كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«احفظوا الأصدقاء»… رسول الجبال
أن يسمع قلبك أنين الجبال التي رحل عنها أبناؤها، أو يجتاحك ذلك الشجن الغامض في ليالي الشتاء الباردة. أن تنحني روحك لتلك الحيرة المتوجسة، في أعين الأطفال الذين يبحثون عن روائح أمهاتٍ وآباءٍ وإخوة خطفتهم الحروب أو فرقتهم الكوارث. أن تسمع كل تلك الكلمات والأغاني المسافرة مع الريح، وهسيس قطرات المطر الناعم على نوافذ العشاق والعجائز…
كل هذا وأكثر هو ما تشعر به وتختبره وأنت تقرأ كتاب «احفظوا الأصدقاء» (ترجمة: إبراهيم إستنبولي، 2022م) لرسول حمزاتوف (1923-2003م)، رسول الجبال وحصانها الأصيل وصاحب الكتاب الخالد في وجدان كل قارئ حصيف: «بلدي».
من قريته الصغيرة «تسادا» في قلب جبال داغستان، التي تعني «النار» بلغة الشعب الآفاري، عرف حمزاتوف معنى المكان الأول والوطن وجلّ المعاني القومية والإنسانية السامية. من تلك الجبال تمددت إنسانيته وانبسطت ورحبت لتنبض بنبض كل إنسان عاش حياته بصدق، ببسالة ودون ضجيج، وغرم بالجبليين فكانوا الخمرة المعتقة والنسور التي حلقت بأشعاره ونثرتها إلى العالم الرحب الفسيح؛ فسكان الجبال «لا يمكرون لا في الأفراح ولا في الأتراح، لا في الحب ولا في الغضب».
كتب حمزاتوف: «نحن نتعطش للحقيقة، بيد أن الكلمة الصادقة غير الماكرة فقط هي الحقيقية». بهذه العبارة العميقة كعيني عجوز يحتضر، والواضحة كالحب، يبدأ شاعرنا دستوره الأغلى «دستور الجبال» الذي يعد بمنزلة الجزء الأول من الكتاب. خط حمزاتوف «دستوره» في سبع مواد تتضمن الجوانب الرئيسة للعادات التي تتميز بها طباع وروح الإنسان الجبلي:
– الرجل: لا قيمة للرجل ما لم يكن شجاعًا، والشجاعة الحقيقية لا علاقة لها بمنطق التبعية الاجتماعية والانسياق الاجتماعي والسياسي وراء المستعرضين أمام الجمهور، والرجال الحقيقيون يغلب شعورهم الوطني والإنساني على عواطفهم ورغباتهم الشخصية.
– المرأة: يربط حمزاتوف بين الكرامة الإنسانية للرجل وبين موقفه من المرأة؛ فالتعامل مع المرأة القائم على الأخلاق الإنسانية الحضارية يدل على الروح الحر الرحب.
– الأطفال: المستقبل يعني المرأة والطفل، وكلاهما مهدد بالحروب والكوارث والصراعات التي تعم العالم. يقول رسول: «كانت العناية بالفتيان والاهتمام بالصغار من أولى واجبات الكبار، ولا يجوز أن يولد عند الأب الشجاع ابن خجول».
– الذاكرة: «من يطلق الرصاص على ماضيه من المسدس، فإن المستقبل سيطلق الرصاص عليه من المدفع».
– الصداقة.
– إكرام الضيف.
– حسن الجوار.
يقول: «احذروا أن تفقدوا الأصدقاء؛ فعندما نفقدهم كأنما نخسر جزءًا من حياتنا». ويقول: «في مواجهة التحديات القاسية والصدامات الدموية من المفيد أن نستدعي حكمة الصداقة والقرون تجربة الأشقاء، نستدعي دروس الدروب القاسية التي عبرنا عليها الحياة، المشورة الكونية… سنكون بخير فقط عندما نكون معًا».
في جزء «قصائد مختارة» من كتاب «احفظوا الأصدقاء» تخليدٌ لقيم ذلك الشعب الذي يقطن جبال داغستان، وتقرأ فيها قيم أهل الجبال أينما كانوا؛ فلكأن الجبال تعطي من شموخها وتجذرها واعتزازها لأبنائها، ولذا تسكن تلك القصائد القصيرة بلطف قلب كل من ينشد الصدق والبسالة والحكمة: «على المرء فقط الركوع في حالتين: شرب ماء نقي من نبع، أو لشم
زهرة برية».
في قصيدة «داغستان بلدي» يقول رسول حمزاتوف: «ربما، أنا نادرًا ما أقسم بالحب لك/ فلا الحب جديد، وليس جديدًا أن نقسم/ أنا أحب بصمت لأنني أخاف/ أن تشحب الكلمة المكررة مئات المرات/ وإذا ما راح كل واحد من أبنائك يقسم بالحب لك وهو يصرخ كما المنادي/ فسوف تمل قممك الصخرية/ أن تسمع وأن تردد الصدى في البعيد».
يعتبر شاعر الإنسانية أنه لا يوجد ما هو أكبر من فاجعة أن يحرم إنسان من وطنه؛ فالوطن كما الأم يعطى لمرة واحدة ونحن لا نختارهما وإنما ننشأ منهما؛ لذا فإن الوطن يتطلع بألم وحرقة لأبنائه الذين يضطرون للرحيل ومغادرة الجبال الغالية. كل ما هو ثمين وصادق يجتاز العواصف والخطوب كما لو أنه طائر الفينيق.
يرمز رسول بداغستان لوطن كل إنسان يحمل انتماءه وعشقه لأرضه في قلبه: «أحبوا صخورنا العارية، هي ليست كريمة جدًّا، ولكن لن تكون من دونها حرية ولا حياة كريمة لسكان جبالها الفقراء». يجعلك أدب حمزاتوف، شعرًا وفكرًا، تحارُ كيف تخرج من أبسط الكلمات، أعمق المعاني، وأبهى الصور، وأكثرها ولوجًا سحريًّا للأرواح:
«تتطلع أزهار الأرض إلى أعماق أرواحنا/ بنظرةٍ حنونة لجميع من هم في قربنا/ أو بنظرةٍ من الحياة الآخرة/ يرنو إلينا جميع أولئك الأصدقاء الذين فارقونا إلى الأبد».
تأسر قصائده الروح البشرية التي تشبه الطبيعة، قوية لكنها أيضًا هشة وحساسة من نواحٍ أخرى. كأبناء الطبيعة، نحن قادرون على فعل الكثير، لكن الطبيعة الأم يمكنها أن تسحق غطرستنا في غمضة عين. لقد فهم حمزاتوف وجودنا الدقيق الذي يمكن بسهولة أن تسحقه صخور الواقع القاسية. ومع ذلك، فإن رهاننا الوحيد هو على أرواحنا التي تمكننا من الطيران عاليًا وبعيدًا في فضاء الكون اللامتناهي، والذي نحن مصنوعون من غباره؛ فنحن أبناء عمومة لأزهار الحقول… بالحب نستطيع القبض على أسرار ومباهج الكون. وقد عبر الشاعر البريطاني وليام بلاك (1757-1827م) عن هذه الحقيقة بقوله: «انظر إلى الكون في حبة الرمل… وإلى الجنة في زهرةٍ برية جميلة، وإلى الأبدية في ساعة، وتناول اللانهاية في راحة اليد…».
ويصهلُ حصان الجبال الأصيل بهذه الأبيات الأخيرة: «لقد عشت عمري/ فما الذي يمكنني أن أتمنى/ سوى نزعة إلى الحب؟/ تلك كانت إرادتي الأولى والأخيرة/ دع الحياة تعلن حكمها في ساعة الحساب/ فأنا قلت وفعلت/ كل ما استطعت!».
المراجع: مقال بعنوان «كونيات» ترجمة: سلام الوسوف، مجلة المعرفة السورية، العدد: 113، 2023م.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق