوس، وعزلة مستقرة، يخرج من البيت قليلًا ولا يطرق بابه أحد. ذكّرني إيقاع حياته بروايته «تلك الرائحة»، حيث في الهواء حضور عسكري واسع الأذنين، ومحقّق سريع التحقق يذكّر بعسكري آخر صرع القائد الشيوعي المثقف زهدي عطية الشافعي بضربة واحدة، وصفها صنع الله في روايته: «نجمة أغسطس».
ما زلت أذكر أن صنع الله كان يتهاون مع صمته ويفرج عن «ضحكة مفرقعة» وهو يداعب أبناء أخته ويعدهم بزيارة «الميريلاند»، ويداعبونه بدورهم ويدعونه «صنعو»، ويتكوّمون عليه مبتهجين. شعرتُ كما لو كان في «صنعو» طفولة مقموعة وميلًا إلى اختصار الكلام. حين سألته عن رأيه في رواية جمال الغيطاني أجاب: أكتب بشكل يختلف عنه، فإن أشرتُ إلى إدوار الخرّاط، وكان قد نشر روايته «رامة والتنين» قال: لكل منا طريقته. تساهل في الكلام عند وصولي إلى: غالب هلسا.
زرت آنها من القاهرة ما زرته وبقيت أسطورتها مستسرّة. فالأهرام صرح حجري خالد يحجب عذابات الذين بنوه، مثلما ألمحت الراحلة رضوى عاشور في روايتها «أطياف»، والنيل لم يتخفّف من أسراره بعد أن غنّى له عبدالوهاب: «يا نيل يا ساحر الغروب»، وأذكر من «ساحة الأزهر» طفلًا تمدّد على الأرض يكتب «واجبه المدرسي صباحًا»، نظر إليه عبدالرحمن منيف بإشفاق ومودّة. لم نكن نبحث عن أسطورة القاهرة كنا نتأمل معًا حياة المصريين.
للظاهر سطح له سطحه أيضًا
ما يظهر للعيان لا يعوّل عليه، والجوهري لا يتكشّف مرة واحدة، فله ظاهر يحجبه، وللظاهر سطح له سطحه أيضًا. والمحقق أنني ما زرت القاهرة مرة إلا وبحثت عن أسطورة تراوغ الباحث كلما قبض عليها تسرّبت منه. ولهذا قصدت باحثًا بصيغة الجمع، ولم أخرج بتصوّر لا زيغ فيه.
سألت الروائي الراحل خيري شلبي، الذي كان يعرف القاهرة شبرًا شبرًا عن أسطورة مدينته، فأجاب: القاهرة حديقة من البشر مختلفة الألوان والروائح والأشواك، بشر تعرفهم مدينتهم ولا يعرفونها، ولا يسألون عن أسطورة لا تسأل عنهم. أما محمود الورداني الذي ألزمه نشاطه السياسي بالانتقال السريع من مكان إلى آخر، فقال ضاحكًا: أسطورة مدينتنا ما نعيشه ولا نرضى عنه ولا نقبل بالابتعاد منه، إنه تورّط له ملمس شجرة الصندل باردة السطح حارقة القلب. كاتب القصة والرواية يوسف أبو ريّة الذي رحل مبكرًا أجاب: القاهرة، إن كانت لها أسطورة فهي ماثلة في المقاهي والحواري المتقاطعة والمساجد و«الشيشة والسخرية الطليقة»، وليل يمتد في الصباح، وصباح يستأنف ليلًا لا ينام. والريفي المولد نصر حامد أبو زيد الذي أطفأته صدفة عاثرة، قال: القاهرة صعيد في مدينة، ومدينة كأنها في الصعيد. وضحك الصديق جمال الغيطاني وهو يسير في القاهرة القديمة، وهمس: القاهرة من السلطة السياسية التي تحكمها، وأهلها يقدّسون الحاكمين،…
عرفت متواليات من الأسئلة والإجابات أن: أسطورة القاهرة من قاهري عادي قديم، إنسان يسبق صبرُه شقاءَه، وبشاشة وجهه معاناته، ورِضَاؤُه توجُّعَه، أدمن على مساومة الوجود، من دون أسئلة. إنه ذلك المخلوق الطيب القائل صباحًا «خليها على الله»، مقتصدًا بالطلب قانعًا بالمردود، يقول لمن يلتقيه: «الله يكرمك»، فإن كان مجهولًا له أضاف: «وحياة ربّنا» مؤمنًا برب جميع المصريين و«بفرج» يأتي مع الصباح…
تكشّفت أسطورة القاهرة في بسطاء أقوياء الروح يعيدون تعريف البساطة، يصبحون على تفاؤل ويغلقون النهار «بموّال» مرتاح الكلمات. عبّر عن قناعة المصريين يوسف إدريس في مجموعته «أرخص ليالي»، حيث الحرمان لا أظافر له والمرأة دفءٌ وظهير وأغنية عفوية، وأكمل التعبير توفيق صالح في فِلْمه: «درب المهابيل»؛ إذ الحياة رغيف خبز واحتمال مشاكس وعاشق ينتظر ابتسامة مؤجلة الوصول. وتلك التي صوّرها يوسف شاهين في فِلْمه «باب الحديد»، وصاغها من حرمان وأحلام جسّد المسافة بينهما بأنثى ضاحكة تعيش ما يعاش، وتغنّي لما هو منتظر.
كل الأساطير تأتي وتذهب، يخلقها خيال الإنسان قبل أن يعرفها تظل رغبة قبل التعرّف إليها وبعده، يأتي بها سياق ويصرفه آخر، وتحتفظ بغموضها.
كان لنا في زمن الطفولة قاهرة عبدالوهاب يغني: «فلسطين تفديك منا الصدور، فإما الحياة وإما الردى». جاءت بعدها قاهرة «ثرثرة فوق النيل»، وهي رواية لمحفوظ وصفت «عوامة» مخلعة الأطراف، يسحبها التيار ويعد بهزيمة كاسحة عام 1967م.
الأسطورة رغبة تنعقد غيومها في زمن الطفولة، إن ارتفعت الشمس تبقت منها غيوم راحلة. القاهرة مدينة من سحر متعدد الأزمنة، وغموض يثير العقل والقلب، امتدت من عهد الفراعنة إلى زمن ما بعد الحداثة، وتبقّت منها أسرار لا تروّض.
المنشورات ذات الصلة
«لُغز» الأدب الفلمنكي هوغو كلاوس حين يحوم فوق الناس «كالطير الجارح»: أنزعُ منهم نتفًا.. لأصنع منها كتبًا
ربح الكاتب والشاعر البلجيكي «هوغو كلاوس» قلوب كثيرين بسحر شخصيته وموهبته الأدبية الطاغية، لكنه كان عازمًا أيضًا على...
الفلسطيني: صعوبات كتابة سيرة ذاتية
هل يستطيع فلسطيني أن يكتب سيرة ذاتية؟ يبدو السؤال في البداية بسيطًا قوامه ذاكرة قوية أو معطوبة وقدرة على السرد بلغة...
بيت أبي الشهداء يُباع أيضًا؟
كاتب قصصي متدفّق العروبة قال في ساعة تفاؤل لا تنقضي: «لكل فلسطيني حكاية، وفي كل حكاية حكايات، وحكايات الفلسطينيين...
0 تعليق