لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
رمزية المدينة في سينما داود عبدالسيد
في فِلْم «رسايل البحر»، التي تدور أحداثه في الإسكندرية، للمرة الأولى يتكون مفهوم للمدينة بالمعنى الرمزي في أفلام داود عبد السيد، بعد أن كانت مدينة كالقاهرة، التي تجري فيها وقائع معظم أفلامه، خارج دائرة التمثيل، لا تشعر بها بالرغم من وجودها، فالمدينة ذائبة وسط الأحداث؛ لأنه يسعى لتكوين أماكن خاصة منفصلة بداخلها. وربما تكون هذه الأماكن الخاصة في أفلامه الأخرى في تماسّ مع المدينة، ولكنك لا ترى المدينة، بل ترى تأثيرها في هذا المكان الخاص والمعزول. أما في «رسايل البحر» فهو يتعامل مع المدينة ككتلة رمزية، ويتخذها بكاملها مكانًا خاصًّا منفصلًا ومعزولًا جغرافيًّا وفكريًّا. ولكن يتسرب التساؤل في هذه المرة: هذا «المكان الخاص» في مواجهة أي «مكان آخر»؟
* * *
في فِلْم «أرض الأحلام» بالرغم من أن الحركة تتم عبر التنقل من مكان لآخر في ليل المدينة، فالليل وزمن السرد المكثف ضغطا على مساحة المدينة ومفهومها، حولا المدينة لمكان خاص يناسب تجربة البطل. فردية الليل وانفتاحه وإنسانيته وبراحه مقابل جماعية سلطة النهار وما يتخللها من تنفيذ أعمال ومهام عاجلة للإنسان. وكذلك اختياره لحي «مصر الجديدة» كونه، مكانًا خاصًّا، واستثناءً طبقيًّا وذكرياتيًّا داخل مدينة القاهرة.
دائما هناك صراع بين مكان خاص وآخر عام، بين ثقافة هذا المكان الخاص مقابل ضغط ثقافة المكان العام. ببساطة هناك نموذج مختلف لعلاقة الفرد بالمجتمع أخذ في «رسايل البحر» حيز المكان. تحولت مدينة الإسكندرية إلى رمز أو مفهوم ملخص للمكان الخاص، الفردي، الذي تتوحد فيه مطالب الحرية والجنس والحب، وتتحقق فيه الكينونة.
* * *
أصبح لهذا «المكان الخاص» سمات إنسانية. لقد تمدد هذا المكان الخاص خارج أي أطر سياسية أو طبقية كانت تطارد أفلام مخرجي الجيل الذي عاصر هزيمة 67، ودخل في ثقافة إنسانية عامة، ولكنها نموذجية. فالأفكار والهموم الشخصية التي يدعو لها داود في أفلامه أصبح لها، أخيرًا، مكانًا يستوعبها ويتطابق معها، كاليوتوبيا تمامًا، أو هي «جنة» الأرض. تظهر الإسكندرية في هذا الفِلْم بوصفها آخر يوتوبيا سينمائية.
في «رسايل البحر» يبحث المخرج، كما يصرح بطله، عن «مدينة بها رائحة زمان»، كون التغير الاجتماعي في مدينته/ القاهرة هو السبب في مأساة وتلعثم البطل. فالمأساة الشخصية ناتجة عن تحولات عنيفة تدور من حولها، لا تتفق مع الصوت الداخلي للبطل. بانتقال البطل ومغادرته للقاهرة وعودته للإسكندرية وبممارسته الحب، يستعيد نفسه وقدراته، يستعيد صوته الداخلي، «صوت الراوي» ويتكلم من خلاله بوضوح وبدون تلعثم. كأن الصوت الداخلي للوجود في حواره مع نفسه لا يمرض ولا يصاب بأي عارض مرضي، ويصل لقلب وأذن المتفرج مباشرة. وهي العلاقة الجوهرية في فكر داود؛ أن التحولات الحديثة هي أحد أسباب الإعاقة النفسية والجسدية، التي أفسدت العلاقة بين الإنسان وصوته الداخلي. وللأسف، يطارد هذا التحول «يحيى» بطل الفِلْم، في المسكن الذي يملكه في هذه المدينة المستعادة حيث يطارده شبح هدم هذا البيت/ الذاكرة.
* * *
ربما يرى داود القاهرة، ضمن هذا السياق، هي المكان الآخر العام، أو بمعنى آخر: إن التعصب ناتج من مدينة ذات بعد واحد كالقاهرة. بينما الإسكندرية هي «المكان الخاص»؛ للشفاء لأنها مدينة قامت على التعدد. الإسكندرية هنا هي «الهامش» الذي يدافع عنه باستمرار أمام المركز/ القاهرة السلطوي. الرحلة في «رسايل البحر»، تتم باتجاه الماضي، بعكس الرحلات الأخرى لأبطال داود التي كانت متوجهة إلى المستقبل. هناك رحلة عودة لزمن قديم، أو زمن الطفولة المتعدد للمدينة وللبطل، ليتم تجاوز تشوه العالم الحديث وشيخوخته.
* * *
هناك ارتحالات عدة من الزمن الحالي تحدث في هذا الفِلْم، عبر ارتحال البطل من القاهرة للإسكندرية، وارتحال البطل من حاضره لطفولته. أيضًا ارتحال أمه للعالم الآخر، الذي بسببه قرر« يحيى» أن يبدأ رحلته الخاصة لاستعادة حياته. الأنثى تحوط بكل هذه الارتحالات المكانية والزمانية. لأول مرة يستخدم داود زمنا مرجعيًّا سياسيًّا مرتبطًا بمفهوم التعدد والتسامح وهو «إسكندرية الأربعينيات»، بما يحمله من سمات ثقافية وإنسانية وليبرالية. ينتقي زمنًا معينًا ويفضله على أزمنة أخرى. هناك «ماض» يشارك « الحاضر»، في لحظة التحول، التي لم تعد معلقة أو هي فقط «زمن التجربة» التي تحدث في الحاضر. هناك زمن مسؤول عما حدث ويمكن من خلاله قياس مقدار التحول، سواء كان زمنًا عامًّا، أو زمن الطفولة للبطل، الذي يود العودة إليه؛ لذا التحول المنتظر للبطل، أو رغبته في التجاوز، يُواجه بعقبة أن بعض شروطه ليست متوافرة في الحاضر بل في الماضي؛ لذا تجربة التحول تظل معلقة داخل هذا الزمن الماضي، ولا يظهر أي شيء في سلوك البطل يشير إلى أنه تجاوز أزمة حاضره.
* * *
هناك مواصفات نفسية لـ«بطل جديد» يريد التحول والتجاوز ولكن مواضعاته النفسية أكثر تعقيدًا، تنحو ناحية مواصفات المرض النفسي، وإمكانية شفائها صعبة. هو ليس «الشيخ حسني» في «الكيت كات»، وليس «يوسف كمال» في « البحث عن سيد مرزوق»، وإن حمل بعضًا من سماتهما، ولكن أزمته أعمق لأنها ترتبط بالماضي، لأن عاهة الثأثاة هي ابنة هذا الماضي. للمرة الأولى يشرك داود «ماضي أبطاله» داخل الزمن الحالي، كأنه على وشك إكمال عناصر السيرة الذاتية زمنيًّا، أو بمعنى آخر استكمال أدوات الوعي النقدي، بحضور هذا المرجع/ الماضي، للبطل والمدينة معًا، بعد أن كانت سيرة للتحول أو للأفكار العالقة تقع ما بين الحاضر والمستقبل.
* * *
مدينة الإسكندرية هنا، وما تشير إليه من تعدد في التكوين والنشأة، هي التي تقوم بمعالجة العاهات، وليست التجربة الشخصية. فتجربة «يحيى» الشخصية هي استعادة مدينة طفولته، وليس تجاوز الطفولة، كما عند أبطاله الآخرين تجاه مسؤوليتهم عن أنفسهم واستمرارهم في تجاربهم حتى النهاية. بهذا المنطق يمكن رد عاهة «الشيخ حسني»، في «الكيت كات»، كونها ناتجًا أو أحد أخطاء هذا الحي الشعبي البسيط، والمعزول، وبالتالي يمكن علاجها لو توافر لها سياق أكبر خارج هذا المكان.
* * *
في «رسايل البحر» يؤكد داود على «إسكندرية» الزمن الذهبي، زمن التعدد والتسامح. وهي وجهة نظر مثالية، تحاول أن تجسد الأفكار التي يؤمن بها المخرج. الإسكندرية في هذه الحالة هي الجسد المناسب لأفكار المخرج. هناك جزء توثيقي في الفِلْم مرتبط بزمن الإسكندرية الذهبي الكوزموبوليتاني، كأنه وداع متأخر لها. هناك علاقة بين استعراض واجهات البيوت في «أرض الأحلام» وبين واجهات بيوت الإسكندرية في «رسايل البحر». ولكن في الفِلْم الأول تحدث الرؤية من داخل عين البطل، أما في «رسايل البحر» فهي من وجهة نظر المخرج «كأرشيفجي» لتراث المدينة قبل أن يزول.
* * *
ضمن هذا الاعتقاد بالزمن الذهبى للإسكندرية يُبعَثُ زمنها الهيليني وقداسته للجسد الذكوري والأنثوي على السواء -وربما كان يرى المدينة نفسها كجسد أنثوي- هناك هالة حول الجنس، في عالم يحيى الطبقي، حتى العلاقة المثلية تتم داخل إطار مهيب. بالمقابل لا وجود لأي تقديس أو خصوصية للجسد الذي يقع في الطرف الآخر من المدينة عند «بيسه» وأخواتها وصديقاتها المحرومات من التجارب. ربما في هذا الفِلْم لم يركز المخرج على «سحر الهامش» الذي يهتم به دائمًا في أفلامه.
* * *
يؤكد الفِلْم على «مفهوم الإسكندرية كمدينة للمتعة والذكريات»، فالمرأة نموذج شهواني صادق يبحث عن جوهر المتعة المرتبط باكتشاف الذات كما عند «نورا»، خارج أي سلطات اجتماعية تعوق هذا. وربما هو المفهوم الأوربي نفسه للمدينة كما في نموذج «جوستين» في رواية داريل «رباعيات الإسكندرية».
«نورا» هي من تقوم بالتجربة وليس «يحيى»، هي التي يحدث لها تحول جذري في حياتها؛ لأنها تعيش تجربة حقيقية، علاقتها بيحيى خارج إطار الزواج، مع الحضور الرمزي للإسكندرية. بدأت المرأة عند داود تأخذ بُعدًا امتيازيًّا، بعكس الرجل؛ لكونها مكانًا مثاليًّا لممارسة الحرية وتصحيح الأخطاء التاريخية من ظلم وعدم مساواة. هي «الجنة» بالمفهوم المديني.
* * *
هذه «الجنة» المدينية ستظهر مرة أخرى في فِلْمه الأخير «قدرات غير عادية»، الذي تدور أحداثه في مكان قريب للغاية من الإسكندرية، وله سماتها نفسها ورمزيتها من حضور البحر وتوافر الفرص لخوض تجربة روحية عميقة، بجانب التعددية. داخل هذا «البنسيون» الذي يجمع أناسًا/ فنانين مختلفين، ولكنهم قادرون على تجاوز خلافاتهم والتعايش معًا في سلام، وأمام هذا البحر الواسع الذي يهبهم كل صباح معنى وقيمة ويبارك هذا التعدد والاختلاف فيما بينهم. هذه الاختلافات يمكن أن تجعلنا نرى رمزية البنسيون ليس بوصفه تجسيدًا لمدينة الإسكندرية، ولكن بوصفه «الجنة» التي يعيش فيها المختلفون بسلام ومحبة وتسامح.
تقف مدينة الإسكندرية في هذا الفِلْم في الخلف، فالأهمية ليست لها، ولكن لهذا المكان المعزول والمفصول عنها الذي يقع فيه البنسيون. عندما ينوي أبطال الفِلْم الذهاب إلى الإسكندرية يرددون أنهم ذاهبون للمدينة، أو للإسكندرية؛ لكونهم يعيشون خارج هذا المركز، ولم يعودوا جزءًا منها. عاد المكان الهامشي للظهور، على استحياء؛ لكونه أحد علاقات الجدل المهمة في فكر داود: هذا الصراع بين مركز وهامش.
أيضًا يمكن اعتبار مدينة الإسكندرية، في الفِلْم، خلفية لاستقبال وبحْث واكتشاف هذه «القدرات غير العادية»، باعتبار هذا المكان النائي جزءًا منها وليس مفصولًا عنها. الإسكندرية عند داود مكان بحث واكتشاف، سواء ليحيى الطبيب في «رسايل البحر»، أو ليحيى الباحث في «قدرات غير عادية». كلتا الوظيفتين لها علاقة بالعلم وبالتجريب.
* * *
فِلْم «رسايل البحر»، في رأيي، هو الأقل رمزية بالنسبة لحكايات أبطاله، من مجموع أفلامه بجانب «الصعاليك». بمعنى أن كل شخصية تمثل نفسها ولا تمثل رمزًا أكبر منها، وإن تقاطعت مع هذا الرمز في بعض الصفات. ربما رمزية المدينة في «رسايل البحر»، طغت أو عطَّلت من نمو شخصياته، داخل زمن التحولات الذي تعيشه المدينة، من زمن الكوزموبوليتانية وصولًا لزمن الانفتاح. لم تعد هناك مساحة لظهور أي فكرة/ قضية هامشية، على سبيل المثال: العالم الخاص بـ«قابيل» صديق يحيى «البودي جارد»؛ هش وغير واضح. ربما «قابيل» يمثل «الجزء الوطني» في الفِلْم مقابل الماضي الذي يشكل «الجزء الأجنبي». أو أن حضور الفكرة «الهامشية» دائمًا مقابل الفكرة «المسيطرة» التي يهتم بهما داود دائمًا؛ لا وجود لها هنا، وربما ليس مكانها هنا، بالرغم من أنه يحمل فكرة الدفاع عن ذاكرة المدينة في مواجهة التحولات، ولكنها فكرة عابرة، لم تبث في الفِلْم خاصية الجدل بين أطرافه.
«رسايل البحر» أكثر فِلْم يمسك فيه المخرج بخيط وحيد ولا يتركه لغيره. لا يوجد تركيب مثل الأفلام الأخرى. سرد مبسط ولكنه يفتح مكانًا أعمق، أحادي، شعري. أخذ «القلق الوجودى» الذي يسم أفلامه شكل عاهة محددة أو يتم الترميز له بتلك العاهة مثل تلعثم البطل. ربما الشعرية دخلت الفِلْم من باب هذه الطفولة النفسية.
المنشورات ذات الصلة
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
«مندوب الليل» فِلْمه الروائي الأول علي الكلثمي: نعيش عصرًا ذهبيًّا تتوافر فيه سبل الدعم
أوضح المخرج السينمائي السعودي علي الكلثمي، أن المصادفة هي التي أوحت له بشخصية «فهد القضعاني»، مشيرًا إلى التخطيط...
«احكِ منامكَ حتى أراك» لخليل صويلح محمد ملص: مخرج لديه رغبة دفينة في ترجمة عمره الشخصي إلى أفلام
يستعير خليل صويلح قول سقراط (470- 399 ق. م) «تكلم حتى أراك» عنوانًا لكتابه الجديد «سينما محمد ملص- احكِ منامكَ حتى...
0 تعليق