كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
محمد خان.. المثقف الذي تعاطف مع الفاشلين في تحقيق أحلامهم
مثل فلم «ضربة شمس» لمحمد خان، الذي رحل في يوليو الماضي عن 73 عامًا، البداية القوية التي ينشدها أي مخرج لمسيرته الفنية، فمن خلاله أظهر خان قدراته على رسم مسارات الكاميرا وتحريك الشخوص ومفاجأة المتلقي. أظهر أيضًا مدى عشقه القاهرة وشوارعها وليلها الطويل وصمتها المريب، ومزج ما بين الواقع الجديد لها في ثمانينيات القرن الماضي وما شاهده في السينما الأوربية، وما درسه في لندن، ومارسه كمساعد مخرج ببيروت في منتصف السبعينيات.
هكذا قدم خان الواقعية التي أحبها لدى أستاذيه صلاح أبو سيف وكمال الشيخ، وسعى إلى المزج بين عشق كل منهما لتفصيلات الأماكن والشوارع وملامح الشخوص من خلال أربعة وعشرين فلمًا هي مجمل إنتاجه السينمائي، من بينها: «طائر على الطريق. موعد على العشاء. نصف أرنب. الحريف. مشوار عمر. خرج ولم يعد. عودة مواطن. زوجة رجل مهم. أحلام هند وكاميليا. سوبر ماركت. فارس المدينة. مستر كاراتيه. أيام السادات. يوم حار جدًّا. بنات وسط البلد. في شقة مصر الجديدة. عشم. فتاة المصنع. قبل زحمة الصيف». وهي في مجملها أعمال ناقشت أزمة المواطن المصري في ظل التحول إلى عصر الانفتاح، وكيف استطاع المصري النزول بسقف أحلامه إلى الحدود الدنيا، لكنه أيضًا عجز عن تحقيقها.
يرى الناقد السينمائي طارق الشناوي أن خان كان من أكثر المخرجين الذين عملوا ضد منطق السوق؛ إذ إنه في ذروة انتشار ما سمي أفلام المقاولات قدم أفلامًا تتوافق مع مزاجه هو وليس مزاج السوق، وأنه بنجاح أفلامه في الثمانينيات والتسعينيات قدم معادلًا جيدًا قال من خلاله: إنه بإمكان السينما الجيدة أن تنجح وتحقق أرباحًا. أما الناقدة سارة نعمة الله فقد ذهبت إلى أن خان لم يكن مخرجًا نمطيًّا، «فقد كان انشغاله الدائم بالطبقتين الوسطى والدنيا من المجتمع المصري، ما جعله يخرج علينا بأعمال شديدة الجاذبية، كان الحلم فيها هو محرك الأحداث لدى البطل الذي تارة نراه مواطنًا عاديًّا تمثل كرة القدم حلم حياته الذي يتخلى من أجله عن كل شيء، كما في «الحريف»، وتارة يكون الريفي الفقير الذي يأتي فيعيش هوسًا بأفلام الأكشن والكاراتيه كما في «مستر كاراتيه»، وهكذا تجيء أعمال خان ظل الحلم عنوانًا لأبطالها».
أما الناقد كمال القاضي فيرى أن فلم «أحلام هند وكاميليا» قدم شريحة اجتماعية مهمشة تمثلت في الخادمة وابنتها وصديقتها والزوج، وجميعهم ضحايا قطار الحياة، «فظلت أمنياتهم مختزلة في الحصول على المال والخلاص من الفقر الذي صار هويتهم، أما فلم «موعد على العشاء» فهو من النوعية الإنسانية التي ميزت أعماله، ففيه يتناول العلاقة القسرية المركبة بين زوجين مختلفين في كل شيء، إلى الحد الذي تصعب معه قدرة الزوجة على التكيف؛ ومن ثم اختيارها الانتحار كحل بديل للحياة، وفيه يؤكد خان على أهمية الحرية كقيمة إنسانية لا يعوضها شيء آخر».
ويرى المخرج الكبير داود عبدالسيد أن خان مر بمراحل عدة، «أكثرها غنى هي التى تعاون فيها مع السيناريست عاصم توفيق، فقدما عددًا من أجمل الأفلام؛ من بينها «خرج ولم يعد». وذهب عبد السيد إلى أن أفلام خان التي قامت على فكرة البطل الوحيد كـ(ضربة شمس، والحريف، وفارس المدينة، وطائر على الطريق) «تحكي بشكل غير مباشر تجربته كابن وحيد سافر وحيدًا وتعلم وأثبت نفسه». وقال عبدالسيد: إن خان كان شديد الاهتمام بقضايا المرأة منذ «أحلام هند وكاميليا»: «وتأجج هذا الاهتمام بعد أن تعاون مع السيناريست وسام سليمان فقدما (بنات وسط البلد. في شقة مصر الجديدة. فتاة المصنع) وغيرها».
عاش محمد خان حالمًا بالجنسية المصرية أكثر من سبعين عامًا، فقد ولد لأب باكستاني وأم مصرية عام 1942م بحي السكاكيني بالقاهرة، ولم يحصل على الجنسية المصرية إلا بقرار رئاسي من عدلي منصور عام 2014م، وقد توفي في 26 يوليو 2016م بعد مشوار طويل في الفن والحياة، بدأه عام 1956م حينما سافر إلى إنجلترا لدراسة الهندسة المعمارية، غير أنه ترك الهندسة والتحق بمعهد السينما، ولم يكتف بمعرفة الآلات والتقنيات فقد تعرف السينما العالمية في الستينيات، من خلال متابعته أفلام الموجة الفرنسية الجديدة، وأفلام الموجات الجديدة في السينما التشيكية والهولندية والأميركية، وما قدمه أنطونيوني وفلليني وكيروساوا وغيرهم من عمالقة الإخراج في العالم، إضافة إلى متابعته مدارس النقد السينمائي؛ مثل: «كراسات السينما الفرنسية» وغيرها من المجلات السينمائية الأخرى التي شكلت مدرسة محمد خان الحقيقية.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق