المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

على دروب التنوير والحداثة.. حمزة شحاتة وعبدالله عبدالجبار

بواسطة | أغسطس 30, 2016 | دراسات

علي-الدميني_opt

علي الدميني

عمل مفكرو النهضة والأنسنة والتنوير، منذ القرن الرابع عشر الميلادي في أوربا حتى قيام الثورة الفرنسية، على التأكيد على دور أسئلة النقد والشك والنقض؛ لتسييد ثقافة العقلانية وفضاءات الحرية لمواجهة أسئلة وتحديات حياة مجتمعاتهم، ولذلك عادوا إلى ثقافة العقل في الفلسفة اليونانية، وإلى ما حمله فلاسفة المسلمين منها وبخاصة «ابن رشد»، ثم فتحوا الأبواب بشكل نسبي للفكر النقدي؛ لمقاربة كل المنظومات التي وقفت أمام تطور المجتمعات وتقدمها في مختلف الحقول والميادين.

هؤلاء الأفراد لم يكونوا يمتلكون ترف رسم أفكارهم على الجدران أو جذوع الأشجار في نزهة ريفية، لكنهم ببصيرة معرفية وشجاعة إنسانية حاولوا ثقب الجدران والأسوار؛ لتفتيق فضاء كوى النور والآفاق المستقبلية، فعلقوا الأجراس وقرعوها بقوة؛ لتعبر عن مصداقية صوت العقل والضمير وجدارتهما برفض كل أشكال الاستبداد والظلم والتخلف التي كانت تعم حياة مجتمعاتهم. وعلى الرغم مما عانوه من تحديات دفع بعضهم حياته ثمنًا لها، فقد ظلت أصواتهم حية وفاعلة في وجدان مجتمعاتهم وفي المجتمعات الإنسانية الأخرى عبر مئات السنين؛ إذ أسهموا بفاعلية نوعية في تعبيد الطريق واستنبات الأشجار المعرفية الجديدة التي أنتجت «تيارات نقدية وفكرية وفلسفية ومذاهب سياسية ، كالإصلاح الديني عند لوثر، وفلسفة التاريخ ( هيغل وماركس)، وفلسفة القانون ( مونتسيكو)، ونظريات العقد الاجتماعي (هوبز ولوك وروسو)، والحداثة الفلسفية ( ديكارت)».( إبراهيم الحيدري – عصر التنوير والحداثة – موقع الحوار المتمدن – 14\1\2015م).

إن التوق إلى حياة تبتسم فيها الحرية، وتتجلى فيها مصابيح العقلانية، وتتعمق عبر مخاضاتها ملكات النقد والشك والنقض والبناء والإبداع، هي أصوات «الحداثة» المقموعة عبر العصور القديمة، رغم ما بقي منها من أوراق حية قليلة تبدّت في الفكر والفلسفة والآداب. لهذا يقرع كانط (مؤسس الفلسفة النقدية) في عام 1784م أجراسه بصوت عالٍ؛ لتحديد مفهومه للتنوير بالقول إنه: «خروج الإنسان من قصوره المعرفي الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه «لعقله» إلا بتوجيه من إنسان آخر». وقال بعد ذلك جملته الشهيرة: «كن شجاعًا واستخدم عقلك».

موقع معابر _ كانط والتنوير:

http://www.maaber.org/issue_january09/perenial_ethics1.htm

تمثاللكل هذا، فإننا نرى أن هذا الصوت وسواه قد أسهما في خلق حالة «من التحولات البنيوية الجذرية والانقلابات في أغصان الحياة التي وضعت أسسًا لقيام عصر التنوير في أوربا وأميركا، وقيام الثورة الفرنسية في عام 1789م، التي قضت على السلطات والبنى الإقطاعية والكنسية والاستبدادية، وتُـوجت بلائحة حقوق الإنسان، وتدشين عصر الحداثة الذي رأى فيه هيغل زمنًا جديدًا .. زمنًا صنعناه بأنفسنا» (إبراهيم الحيدري – المرجع السابق).

الحداثة إذن تبدأ بذلك النزوع والتطلع الإنساني الطويل لبلوغ أزمنة الحرية والعقلانية والإبداع والثورة على قيود الأنماط ومؤسساتها، في كل المسارب والحقول، وإن تعددت أشكال وأساليب البحث عنه للإمساك به باليدين؛ لذا ترى غيرترود هيلمفارب مؤلفة كتاب «الطريق إلى الحداثة» أن عصور النهضة (والأنسنة .. باعتبار الإنسان محور الحياة والكون، ومصدر المعارف) والتنوير تحديدًا، هي محطات ومقدمات أساسية في بنية فكر وعصر الحداثة، وأن أبرز السمات التي ترتبط بالتنوير هي العقل والحقوق والطبيعة والحرية والمساواة والتسامح، والعلم والتقدم، حيث يكون العقل في المقدمة. وعلى الرغم من أنها تذهب في هذا الكتاب إلى الانتصار للتنوير البريطاني ضد التنوير الفرنسي الذي احتكر مفهوم التنوير بجدارة مستحقة، فإننا سنرى معها أن «التنوير البريطاني قد حمل سمة إصلاحية غير ثورية؛ لأنه عايش مراحل إصلاح دينية وسياسية، ويمثل (سوسيولوجيا الفضيلة)، أما التنوير الفرنسي الذي لم يصاحبه إصلاح ديني أو سياسي، فقد كان تنويرًا ثوريًّا، واستند إلى (أيديولوجيا العقل)، فيما مثّل التنوير الأميركي (علم سياسة الحرية) المتأثر بثقافة الإصلاح والتنوير البريطاني». (غيرترود هيلمفارب – الطريق إلى الحداثة – ترجمة د. محمود سيد أحمد– نشر عالم المعرفة الكويتية – سبتمبر 2009م).

حمزة شحاتة ( 1910- 1972م)

حمزة شحاتة

حمزة شحاتة

في الجزء الأول من هذه الكتابة، وقفنا على النواظم الأساسية في اشتغالات محمد حسن عواد، (نشر في هذه المجلة، العددان 475- 476) وهي تأكيد دور العقل والعلم والحرية والثورة على التقاليد الاجتماعية والأدبية وبخاصة في حقل الشعر، كأسس للنهضة والتنوير والنزوع إلى الحداثة. وعلى الرغم من أن كتاباته قد افتقرت إلى العمق المعرفي والفلسفي، فإن نبرتها الراديكالية الشجاعة العالية دقت الأجراس وأحدثت أصواتها تفاعلات نسبية مع مضامينها القوية، في حياتنا الثقافية؛ لذا يمكننا أن نعده منتميًا للأفكار النهضوية العربية التي انحازت إلى التنوير الفرنسي.

أما حمزة شحاته، الشاعر البارز الذي نهل بتميز عصري من تراث الحداثة الشعرية العربية القديمة، والكاتب المبدع في أسلوبه البياني المعاصر، فقد نهل من منابع الفكر والفلسفة النهضوية الأوربية التي وصلتنا عبر أبرز الكتاب والأدباء العرب المتأثرين بفاعلياتها. ويمكن عده أقرب إلى التنوير البريطاني النقدي والإصلاحي الذي جعل من الفضائل والتعاون والضمير مسارًا رحبًا لتوجهاته.

وفي هذه الوقفة السريعة على منجزه الثقافي البارز (الذي قُمع بقسوة)، سنشير إلى بعض تجليات تلك الجذور الفكرية في محاضرته وبيانه الموسوم بـ«الرجولة عماد الخلق الفاضل»؛ إذ سنرى أنه منذ البدء في محاضرته سيسفر عن خطابه المعرفي الناهض على الفكر العقلاني والفلسفة الإنسانية، حين يقول: «وأنا أريد التجريد والتعرية، كباحث لا كمحاضر … والتجريد في مرحلته الأولى رد المسائل إلى أصولها المفروضة، وإلى أساساتها العارية… فالتجريد يمس العقائد الفكرية –لا شك– ويهدم منها شيئًا ليقيم شيئًا محله» … ويمضي للتركيز على أهمية الشك المعرفي بقوله: «والجديد متى استطاع أن يقيم الشك في نفسٍ، فإنه قد غزاها الغزوة الأولى».

وحين يتعمق في منحى التجريد الفلسفي يقف على منشأ الفضائل بالتساؤلات الآتية: كيف نشأ الشعور بهذه الفضيلة؟ وكيف فُرِضَت وكيف تم الإيمان بها؟ أو الاصطلاح عليها؟ وكيف سادت أحكامها؟

ويذهب في الإجابة عن تساؤلاته إلى البعد التاريخي العميق لتكون التجمعات البشرية، كباحث سوسيولوجي، مؤكدًا أن الخير والشر كانا متزامنين ومرافقين للوجود البشري البسيط، ويقول في هذا المنحى: «ولا شبهة، أن الإنسان قد عرف النفع والأذى قبل أن تقوم في نفسه فكرته الأولى عن الخير والشر، باعتبار مفهوميهما العام، فاهتداؤه إلى الخير والشر، كان بعد عقيدته في النفع والأذى».

ويصل بعد ذلك إلى أن ترسُّخ قيم الفضائل لم يتم إلا في فجر المدنية الفكرية الأولى للإنسان، نافيًا أن تكون تلك الفضائل موضوعًا غريزيًّا نابتًا في قلب الإنسان، بل يردها إلى العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في التجمعات البشرية، وهنا نرى صدى وعمق الصراع الفلسفي بين جون لوك وهوبز حول خيرية الإنسان الطبيعية وخيريته المكتسبة والمترسخة بفعل القانون!

وحول القيم الإنسانية الفاضلة التي أنتجتها حاجة المجتمعات للتعاون من أجل الوقوف ضد كل ما يهدد حياتهم ووجودهم من مخاطر، والعمل على التطور والنهوض، يقول بعد ذلك: «كلنا يؤمن بضرورة الارتقاء والنهوض… فهل أفادنا هذا الإيمان؟»، ليؤكد على أنه لا قيمة لذلك من دون العمل بهذه القيم والفضائل لبلوغ مرحلة الوفاء لهذا اليقين النائم!

إنها ثقافة عارفة وفكر عميق، نجدها في كتابات حمزة شحاتة، تنبئ عن فجر مفكر بارز ومنهج فلسفي مطلع يعمد إلى الغوص عميقًا صوب الجذور؛ لإعادة الظواهر والقناعات والقيم إلى أسبابها لكي تسمو الفضائل إلى مصاف الضمير، وهو ما عبر عنه «بالحياء» إذ يقول: «الحياء: قوة النفس، وحرية العقل، وميزان الضمير. والرحمة عدالة النفس. والعدالة رحمة العقل وبصره وسلطانه».

ويختتمها بشعارات ثقافية يكون الحياء الغائب عنصرًا مهيمنًا على خطابها، قائلًا: أيها الكاتب الذي يئد الحق والجمال والقوة ليظهر … استحِ!

أيها الشاعر الذي يصنع الكذب والباطل والتملق في شعره فيسجل به عارًا على أمته… استحِ! أيها الفاضل الذي يتاجر بفضيلته ليفيد بها مالًا وسمعةً…. استحِ!

أيها الوطني الكاذب الذي يتنكّبُ سبل الجهاد، ويروغ من التضحية الصادقة، فيجعلها فلسفةً تتعلّق بالممكن وغير الممكن… استحِ! (اعتمدت في نقل الأجزاء المنصوص على نسبتها لمحاضرة حمزة شحاتة، على نصها المنشور في مدونة محمود صباغ):

نص محاضرة الرجولة عماد الخلق الفاضل لحمزة شحاتة

وبعد هذه الخلاصة المجحفة بحق ما ورد في المحاضرة، يخيل لي بأن حمزة شحاتة قد كتبها وفي ذهنه كلمات الشاعر:

فإما حياة تسر الصديق *** وإما ممات يغيظ العدا!

لقد كانت المحاضرة بيانًا شاملًا إلى الأمة، من مفكر نهضوي وتنويري، وكانت من جانب آخر، رصاصته الأخيرة، كمثقف عميق وشجاع ومبدع؛ إذ كان يكتبها وهو يتحسس رأسه رمزيًّا وحياته معنويًّا، ولكنه كان مصرًّا على الجهر بها في ذلك المشهد الجماهيري الكبير، فكانت كتابًا وبلاغًا قرأه مدة خمس ساعات متواصلة، قوبل خلالها بعض فقراتها بالتصفيق الحاد لأكثر من ثلاثين مرة !!

وقد عبر في محاضرته عن إحساسه بذلك الخوف، بقوله: فإذا خفت الليلة، فإني أخشى خطرًا عرفت مشابهه في نفسي، فإن كُتبت لي السلامة –ولا أتوقعها– فإنما تكون أثر الحظ، وخارقة من خوارق المعرفة. وما أود أن تكون خاتمتي بينكم موتًا، بل انتحارًا. فالانتحار –هنا على الأقل– أضمن لتحقق الاختيار من الاستسلام للموت. ولعله أدلّ عندي على الحيوية، وتركز الإرادة ، ووضوح الفكرة ، وقديمًا قالت العرب: «بيدي لا بيد عمرو». (من مقتطفات في كتاب عبدالله عبدالجبار – التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية).

كل ما توقعه حمزة شحاتة خلال المحاضرة قد حدث، فقد ألغي النشاط الثقافي لجمعية الإسعاف الخيري في مكة، ولم تنشر المحاضرة أو أجزاء منها في الصحف آنذاك، ولم يتفاعل مع مضمونها الكتاب، وتعرض شخصيًّا لكثير من المضايقات على خلفيتها، ومنها استدعاؤه من مدير الأمن العام؛ إذ طلب منه نص المحاضرة، فأجابه بأنه أحرقها! وحينما رأى هذا المثقف الواعي والنابه أنه يبذر في واد غير ذي زرع، وينحت في صخرٍ من فراغ، قرر الهجرة إلى مصر عام 1944م، ومنذ ذلك التاريخ حتى وفاته كان قد كسر قلمه إلى الأبد!

ولذلك، وكما يشير الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه المهم «حكاية الحداثة»، إلى أن الحداثة في بلادنا بدأت من محمد حسن عواد وحمزة شحاتة، ومؤكدًا على: «أن انكسار وانسحاب شحاتة قد حرم الحركة الثقافية عندنا من نموذج مهم له من القوة والعمق ما كان سيكون سببًا لبدء حركة التحديث الثقافي الواعي». (عبدالله الغذامي – حكاية الحداثة – المركز الثقافي العربي).

عبدالله عبدالجبار ( 1919 – 2007م)

عبدالله عبدالجبار

عبدالله عبدالجبار

ربما يكون أقرب التوصيفات لهذه القامة الأدبية السامقة هو المثقف النهضوي والتنويري، الذي كانت بوصلة التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية والغد الأجمل تقوده إلى دروب الخيارات الصعبة فيقبل التحدي بصلابة رجل المواقف، ويمضي في مساره برحابة أفق ورؤية واعية، محتملًا النتائج من دون خوف أو تردد.

وهو شخصية وطنية تقدمية ترتكز على مقومات الثقافة الواسعة والعميقة، التي تمتد من سعة الاطلاع على التراث إلى المدارس النقدية الحديثة –في مرحلته– حيث يُعد كتابه «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية» أحد أهم المراجع الأدبية التي رصدت بوعي مختلف مسيرة الحياة الأدبية في الحجاز قبل توحيد المملكة وبعدها حتى تاريخ نشر الكتاب في عام 1959م؛ لذلك سيلحظ قارئ كتابه موقفه النقدي ذا البعد الاجتماعي والأخلاقي والثوري من النتاجات الأدبية التقليدية الميتة، مثلما سيقف على رؤاه النهضوية التنويرية ، وبخاصة ما يتعلق منها بالحرية والعدالة الاجتماعية، بما يسمح لنا بالقول بأنه ينتمي للتيارات المتأثرة بالتنوير الفرنسي، وبما يماثله بعد ذلك من تبديات اجتماعية وثقافية مختلفة في خندق ثقافة اليسار العربي.

ويبدأ الجانب النقدي من كتابه بالوقوف على معنى انطلاق رصاصة التحرر من الاستعمار التركي وبدء الثورة العربية من مكة المكرمة في عام 1916م، وأثر ذلك في المناخ الثقافي والإبداعي العام في المنطقة، لينتقل بعد ذلك إلى مرحلة تكوين المملكة العربية السعودية وما صاحبها من حراك متعدد الأشكال والتباينات.

وفي لمحات مختصرة وعميقة –تعكس سعة اطلاعه– يشتغل على قراءة وتحديد ملامح النصوص الشعرية التي ضمها كتابه، ويصنفها بحسب موقعها، ضمن ما جرى تبيئته في الثقافة النقدية العربية، عن مسارات المدارس النقدية الحديثة الأوربية التي انتشرت في مراكز النهضة العربية، مستعينًا في ذلك بعناوين تلك المدارس النقدية الرئيسة، وبما فتقه منها من عناوين فرعية.

ففي تصنيف الشعر المنتمي إلى الكلاسيكية في بلادنا، يضع توصيفًا للكلاسيكية الميتة المعتمدة على محاكاة القدماء في أساليبهم في المديح والنفاق، بحيث تغدو التسمية جزءًا من رؤيته الجمالية والدلالية في تقييم النص. ويضع تعريفًا آخر أسماه الكلاسيكية الحية التي تجمع بين السير على محاكاة أساليب الشعر القديمة في حياة شعريتنا العربية وامتزاجها بالبعد الوجداني الذاتي (الرومانسي) للشاعر، من زهير بن أبي سلمى إلى أبي تمام والمتنبي وأبي نواس والمعري، وامتدادها عندنا من الأسكوبي إلى حمزة شحاتة. (عبدالله عبدالجبار – التيارات الأدبية في قلب جزيرة العرب –إشراف محمد سعيد طيب وعبدالله الشريف– دار الفرقان).

وعن التيار الرومانسي في شعرنا، يكتب خلاصة ناقد مطلع عليها في مراجعها، مشيرًا إلى بواعثها الإنسانية التي يتشابه فيها كل البشر والناتجة عن وعي ضدي بالواقع المعيش الذي يبعث على «القلق والاضطراب [التي] عاش في ظله الأدباء، وشعورهم بتخلخل المجتمع وانتكاس القيم، وعدم قدرتهم على تحقيق مآربهم وآمالهم العريضة، في جو يسوده الجهل والفوضى والجمود والاستبداد… فهناك إذن مطامح عظيمة تجتاح قلوب الشعراء، ولكنها تصطدم دائمًا بعقبات وحوائل تحول دون تحقيقها في واقع الحياة». ( المرجع السابق – ص 274)، وقد اختار في هذا السياق عددًا من قصائد الشعراء؛ منهم: إبراهيم فلالي، وحمزة شحاتة، ومحمد سعيد المسلم، ومحمد حسن فقي، ومحمد عامر الرميح، ومحمد سعيد الخنيزي، وغيرهم. أما عن الشعر الرمزي في نتاجات شعرائنا في تلك المرحلة، فيذهب إلى تحليل معنى المعنى في قصيدة «الدودة الأخيرة» للشاعر حسين سرحان المنشورة في مجلة الآداب، عدد مارس من سنة 1958م، التي رأى فيها أنموذجًا لنقد الطبقة الجشعة التي تمتلك الجاه والمال والسلطة، وتقسو على البسطاء فتأكلهم، لكن مصيرها بعد ذلك سيقودها إلى أن يأكل بعضها بعضًا حتى تفنى!

ويورد قصيدة حسن القرشي «مناجاة» التي بدأها بالتغزل في فاتنة جميلة ما لبثت أن تحولت في النص إلى دلالة على «الحرية». كما يشير إلى رمزية قصيدة حمزة شحاتة ضد الاستبداد، الشهيرة «ماذا قالت شجرة لأختها»، وسواها من نماذج أخرى.

وقد استدعى ضمن حقل ثقافته النقدية، مقارنة دلالات تلك النصوص بما يترامى إلى مشابهاتها من قصائد رمزية، وقف فيها على ما أبدعه الشاعر الروسي «بلوك» في قصيدته «الاثني عشر» وما حوته من دلالات عن الليل والتسلط، والجنود الذين يرمزون إلى الشعب، والريح التي تومئ إلى القوى القادمة لتكوين الحياة الجديدة. وأشار إلى ما حملته قصيدة «الوردة الخفية» للشاعر الإيرلندي «ييتس» من رمزية، حيث تدل الوردة على وطنه إيرلندا.

الواقعية النقدية

PB2 PB1الناقد بعد كل هذا العرض ينتمي فكريًّا وممارسةً إلى «الواقعية النقدية»، حيث أفرد لهذا الحقل النقدي اهتمامًا ثقافيًّا معمقًا، تعرض فيه لمفهومها الذي تترابط فيه الذاتية الرومانسية بالذاتية الواقعية تاريخيًّا، فعرض لتجلياتها القديمة كواقعية تشاؤمية مغلقة وتصويرية باهتة، ثم تطورها بعد ذلك إلى واقعية تفاؤلية، سميت «بالواقعية النقدية الحديثة» على يدي «غوركي» وأمثاله، وتستند إلى الرؤية النقدية للواقع والبحث عن آفاق تطور الحياة في أبعادها الشاملة، من أجل الإعلاء من شأن إنسانية البشر. ويورد نماذج متعددة لشعراء تلك المرحلة في بلادنا ممن عبروا عن ذلك الاتجاه، في أبعاده الاجتماعية، والراديكالية، والوطنية والقومية، من أمثال حمزة شحاتة، وماجد الحسيني، والمنصور، والششة، وبابصيل ، وسواهم.

ولعل هذه المحاضرات -التي صارت كتابًا في جزأين فيما بعد- قد أسهمت في بقائه طويلًا مغتربًا عنا في مصر، حتى سُجن في العهد الناصري الذي عشقه، وبعد خروجه من المعتقل ذهب إلى لندن، حتى عاد إلى الوطن ليمضي فيه عشرين عامًا قبل وفاته، صامتًا من دون مشاركة في حياتنا الثقافية والأدبية، عدا تعيينه شرفيًّا مستشارًا لجامعة الملك عبدالعزيز، ولمؤسسة تهامة. وفي هذا السياق أذكر أنني ذهبت إليه في جدة لإجراء حوار ثقافي معه -بصحبة حسين بافقيه- لمجلة النص الجديد، لكنه اعتذر منا بأدب بالغ!

وهنا، أخلص إلى القول بأن كتابه «التيارات» لا يُعد إضافة أو رافدًا للنقد الأدبي في المملكة، خلال مرحلته وحسب، بل هو تجاوز لاشتغالات الناقد نفسه خلال المراحل السابقة لتأليف الكتاب. ولو قُدِّر للكتاب أن ينشر ويوزع في ربوعنا حينها لأسهم بعمق في ترسيخ ثقافة الدرس النقدي الحديث، ولعمل على تطوير الرؤية النقدية ذات البعد الاجتماعي والتحديثي والتنويري المفضي إلى دروب الحداثة، على الرغم من افتقاره إلى إيلاء البعد الجمالي في الإبداع حقه وموقعه في قراءة النصوص الأدبية التي اشتغل عليها في هذا الكتاب وسواه!

أصداء النهضة والتنوير

الأفكار الحضارية الفاعلة (كفكر إنساني) تمتلك أجنحة خفاقة تحملها على الانتقال بين الأمكنة والأزمنة، باحثة عن مثالاتها المتعطشة إلى حالات التخلّق والولادة والانبثاق؛ لذا وجدت في عالمنا العربي، كما في غيره، أفرادًا يحتفون بطيرانها قريبًا منهم.

ولذلك اشتغلت عوامل كثيرة على تأثر نخب العالم العربي بفكر النهضة والتنوير الأوربيين، يندرج ضمنها حالة التململ والرغبة في الانعتاق من نير الاستعمار التركي، والتأثر المباشر بالاطلاع على مكونات وعود الأفكار التنويرية للثورة الفرنسية، والبعثات التعليمية إلى أوربا، والحركة الثقافية للعرب في المهجر، فيما كان للحملة الفرنسية «على الرغم من طابعها وأهدافها الاستعمارية» على مصر في عام 1798م، والشام بعد ذلك، دور مهم في تشكيل مناخات فكر اليقظة والنهوض العربي، حين تعرفت تلك النخب المطبعة والكتاب والجريدة، فبدأت في تكوين جمعياتها الثقافية والسياسية.

وكان مثقفو رعيلنا الأول في المملكة (من أمثال محمد حسن عواد، وحمزة شحاتة، وأحمد سباعي، وعبدالله عبدالجبار، وحمد الجاسر، والجهيمان، وغيرهم من معظم المشتغلين بالهم التقدمي في بلادنا) من المتأثرين، بدرجات مختلفة، بفواعل تلك المرحلة العربية، ثقافيًّا وسياسيًّا وأدبيًّا؛ مما حدا بهم إلى الإسهام المبكر في نقد ثقافة الجهل والتخلف في مجتمعاتنا، واجتراح مهام إشعال أنوار الفكر الحر المتطلع إلى التقدم الإنساني والحضاري.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *