المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

خالد الساعي: الفنان المنشغل بالحرف متصوف بطريقته

بواسطة | مايو 1, 2023 | تشكيل

تتحول الحروف في تجربة الفنان السوري خالد الساعي إلى كائنات والأشكال إلى حروف. في حوار «الفيصل» معه، يتحدث الساعي عن المصادر المختلفة التي يستلهم منها أعماله وعن دمجه بصريًّا بين البيئات الشرقية والغربية، ودمجه بين الصورة والحرف ومتى يمكن للفنان أو ينبغي له أن يجعل من عمله الفني وثيقة تاريخية تحفظ المعالم التاريخية. كما يتطرق إلى تجربته في الرسم أمام الجمهور والهدف منه والفائدة التي تحصل عليها باحتكاكه بالجمهور من جنسيات مختلفة. يتحدث عن جداريته «سوريا حديقة التاريخ»، وكيف أن طينة هذا العمل مستمدة من ألوان المدن السورية المختلفة ومن معاني أسماء المدن وتاريخها. وعن استفادته من التراث الصوفي، وعن الحاسب الآلي كأداة في يد الفنان يمكنه ترويضها لصالح إنتاج أعمال بصرية لكنها، كما يرى، ستظل أداة قاصرة بحكم أن الفن تجربة تُعاش، يترجمها الفنان بتفاعله مع المحيط ومع دواخلنا وليست مسألة تنفيذية تقنية كما هو حال الحاسب الآلي. ويتوقف عند معارضه التي جاب بها العالم، وهو يحمل معها بيته الدمشقي.

  كيف أثرت نشأتك في عائلة تعشق الرسم بالخط العربي في مسيرتك، وكيف طورت دراستك الأكاديمية الموهبة لديك؟

  كان مناخ البيت عندنا مناخًا ثقافيًّا بامتياز، حيث قراءة الشعر تحدث بانتظام وانتقاء، وتتداخل معها مناقشات مشوقة، وأيضًا ورش الخط العربي كانت شبه دائمة. والرسم كذلك. كل ذلك ساهم في نضجي المبكر لفهم الفن والأدب وممارستي المبكرة لهما، والأهم من ذلك الاستمتاع بالفن والثقافة. نعم، بكل تأكيد ساهم الجو العائلي في ذلك، حتى أكثر من الحياة الأكاديمية، حيث التحقت بكلية الفنون الجميلة بدمشق وأنا على اطلاع كامل على المادة النظرية ومقرراتها ورصيد عملي جيد، ولكن الاحتكاك مع بقية الفنانين من الطلاب كان له دور في تبلور التجربة، وكنت لا أتوقف عن البحث في المراجع، وصالات العرض في دمشق حيث كنت أزورها بانتظام، والمراكز الثقافية كانت رافدًا مهمًّا لي. لكن دراستي في إسطنبول أضافت بُعدًا آخر لمشروعي في فن الخط وبخاصة أنها كانت في مناخ مشبّع بالفن روحيًّا وماديًّا. إضافة إلى أن البعد التاريخي والمتمثل في الشواهد والآثار والمصادر هناك في إسطنبول عمّق ورسّخ البعد الفني لديَّ عن فن الخط.

  للخط العربي تاريخ طويل في تزيين جداريات القصور والمساجد وغيرها، فضلًا عن أنه انتقل إلى بلدان كثيرة أضافت إليه خصوصياتها الفنية والثقافية، فكيف استفدت من مجمل هذا الثراء الفني في تجربتك؟

  خصائص اللوحات الصغيرة تختلف عن الأعمال الجدارية؛ فهناك معايير مغايرة. وقد استحوذت عليَّ جداريات بوتشيللي وتونتوريتو وروبنز والجريكو. فن الرسم من حيث تحوير نِسب الأشكال وطبيعة التلوين وبناء العمل هو تمامًا مثل التأليف الموسيقي السيمفوني فهناك من يغلب عليه الإيقاع وهناك من يميل إلى التناغم إلخ. لكن في فن الخط المسألة مختلفة، وقد راقتني فيه مدرستان: المدرسة العثمانية بدقتها وصرامتها ومنطقيتها، والمدرسة الأندلسية/ المغربية بارتجالاتها وسردها البصري العفوي. حاولت في عملي الحروفي دمج مفهومي الجدارية التصويرية والخطية بحيث يمكن للمتلقي أن يراها من أية زاوية. إنه دمج خاص بي تحوَّل الحرف فيه إلى كائن وتحولت الأشكال إلى حروف. الاطلاع على مدارس العمل الجداري كان له أثر في توجّه بحثي الفني. لكني لم أتوقف عند ذلك فقد خضت رهانات أكثر تنوعًا، إيمانًا بأن هذا الحرف مطواع بشكل لا محدود ويمكنني الذهاب به إلى الأقاصي.

  قدمت نحو 32 معرضًا فرديًّا، فضلًا عن 20 جدارية كبرى في عدد من المدن العربية والأجنبية، فما الذي كان يميز كل معرض من الآخر، وكل جدارية من غيرها؟

  ما يميز كل معرض عن الآخر هو نضوج التجربة، وطبيعة البحث والتصدي لثيمة كل معرض. في الصيف الماضي كان لي معرضان، في شهرين متتاليين: الأول في فرنسا والثاني في السويد. الأول تناول مقاربات الشعر العربي والفرنسي ومفهوم الشراب. والثاني، وإن كان عن الشعر السويدي لكنه كان عن تحويل الإيقاع والمناخ الشعري إلى مناخ بصري بالاعتماد على إيقاع اللغة الصوتي وإيحاءاتها التعبيرية وتحويل ذلك إلى حدث بصري حرفي (من الحروف)، فكانت الأعمال في مجملها بالأسود والأبيض، مثل لغة الشتاء والثلج. وكان اسم المعرض «جمرات الثلج» والآخر كان يتغنى بالبذخ اللوني والإيقاعي للشعر، كشعر أبي نواس وإيف بونفوا ومالارميه وابن الفارض.

المعرضان كانا عن الشعر من زوايا مختلفة والنتيجة تؤكد ذلك. لكن، وهذا مهم: ليس الشعر. وبالتالي اللغة مصدر إلهامي الوحيد، لكني أستلهم من مفاهيم وأفكار ومشارب متنوعة ومجرّدة أحيانًا. فقد عملت معرضًا عن الطبيعة في مناخ الفرات ومحيط منطقة لا لوار في فرنسا؛ مقاربة بصرية بين نهرين عظيمين. لكن شكل الحرف كان الرائد في تلك المغامرة (بين الفرات ولا لوار).

ثيمة كل معرض تساهم في إعطائه خصوصية واختلاف، الأمر ينسحب على العمل الجداري أيضًا، فجدارية «سفينة نوح» (المغرب) اعتمدت فيها على الثنائيات ضمن إطار عام وهو شكل السفينة الهائلة. بينما جدارية «لامية العرب» (وولفسبرغ ألمانيا) كانت الوحشة والصحراء. ليست مهمة الفنان أن يصور بشكل مباشر، بل أن يأخذ الفكرة إلى مستوى فني عالي من حيث التأويل والتصرف الفني. فكانت جداريتي في متحف الفن في ميشيغان عن الإنسان والماء، البحيرة والبشر، والأثر المتبادل بينهما، حيث أخذ شكل اللوحة تأويلًا عميقًا وذهنيًّا أكثر منه تمثيليًّا؛ فلكل فكرة إملاؤها الخاص على قريحة وفكر الفنان.

بين الحرف والصورة

  لماذا عمدت في لوحاتك إلى مزج الصورة بالخط؟ هل لم تعد القيمة الجمالية للخط العربي قادرة وحدها على تقديم القيمة الجمالية التي تقدمها الصورة للوحة؟

  ما يعجبني في العمل التجريدي الحروفي هو أن الفنان يبتكر فيه على الصعيد الكلي والجزئي. أقصد من حيث البناء والحركة واللون، وأيضًا من حيث التفصيل في صياغة الحروف ومتوالياتها. وبالتالي من يستقبل العمل يملك الحرية في التأويل والقراءة لكن في عمل «سوريا حديقة التاريخ» أردت تثبيت صورة معينة في ذهن المتلقي (وهذا جزء من رسالة اللوحة) فلم تكن لوحة تأويلية بالمنطق المفتوح، بل فيها جانب توثيقي وجب الوقوف عليه وهو حفظ أشكال الأوايد والتماثيل والجغرافية التي دمّرتها الحرب وتوثيقها للتاريخ.

ما قمت به هو شكل من أشكال الأرشفة في زمن الحرب؛ إذ اقتضت عليّ الأمانة أن أحفظ وأحتفي بصور تلك المعالم والعناصر والأشخاص. إن مسألة التزامن البصري بين الحرف والصورة ليست مسألة سهلة كأن تدمج الفن الواقعي بالفن التجريدي. جداريتي الأخيرة في أصيلة -«صمتت كل اللغات»- هي من وحي قصيدة الشاعر نوري الجراح، ولم تتضمن أية صورة، بل اشتغلت على الحركة الداخلية للحرف واللون. في نواح أخرى أعمد إلى الكولاج/ الصورة لإغناء السطح. وتكون مادة الكولاج خارجة عن سياقها. بمعنى مقصوصة بشكل مجتزئ لا يشي بالأشياء ولا يشتت الرؤية، بل يدعم جمال الحرف ويثري خلفية العمل. وفي «سوريا حديقة التاريخ» كان الحرف هو العمود الفقري والهوية البصرية للعمل، أما الصور فتساهم في إتمام السرد وتثبيت الصور في عين المتلقي.

  في معرض «سوريا حديقة التاريخ» رسمت أمام الجمهور لمدة شهر تقريبًا في متحف بيرغامون في برلين جدارية من ثمانية أمتار في مترين، فكيف كان تأثير هذه اللحظة فيك؟ وكيف اخترت حروف المدن والألوان المناسبة لها؟

  كان الجانب الأهم في إنجاز اللوحة أمام الجمهور هو التبادل الثقافي والمعرفي والتحاور معه وتداعيات ذلك. وكانت فرصة كبيرة للحديث عن بلدي وتاريخه أمام جمهور عالمي ومنوع. فقد التقيت أناسًا من أكثر من سبعين جنسية، تقريبًا. أتاحت تلك الفرصة النادرة قراءة ردود أفعال الناس من مشارب مختلفة عن العمل وعن سوريا عامة، وهذا ساهم في تزويدي بكثير من المعارف والأفكار عن الفن والحياة وطرق التفكير والتفاعل من الطرف الآخر. كان هناك تصميم متفق عليه على شكل اللوحة الأساسي، وفقًا لدراسات تبادلتها مع إدارة المتحف. لكن كان هناك هامش تفصيلي، هامش للارتجال والإضافة والتطوير، وهذا جزء من صيرورة أي عمل إبداعي. كل ذلك ساهم فيه ذلك المحيط الملهم في المتحف من ناس وقطع فنية تاريخية. «سوريا حديقة التاريخ»، كان البحث فيها على مستويات عدة: المستوى اللوني كان مستمدًّا كله من ألوان التراب السوري ومناطقه المُشار إليها في اللوحة ضمن سياق تاريخي. فالألوان المحيطة بجبل الشيخ، بألوانها الأبيض والأزرق والأخضر الناعم، تختلف عن ألوان إدلب بأخضرها الداكن وتربتها الغامقة البنية الرطبة واللون القرميدي، في حين تتميز ألوان مدينة تدمر بدرجات لون الأوكر والبني الفاتح والأصفر، وهي ألوان تعكس شكل الصحراء والنخيل.

أخذت من كل مدينة رمزًا حروفيًّا مستمدًّا، إما من معنى اسمها أو من سيرتها وتاريخها. فمن مدينة الحسكة أخذت حرف الكاف (حيث نشأت فيها أولى الزراعات في التاريخ وطرق تحويل الماء للسقاية كحرف تحويل)، ورمزت لدمشق بحرف الشين، بمعنى الشرق والإشعاع -وهكذا هي دمشق كانت وستبقى- ورمزت لحمص بحرف الصاد، وهي المقلة أو العين البشرية، ومدينة طرطوس بحرف الطاء. تلك المدينة الفينيقية، مدينة البحر والطيران والاكتشاف. ورمزت لمدينة حلب بحرف الحاء، الحب والحقيقة، ودير الزور بحرف الزاي، حرف الزينة والحسن،… إلخ.

تصوف الفنان والتقنيات الحديثة

  كيف استفدت من تراث الصوفية في تطوير تجربتك، وإلى أي مدى كنت مطلعًا على علم الحروف لديهم؟

  في سنة 2000م كان عندي معرض عن الصوفية برعاية المركز الثقافي الإسباني. بدأ في المتحف الوطني بدمشق ثم في قصر اليونيسكو في بيروت وعمان وعبَرَ شمال إفريقيا إلى سبع مدن إسبانية آخرها مرسية. كانت في حد ذاتها تجوالًا صوفيًّا بامتياز من خلال لقاء المختصين في كل بلد والتحاور معهم. لقد كان المعرض يمثل رحلة ابن عربي بشكل معاكس. الفنان المنشغل بالحرف هو متصوف بالضرورة لكن بطريقته؛ فالحرف هو تقشّف الشكل وهو صورة الكائنات الصوتية والذهنية وبالتالي التعامل مع التجريد يتماثل مع تجربة العرفان. وممارسة الخط هي طقس صوفي بامتياز، طقس ينفصل فيه المبدع عن عالم الصورة صوب المعاني. درست التصوف من الناحية الأدبية الشعرية والتأويلية وفهم العالم بشكلٍ أعمق. والتناص بين اللغة والتصوف مدهش، بل إنه حتمي، والفكر الصوفي يعطي معنى وقيمة مختلفة لكل شيء.

لا شك أني مأخوذ بتلك التجربة التي تنظر إلى كل شيء من الداخل ومن الصورة الكلية ذات المعنى الكبير. لم تضف لي تلك المعارف على الصعيد التقني فحسب، لكنها فتحت لي آفاقًا رحبة للتعامل مع الحرف كموجود وكهدف وكطريقة تعامل مع فني والعالم. التعالق بين الحرف والتصوف جدلي بل هو ثنائية كونية بين المجرد والمشخص، الواقع والخيال، وهي تجربة تغذي الطرفين على الدوام. يقول التوحيدي: كنا حروفًا عاليات لم تُقرأ.

  في عالم يسوده الحاسب الآلي وتقنياته العديدة، ما أهمية الرسم بالخط العربي، وكيف يمكن للفنان أن يكون مختلفًا؟

  الحاسب الآلي أداة لتسهيل وتيسير أمور كثيرة في الخط، وعلى الأغلب من الناحية التقنية واختصار الزمن. وفي الإجمال هو مُعين في الأمور الخدمية، وهو تقنية مساعدة إلى حد كبير. ومؤخرًا هناك عدد من فناني الحرف اتجهوا إلى إنتاج أعمال بالاستفادة من تقنياته وبرامجه وتنفيذه، ليس في فن الخط فحسب، بل في سائر الفنون.

يجب استغلال ذلك إلى حد بعيد، لكن كيف للحاسب الآلي أن يتفاعل مع قصيدة للسياب ويقوم بتأويلها! ثمة ذاتية وآنيّة في التفاعل مع الفن يستحيل أن تكون لدى الآلة مهما بلغ ذكاؤها. أصبح الحاسب الآلي ضمن أدوات الفنان كالريش والأوراق والألوان الحقيقية. والفنان الحقيقي مختلف ومتميز ويتطرق لموضوعات جديدة ويحاول قدر المستطاع الاستفادة من كل ما هو متاح أمامه. هناك أعمال في الفيديو آرت والأنيميشن تُنتج فنًّا رقميًّا يتحاور مع الحواس الخمس، فإلى أي مدى يمكن أن نتصور أن تصل التقنية؟ لكن الفن تجربة تُعاش ويترجمها الفنان، هي تفاعل مع المحيط ومع دواخلنا وليست مسألة تنفيذية تقنية، في حين أن عمق الأفكار وأصالتها لا تتأثر في هذه المتغيرات التقنية.

  كيف تبرز ذاتك وما يعتمل فيها من خلال رسم محدد ومعروف سلفًا كالخط والصورة الموضوعة بطريقة الكولاج في اللوحة؟

  هناك نظام خوارزمي مذهل لخط الثلث. وهذا النظام يتيح استيلاد أشكال لا نهائية من صيغ كتابة الكلمات والجمل وابتكار التصاميم في هذا الخط. بمعنى أن أية كلمة ممكن كتابتها بما لا يقل عن ٤٠ شكلًا مختلفًا. وبالتالي فإن الفنان الخطاط يغرف من بحر، وما تلك القياسات الأولية إلا لمساعدة المبتدئ، لكن الفنان يأخذ ذلك بعيدًا، إلى ركن يخصّه. الفن التشكيلي له مدارس مختلفة ولكل مدرسة فلسفتها وصفاتها الشكلية. إنها مسألة تصنيفية لا إطار. الشعر العربي، بمفهومه التقليدي، ذو قوالب محددة بنسبة كبيرة. لكن هل قتل ذلك الشعر وخيال الشعراء؟ يمارس الفنان الخطاط ما هو متعارف عليه باسم المنسي الفعّال كما قال كانط، وسبقه إلى ذلك ابن الجهم.

الخط في حقبة الأندلس كانت له أصوله وتفريعاته ولكن معظم تلك الأنواع لم تخضع لمدرسة مقننة كما في الحقبة العثمانية وعند أهل المشرق. كان للخط هامش من الحرية والارتياب؛ إذ لم تكن الحروف مقعّدة تمامًا. فترى الكلمة ذاتها عنده تأخذ أشكالًا لا تتطابق، حتى في نوع الخط الواحد؛ حيث هناك اعتباران لما يقوم به: حِسُّ اللحظة عند الفنان وإملاءات المحيط الفني للكلمة. خُلِقت القواعد ليكسرها المبدع، أما الخطاط أو الرسام التقليدي فهو سجين تلك الشروط.

في آخر الحقبة العثمانية كان مُدَرّس الخط (مصطفى حليم) في الأكاديمية في إسطنبول يحاول أن يشرح للطلبة الفارق في كتابة حرف الألف بين الخطاطين مصطفى الراقم ومحمود جلال الدين، لكنه لم يُفلِح؛ لأنهما بصريًّا شبه متطابقين؛ لخضوعهما لقواعد صارمة. فما كان منه إلا أن خرج من الصف وعاد يمشي بجسد مشدود ورأس يتجه إلى أعلى وعين تتقد، ثم عاد بهيئة رجل عجوز محني الظهر ورأسه للأسفل. هكذا صاح الطلبة: آه، فهمنا. كانت الأولى ألف مصطفى الراقم. أقصد حتى في الخط التقليدي يكون هناك تمايز وتبرز شخصية الخطاط ونبضه.

نجا المهداوي، أحد أهم الحروفيين في عالمنا العربي. أجزم أنه كتب ملايين من الحروف، لكن يستحيل أن يتطابق الحرف عنده مع الحرف نفسه في نص آخر له. هناك آنيّة وأريحية في التصرف. خط الثلث هو خط مشرقي، لكنه في الجزائر والمغرب أخذ صيغة مختلفة، وكذلك في الهند ونيبال وأوزبكستان.
نقول: ثلث مغربي؛ فقد تنفس الحرف مناخه الجديد وخضع لمزاجية وفلسفة مختلفتين.

ليست كل أعمالي تستند على الكولاج، هي إحدى محطات عملي، لكن حتى تلك التي تحتوي على الكولاج يكون توظيفه في اللوحة مدروسًا ويخدم الغرض منه. الكولاج يبقى عنصرًا رديفًا وخلفية من طعم آخر تسمح للحرف عندي بأن يخوض مغامرة أخرى. هناك بعض تجارب الكولاج، والأسود والأبيض، كان المحرك لها هو موسيقا الجاز والبلوز، وكان عماد تلك اللوحات هو حرف الثلث أو خط الإجازة. وكانت عناصر الكولاج تؤجج حركة الحرف مثلما تفعل موسيقا الترومبيت أو إيقاعات الآلات المعدنية في موسيقا الجاز. الكولاج في أعمالي عن الطبيعة اختلفت مفرداته وألوانه، وكأنها فروع وأغصان اشتُقَّتْ من حروف خط الديواني الجلي؛ وذلك لخلق تناغم شكلي وحركي ولوني. إنه توظيف غير معهود للكولاج، ليس توظيفًا ذهنيًّا بصريًّا، بل هو توظيف عضوي وتوأمة مع الحرف.

المحلية والعالمية وتأثير المكان

  إلى أي مدى كانت إقامتك في الإمارات، وتحديدًا الشارقة، عاملًا مهمًّا في نقل تجربتك من المحلية إلى العالمية، وكيف حملت سوريا عبر فنّك إلى العالم؟

  لا شك أن للمكان والجغرافيا والمحيط بكل حمولاته وأبعاده أثرًا في الفنان؛ إما على المدى القريب أو البعيد. ربما وفّرت لي الشارقة الهدوء المطلوب وبيئة مناسبة للخط والثقافة (حيث مرسمي وسط الشارقة ضمن المدينة القديمة)، وهذا وحده يعطي طاقة إيجابية. لوحتي «مشوار في الصحراء» التي رسمتها في الشارقة كانت لوحة مهمة على صعيد أثر المكان. وبعد ذلك نقلت المكان (الصحراء) إلى متحف الفن في مدينة بون الألمانية ضمن معرض لغات الصحراء، حيث عملت من تلك اللوحة الصغيرة لوحة جدارية تتجاوز ١٢ مترًا في خمسة أمتار.

جئت للاستقرار في الشارقة، من أميركا، حيث بقيت لسنوات عدة هناك أُدَرِّس في جامعة ميشيغان ووليسلي كوليدج. عُرضت أعمالي في عدد من المتاحف والقاعات المهمة هناك، في أميركا وأوربا، وقبلها كان لي معرض مهم في باريس (معهد العالم العربي) وعدد من المدن الإسبانية، وسبقها المعرض الأهم لي في روما سنة ١٩٩٩م. كان العالم مفتوحًا لي سلفًا، وقد جئت إلى الخليج بعد أن كرّست تجربتي عالميًّا إلى حد بعيد. لكن الشارقة، كحاضنة ومناخ، وفّرت لي الهدوء المطلوب. ولا شك أن للأمكنة والتاريخ الشخصي اعتبارات في الفن والذكرى والاستلهام. وأنا أُحب المدن النهرية وقد كان بيتنا على شط الفرات، ثم في حضن بردى، بيتي الدمشقي، وبعدها جنب نهر هيورن في ميشيغان، سكني الآخر، ثم نهر لا لوار في فرنسا. قدري مجاورة الأنهار، لكن لا يزال لبيتي في الميادين وبيتي الدمشقي الهيمنة الكبيرة في التأثير فيَّ وفي إنتاجي الفني.

المنشورات ذات الصلة

التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة

التشكيلية السعودية غادة الحسن:

تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة

تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *