كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
النخب في الخليج العربي
كأي مجتمع من المجتمعات الآهلة بالسكان والحركة والنشاط كانت مجتمعات الخليج والجزيرة العربية -ولا تزال- زاخرة بالنخب والأعلام والرواد، رجالًا ونساء، في مختلف مجالات ومناحي الحياة من دون استثناء. فمنهم التكنوقراط الذين تسلقوا سلالم العلم والتخصصات الأكاديمية العليا قبل أن ينتظموا في سلك العمل الحكومي، ويعملوا على رفعة شأن أوطانهم وبناء الدولة المدنية الحديثة. ومنهم الساسة الذين انخرطوا في الحراك السياسي والمجتمعي من أجل استقلال وسيادة بلدانهم. ومنهم من مارس التجارة والأنشطة الاقتصادية المتنوعة فغدا اسمًا مرموقًا في عوالم المال والأعمال، يرفد بثروته جهود ومشاريع بلاده التنموية، ويساهم بما حباه الله من نعمه في ضروب البر والخير والإحسان. ومنهم من استثمر علمه وجهده في الميدان الثقافي فأضحى فارسًا من فرسان الكلمة ورقمًا بارزًا في مجال التنوير والإبداعين الأدبي والإعلامي. ومنهم من سخّر مواهبه في الارتقاء بالذائقة الفنية لمواطنيه من خلال المسرح والسينما والتلفزيون والموسيقا. ومنهم من قادته خطاه إلى أرقى الجامعات الأجنبية للتخصص في الميادين العلمية الدقيقة الكفيلة بحل مشكلات ومعضلات البشرية.
ولعل ما ميـّز النخب في الخليج العربي قديمًا شيئان؛ أولهما هو انفتاحها على الآخر واستعدادها للتماهي مع كل جديد وعصري، وذلك خلافًا لما أورده بعض المستشرقين الأجانب في كتاباتهم حول وجود صدود وحذر من هذه النخب لجهة استقبالها وتعاطيها مع الظواهر العصرية، أو لجهة تماهيها مع المجتمعات الجديدة التي انتقلت إليها من أجل الرزق أو العلم أو كليهما. وثانيهما سعيها الدؤوب وحرصها الشديد على فهم الأشياء ومعرفة كنهها بأسرع وقت.
هجرات واندماج
فلو تتبعنا هجرات النخب الخليجية الأولى التي انطلقت في القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين من بطون نجد باتجاه الزبير والكويت والبحرين، وصولًا إلى العراق ومصر وبلاد الشام، هربًا من القحط وقسوة الحياة، نجد أنها تمكنت بسرعة من الاندماج في تلك المجتمعات المغايرة كليًّا لمجتمعاتها، بل برزت فيها كتجار وأصحاب نفوذ وعلاقات واحترام ومكانة اجتماعية.
ويصدق الشيء ذاته على النخب الخليجية التي فرض عليها امتهانها الغوص لاستخراج اللؤلؤ الهجرةَ إلى الهند، سواء أولئك الذين قصدوا بومباي لتصريف محاصيلهم من اللؤلؤ الطبيعي في سوق «موتي بازار» الكبير للؤلؤ، أو أولئك الذين قصدوا بومباي وغيرها من مدن الهند الفيكتورية؛ مثل: كلكتا، وحيدر آباد، ومليبار، بدافع تأسيس قواعد وعلاقات تجارية دائمة لهم مع نظرائهم الهنود؛ كي يستثمروها في تصدير ما تحتاجه مجتمعاتهم من مواد غذائية وتوابل وأقمشة وعطور وأخشاب وكماليات عصرية، أو أولئك الذين أبحروا إلى هناك من أجل اكتساب المعارف الحديثة، ولا سيما اللغة الإنجليزية ومسك الدفاتر.
فعلى هامش هذه الظاهرة التي شهد القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أوضح تجلياتها، برزت بومباي كواحدة من أكبر تجمعات النخب الخليجية؛ إذ سكنتها وعملت وتعلمت بها نخب من الخليجيين ممن تركوا فيها مآثر وذكرى عطرة، لا يزال عبقها يفوح من جنبات شارعي «محمد علي رود» و«إبراهيم رحمة الله رود» ومنطقة «كولابا»؛ من هؤلاء: آل البسام، وآل القاضي، وآل القصيبي، وآل الفوزان، وآل الفضل من نجد، وآل زينل، وآل عبدالجواد، وآل الصبان، وآل باناجة من الحجاز، وآل عبدالرزاق، وآل صانع، وآل إبراهيم، وآل مشاري، وآل الشايع، وآل الخالد، وآل الغانم، وآل المرزوق، وآل الفليج، وآل الحميضي، وآل الصقر، وآل غربللي، وآل الخرافي، وآل الهارون، وآل الجسار، وآل الرومي من الكويت، وآل الزياني، وآل فخرو، وآل مطر، وآل مصطفى عبداللطيف بستكي، وآل كانو من البحرين، وآل المدفع من الشارقة، وآل الصايغ، وآل بدور، وآل لوتاه، وآل النومان، وآل نابودة من دبي، إضافة إلى الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني المؤسس الحقيقي لإمارة قطر.
وإذا ما أردنا دليلًا آخر على قدرة الإنسان الخليجي، في عصر ما بعد اكتشاف النفط، على الارتقاء بنفسه إلى مصاف النخب فهو سرعة اندماجه وتماهيه مع النقلة الحضارية التي أحدثها قدوم شركات البترول الأجنبية إلى المنطقة، وتأسيس الأخيرة لما يمكن تسميته بمدن النفط الحديثة بمظاهرها ومنشآتها العصرية، وثقافتها الغربية، وأنماط معيشتها المتمدنة، وفرصها التجارية المربحة. وسرعة الاندماج هي التي أهّلت كثيرين من أبناء المنطقة للصعود إلى رأس الهرم الاقتصادي، أو للذهاب إلى أوربا والولايات المتحدة للالتحاق بأرقى الجامعات هناك، والعودة منها بأعلى الدرجات الجامعية.
ويستوي هذا مع ما حدث في دول الخليج -عدا المملكة العربية السعودية- من سرعة قبول وانتظام وعمل مواطنيها في دوائر الدولة الحديثة من تلك التي أسستها السلطات البريطانية الكولونيالية، وبخاصة في البحرين. ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن شيئًا من هذا الجانب حدث أيضًا يوم أنْ جاءت الإرساليات الأجنبية إلى البحرين والكويت لتأسيس أوائل المدارس والعيادات الطبية في مطلع القرن التاسع عشر.
الخليج ليس نفطًا
إن دراسة سير النخب في الخليج العربي وتسليط الضوء المكثف على مسيرتها العلمية والمهنية وأنشطتها الاجتماعية والثقافية، وما واجهتها من صعاب ومعوقات في طريقها نحو الارتقاء بنفسها، وتنمية مجتمعاتها، وتنوير مواطينها، وتوطيد دعائم دولها؛ أمر في غاية الأهمية، ويستوجب عملًا دؤوبًا وممنهجًا، وجهدًا مستمرًّا لا ينقطع، ليس لأن في سرد مثل هذه السير عبرًا وعظات فحسب، إنما لأنها -وهذا هو الأهم- تقدِّم للأجيال الشابة الصاعدة، التي أخذها الترف بعيدًا من المعلومة والقراءة الجادة- لوحات بانورامية لما كانت عليه أحوال آبائهم وأجدادهم، وما كابدوه من شظف العيش، وقسوة الحياة، وقلة الحيلة، وكيف أنهم بالرغم من كل هذا شقوا طريقهم، وحفروا أسماءهم في الصخر. ومما لا جدال فيه أن المتلقي سوف يقرأ من خلال التدوين والتوثيق لسير هذه النخب كثيرًا عن عملية الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث بكل ما فيها من رصد لصور العمل والصبر والكفاح والاجتهاد والابتكار. كما سيقرأ صفحات من التاريخ الديناميكي الناصع للخليج. فهذا الخليج، بعد كل شيء، ليس نفطًا كما قال الصديق الدكتور محمد غانم الرميحي أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة الكويت في كتابه «الخليج ليس نفطًا» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1986م.
نعم، في الخليج نفط لكن فيه أيضًا حضارة وقيم وإباء وشيم وعادات أصيلة، ورجال بنوا أوطانهم من الصفر، ودافعوا عن حياضها. وفيه مجتمعات عـُرفت منذ القدم بحركة الأفراد والجماعات وتبدل الأماكن والأزمنة وتغير أنماط الحياة من حال إلى حال وتطور المدن والحواضر، وتشكل التنظيمات الاجتماعية المحلية؛ كالنخب الحاكمة، والقبيلة، والأسرة والقرية والمدينة والأسواق والموانئ.
لقد ظلت المكتبة الخليجية تفتقر طويلًا إلى مؤلفات توثق لحركة مجتمعاتها وتحولاتها المدهشة، وتسرد سير نخبها وأعلامها وروادها، بطريقة علمية رصينة، وعانى المهتمون بالتأريخ الاجتماعي الأنثروبولوجي من كثير من المثبطات التي أعاقت نشاطهم في هذا المجال. والسبب -وفقًا للأديب الإماراتي والرئيس السابق للمجلس الوطني الاتحادي الأستاذ محمد أحمد المر- هو غياب الدعم المؤسساتي والمادي، وضعف محتويات مراكز الأرشيف والمعلومات الوطنية، إضافة إلى قلة اهتمام دور النشر بهذا النوع من الإنتاج الفكري.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق