كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
نحو تعليم حرّ ومنفتح
الحديث عن ضرورة إصلاح النظم التعليميّة في بلداننا ليس جديدًا، ولكننا لا نزال في حاجة إلى انعطافة حقيقيّة كتلك التي جرت في البلدان التي صممت على النهوض، فاختارت أن تبدأ بإصلاح التعليم. بلد كالهند، على سبيل المثال، لم يكن للتعليم فيه، حتى عقود قليلة، تلك السمعة الطيبة، لكنه يملك اليوم عددًا من أفضل المعاهد في العالم في مجال المعلوماتيّة. وهذا يندرج في أسباب النهضة الهنديّة الراهنة. كما أنّ نهضة التعليم هي سرّ النهضة الآسيويّة؛ في اليابان وفي البلدان التي عرفت بنمور آسيا.
وحين نتحدث عن برامج وإستراتيجيات تطوير التعليم، فإن العبرة ليست في الذي يُكتب على الورق، وإنما في الذي ينفذ على الأرض. ومشكلتنا أنّ «إصلاح» التعليم، كما أشياء أخرى في بلداننا العربيّة، أو غالبيتها، لا يرتبط برؤية تنمويّة على المستوى الوطنيّ الشامل؛ لذلك تكثر عندنا البدايات وتتكرر محاولات التجريب التي لا تقود إلى نتيجة يعوّل عليها. لأننا نتجاهل أنّ إصلاح التعليم يبدأ بعقلنته وتحريره من الخرافة، وهو إصلاح لن يمكن من دونه لبلداننا أن تغادر حالة الضياع التي تعانيها، وهي محاصرة بضغوط متعددة وتحديات غير مسبوقة، نراها في تفكك الدول والكيانات الوطنيّة، والإمعان في التطرف والغلواء المدمرة.
ولا يصحّ أن تختزل مهمة كبرى مثل إصلاح النظام التعليميّ في جانب واحد أو في تفصيل جزئي، يغفل بقية الأجزاء والتفاصيل، ومن ذلك النزوع المتزايد نحو ما بات يعرف اليوم بـ«تمهين» التعليم، أي جعله مهنيًّا، انطلاقًا من وهم مستحوذ على بعض الأذهان من أن التعليم لكي يكون حديثًا وعصريًّا، عليه التخلي عن الكثير من مكوّنات منظومته، وأن يتوجه لتلبية ما يعرف بـ«احتياجات» السوق، التي تتطلب إعداد الشباب للمهن المتاحة في هذه السوق اليوم. وهي مهن تتجه نحو الخدماتيّة، والوظائف الماليّة والمصرفيّة، التي تتطلب مهارات معينة من نوع معرفة معقولة باللغة الإنجليزيّة، وبخاصة في المجالات التي يتطلبها هذا النوع من المهن، فضلًا عن كفاءة التعامل مع البرامج الإلكترونيّة.
في نهج مثل هذا ازدراء للتعليم نفسه كمنظومة متكاملة من المعارف والقيم المنفتحة على أفق إنسانيّ واسع، وحصره في أطر ضيقة محدودة؛ فإذا ما اكتفينا بأن يلبي التعليم ما تتطلبه السوق هدفًا وحيدًا نكون قد هيأنا هذا التعليم ليكون وسيلة لتخريج أجيال من عبدة الآلة، وليس أجيالًا من الراشدين المسؤولين. فالمطلوب ليس إعداد من يلبون متطلبات السوق فحسب، وإنما أيضًا وأساسًا، إعداد كوادر بتكوين ثقافيّ إنساني عالٍ مع ما يتطلبه ذلك من تدريس للفلسفة والفكر التنويريّ، وقراءة الأدب والاستمتاع بالموسيقا والفنون عامة.
هذا ما يراه تربوي أجنبي مرموق اسمه اليغي ربول، الذي يعتقد أنّ ما يستحق أن يُدّرس هو ما يوحّد وما يحرّر، وهو بذا يضع معيارًا مزدوجًا: التوحيد والتحرير؛ لكي يكون التعليم جديًّا ومجديًا. ويقصد بالتوحيد، تلك المواد والمناهج الجديرة بأن تحقق للتلميذ والطالب اندماجًا في مجتمع يتسع ما أمكن لأبنائه، وبالتحرير التغلب على معوّقات التفكير الحرّ.
لو بقيت المناهج الدراسيّة المعتمدة هي ذاتها، والرؤية التعليميّة هي نفسها المتبعة الآن، فإن مخرجات التعليم، من حيث الجوهر، ستبقى كما هي، ولن نشهد النهضة التعليمية المنشودة التي ما انفك المفكرون العرب ذوو البصيرة السليمة يطالبون بها، منذ الزمن الذي كان فيه الجديد يتقدّم، والقديم يتصدّع، حتى لو لم يَنهر، قبل أن نشهد ما شهدناه من تراجعات أمام صعود سطوة التيارات المحافظة والتكفيريّة وهيمنتها على فضاءات مجتمعيّة واسعة، منطلقة من هيمنتها على منظومة التعليم، وتكييف المناهج الدراسيّة بما يحقق غاياتها، في تجهيل المجتمع، وتكوين جيل متطرف التفكير والميول، وجد تجلّياته لاحقًا في الأعداد المهولة من منتسبي التنظيمات الإرهابيّة مثل «القاعدة» و«داعش» وسواهما، ممن تربّوا على تكفير وتسفيه حريّة الرأي وقمع للاجتهاد الحرّ، وتشرّبوا مما ينشره ويذيعه من يوصفون بالدعاة ممن حرّضوا هؤلاء الشباب على التهلكة بأنفسهم، فجرى تسليمهم للقوى والمحاور التي وظفتهم شرّ توظيف.
التعليم وتحرير الدِّين
إنّ «داعش» و«القاعدة» وغيرهما، هما فكرة قبل أن تكون تنظيمات ومسلحين. وهذه الفكرة ستظل قادرة على إنتاج نفسها ما لم تستأصل التربة المنتجة لها، في المدارس ومناهج التعليم والدروس الدينيّة التي يقدّمها دعاة من منتسبي هذه التنظيمات أو مريديها. «الداعشيّة» وإن تجلت في الصورة الدمويّة البشعة التي رأيناها في العراق وسوريا وسواهما، فإنها قد تتجلى أيضًا في صور أخرى، ناعمة، لكنها لا تقل خطورة، إن لم يجر احتواء فكر «الداعشيّة» المتغلغل في الكثير من المناهج الدراسيّة، وفي أدمغة الكثير من المعلمين والمعلمات.
نحن، إذن، إزاء مهمة كبيرة في تحرير الدين الإسلاميّ مما أقحمه غلاة المتطرفين من أفكار إرهابيّة ونسبوها، زورًا وبهتانًا، إليه، وما هي منه. وهذا يتطلب إصلاحًا دينيًّا، يعلي من قيم التسامح والانفتاح وحرية التفكير، وينبذ الكراهية والغلواء والتطرف بأشكاله كافة، ويؤكد قيمَ الإبداعِ والبناء، لا الخراب والإرهاب، ويقدّم ما في تراثنا الديني والفلسفي والحضاري من منجزات تركت أكبر الأثر في تطوّر الحضارة العالميّة، بدل إحياء دعوات الانغلاق والتّزمت.
ومن أجل بلوغ ذلك يجب أن نعود إلى نقطة البدء، أي إلى ضرورة إصلاح التعليم. فالتجديد الديني وثيق الصلة بالتجديد في منظومة التعليم. إنهما شرطان متلازمان، لن يتحقق أحدهما بمعزل عن الآخر، ولن يكون كافيًا إدخال مادة مثل الفلسفة في المناهج الدراسيّة، فالأهم هو طبيعة المادة المنتقاة من تاريخ الفلسفة الحافل والزاخر بالمتناقضات والرؤى المتعددة، والأهم من هذا منهج التدريس الذي تقدّم به هذه المادة، وكفاءة التربويين الذين يقدّمونها وطبيعة رؤاهم.
وأبعد من ذلك فإنّ النقاش يجب ألا يحصر في سؤال من نوع: هل نبدأ بتدريس الفلسفة في المدارس المتوسطة والعليا، وإنما يجب أن يدور حول مفهوم التعليم ووظيفته، من حيث هي وظيفة الإعداد السويّ للتلاميذ والطلبة ثقافيًّا وتربويًّا وتطبيقيًّا؛ أي بمعنى إعدادهم لمواجهة مرحلة ما بعد المدرسة، ومن ثم ما بعد الجامعة، حيث يتعين تحويل المدرسة إلى ما يشبه المصهر المعرفيّ الذي يُكوّن الطالب بأفق ثقافيّ منفتح، وهو الشرط اللازم لبناء المستقبل والرافعة الضروريّة له.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق