لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
«جزيرة الأشجار المفقودة».. جدلية العتبات والمتون في النص الروائي
تشغل الروائية أليف شافاك موقعًا مهمًّا على خريطة الرواية التركية. فهي «أفضل من كتب الروايات في تركيا في هذا العقد» بشهادة مواطنها الحائز على جائزة نوبل للآداب أورهان باموك. على أن شهرة شافاك الروائية لا تقتصر على تركيا وحدها بل تتعدّاها إلى مناطق أخرى من العالم، ولا سيما أن رواياتها قد ترجمت إلى العديد من اللغات، ومنها اللغة العربية بطبيعة الحال، فقد صدر لها عن دار الآداب اللبنانية وحدها عشر روايات حتى تاريخه.
وإذا كان اسم شافاك قد اقترن لدى القارئ العربي بروايتها «قواعد العشق الأربعون»، التي ترصد فيها تمظهرات العشق الروحي بين المتصوّفَيْن جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي، فإن لها روايات أخرى لا تقل شأنًا عن تلك الرواية، ومنها «جزيرة الأشجار المفقودة»، موضوع هذه القراءة. وإذا كانت «قواعد العشق الأربعون» تدور في فلك العشق الصوفي الإلهي، فإن «جزيرة الأشجار المفقودة» تدور في فلك الحب الإنساني/ الطبيعي الذي يتخطى الحب بالمعنى التقليدي، بما هو علاقة بين الرجل والمرأة، إلى الحب بالمعنى الشامل، بما هو شبكة علائقية بين سائر كائنات الطبيعة، البشرية والنباتية والحيوانية.
العتبات النصية
في العتبات النصية، تشتمل الرواية على ما يُنِيف على ثمانين عتبة نصية، رئيسة وفرعية، تتمحور في معظمها حول الأشجار ومتعلقاتها، والإنسان وأفعاله. وهذه العتبات تتوزع على: العنوان، والإهداء، والتصدير، وعناوين الأجزاء الستة، وعناوين الوحدات السردية.
أما العنوان فيجاور بين ثلاث مفردات تتعالق فيما بينها، على المستوى النحوي، بعلاقتي الإضافة والنعت، بحيث تُضاف «جزيرة» إلى «الأشجار»، وتُنعَت بـ«المفقودة». وتتعالق، على المستوى الدلالي، بعلاقة حسن جوار بين المكاني «جزيرة»، والنباتي «الأشجار»، والإنساني «المفقودة». ولعل وصف الجزيرة بالمفقودة يحيل إلى الفردوس المفقود، ويشي بفضاء روائي هو موضع فَقْدٍ ممن غادره، وموضع حنين ممن يتوق إلى العودة إليه. وهذا ما يتمظهر في المتن الروائي من خلال الوقائع المروية. وأما الإهداء فيجمع، بدوره، بين الإنساني «إلى المهاجرين والمنفيين في كل مكان…» والنباتي «إلى الأشجار التي تركناها وراءنا المتجذرة في ذكرياتنا»، وهو ما يتمظهر في المتن من خلال العلاقة الحميمة بين بطلي الرواية البشريين (كوستاس كازنتزاكس اليوناني وديفني التركية) وبطلتها النباتية (التينة). وأما التصدير المقتبس من بابلو نيرودا وشكسبير فلا يشذ عن هذا التلازم بين الإنساني والنباتي، فيشير الأول إلى انطلاق الشاعر من الغابة التشيلية للتحليق في فضاء العالم، ويشير الثاني إلى اشتراك الدم والأشجار في الحيز المكاني الواحد.
أما عناوين الأجزاء الستة التي تصور مراحل نمو الشجرة بين دفنها في الأرض واستخراجها منها، مرورًا بـ«الجذور» و«الجذع» و«الفروع» و«النظام البيئي»، فتتوازى مع نموّ الحوادث في هذه الأجزاء؛ ذلك أن التعاقب المرحلي بين العتبات النصية يوازيه نمو الحوادث في المتون السردية. وهنا أيضًا تتمظهر العلاقة الجدلية بين العتبات والمتون. أما العتبات النصية التي نقع عليها في عناوين الوحدات السردية الثماني والسبعين التي تشكل النسيج الروائي العام فتتوزع على: 34 عتبة تتّصل بالأشجار ومتعلقاتها، منها 27 عتبة بعنوان «التينة» و7 عتبات متعلقة بالأشجار، و30 عتبة تتصل بالإنسان ومتعلقاته، و7 عتبات ترتبط بالمكان، وعتبة واحدة زمانية. وبذلك، يطغى الإنساني والنباتي على ما عداهما في العتبات النصية، وهو ما نجد ترجمته في المتون التي ينتظم حوادثها سلكان سرديان اثنان، بشري ونباتي، ينخرطان في شبكة من علاقات التعاقب والتناوب والتقاطع والتوازي والتكامل، وهو ما يتمخض عنه النسيج الروائي العام.
المتون السردية
بالانتقال من العتبات النصية إلى المتون السردية، يتجادل عنوان الرواية مع المتن السردي منذ الصفحة الأولى في الرواية؛ فالعنوان «جزيرة الأشجار المفقودة» مكان روائي يُحيل إلى أسطورة الفردوس المفقود، والمتن يُؤسطر الجزيرة/ المكان، من خلال تحويلها إلى موضوع للحكاية في قديم الزمان، وموضع لهيام الرحالِينَ والحجاج والتجار وفرسان الحروب المقدسة: «كان يا ما كان، في سالف الذكرى، في الطرف القصي من البحر الأبيض المتوسط، جزيرة هام في حبها الرحالة والحجاج والتجار وفرسان الحروب المقدسة، فكانوا لفرط جمالها وزرقتها إما لا يطيقون فراقها، أو يحاولون أن يجروها معهم بحبال متينة إلى بلادهم» (ص 11).
مسار دائري
في السلك الأول، تُسند شافاك مهمة الروي إلى راوٍ عليم، يتولى سرد الحوادث التي تتمحور حول علاقة الحب بين عالم النبات اليوناني كوستاس كازنتزاكس وعالمة الآثار التركية ديفني، المختلفَيْن في القومية والدين، وهي علاقة تبدأ في قبرص عام 1974م، عشية الاجتياح التركي للجزيرة، وتنتهي في لندن أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وبين البداية والنهاية مياهٌ كثيرة تجري تحت جسر السرد، وتحولات كثيرة تطاول المكان الروائي والشخوص، ويكون لها نتائجها التي تتمظهر تباعًا في مجرى الرواية ونهايتها. على أن طرفي هذه العلاقة تُضطرهما الظروف إلى الانقطاع عن جذورهما القبرصية، واجتراح جذور جديدة لهما في لندن. وهنا، يتجادل المتن مع العتبات النصية الست التي جرت عنونة أجزاء الرواية الستة بها.
يبدأ السلك، على المستوى النصي، من مدرسة «بروك هل» في شمال لندن، أواخر العقد الثاني من القرن الجاري، بالكلام على آدا كازنتزاكس، ثمرة علاقة الحب بين كوستاس وديفني. يرصد السارد العليم وضعيتها، الجسدية والنفسية، في ضوء عدم شفائها من صدمة موت الأم منذ سنة. فنتعرف، بنتيجة الرصد، إلى فتاة منطوية على نفسها، تؤثر العزلة على الاختلاط، وتصدر عنها تصرفات غريبة تجعلها عرضة لتنمر رفاق الصف، وتجترع ألم فقد الأم وبرودة العلاقة بالأب، فتبدو لمن يشاهدها غريبة الأطوار.
بمعزل عن البداية النصّية لهذا السلك والمسار الدائري الذي تنتظم فيه الحكاية، فإننا حين نعيد تركيبها وفق المسار الخطّي التصاعدي، نخلص إلى أن علاقة الحب بين طرفيها المختلفين، قوميًّا وطائفيًّا ولغويًّا، تبدأ في نيقوسيا في عام 1974م، وتتمظهر في لقاءات ليلية خفيةً عن الأهل، يجري بعضها في «حانة التينة السعيدة» وسط تعاطف صاحبي الحانة، يورغوس اليوناني ويوسف التركي. ويأتي اكتشاف أم كوستاس العلاقة بين ابنها اليوناني وفتاته التركية، معطوفًا على التوتر الذي بدأ يذرّ قرنه بين القبارصة اليونانيين والأتراك، ليشكل نقطة تحول في مجرى الحوادث، فتضغط على ابنها كي يلتحق مؤقتًا بخاله المقيم في لندن، ويمتثل كوستاس مكرهًا لإرادة أمه، وإذا بالمؤقت يتحول إلى دائم، فتستمر إقامته اللندنية ربع قرن، ينقطع فيها عن حبيبته رغمًا عنه، وهو ما يترك تداعياته على العلاقة الوليدة بينهما.
غير أن القَدَر ما يلبث أن يبتسم لكوستاس وديفني، بعد ربع قرن، فيعود إلى قبرص، وتُرَمَّمُ العلاقة بينهما، ويصطحبها معه إلى لندن وفي رحمها الجنين الذي سيصبح آدا، ويصطحب معه أيضًا فسيلة من التينة الصديقة التي ترعرعت علاقة الحب في ظلها، فتشكل التينة المعادل النباتي للجنين البشري، وينموان معًا في بيئة غريبة. وهنا تتقاطع العتبات والمتون مرة أخرى.
قناع روائي
في السلك الثاني، تسند شافاك مهمة الروي إلى التينة، وتتخذ منها قناعًا روائيًّا لها، تقول من خلاله حقائق معينة عن هذا النوع النباتي وموقعيته في الأديان السماوية وما يحف به من معتقدات وطقوس شعبية عند مختلف الشعوب، من جهة، وتقول وقائع من تاريخ الجزيرة في اللحظة التاريخية المعنية في الرواية، من جهة ثانية. على أنه ثمة مفارقة بين الكم والنوع تتعلق بدور هذه الشخصية الروائية المحورية؛ فهي، على المستوى الكمي، تتنكب فعل الروي في سبع وعشرين وحدة سردية من وحدات الرواية الثماني والسبعين، لكنها، على المستوى النوعي، تقوم بدورها من موقع الشاهد على الحوادث والمتأثر بها أكثر من موقع المنخرط والمؤثر فيها.
واقعية وغرائبية
وإذا كان السلك الأول يوهم بواقعية الحوادث وإمكانية حصولها، فإن الثاني يتسم بالغرابة ويؤسطر الواقع. وفي هذه الأسطرة يتجادل المتن مع عتبة العنوان النصية. ولعل المقطع التالي الذي تتحدث فيه التينة عن العلاقة بين البشر والأشجار يشكل مثالًا ساطعًا على العلاقة الجدلية بين العتبات والمتون: «يمشي البشر من أمامنا كل يوم، يتفيّؤون ظلالنا جالسين أو نائمين، يدخنون ويقضون نزهاتهم، يقطفون أوراقنا، ويشبعون من ثمارنا، ويكسرون أغصاننا، يركبها الأطفال منهم أحصنة يلعبون بها، ثم حين يشتد عودهم وقسوتهم يستخدمونها لجلد الآخرين، […]. ومع ذلك كله، لا يروننا» (ص 73، 74). وغنيٌّ عن التعبير ما يعكسه هذا المقتبَس من وعيٍ عميق تدّخره التينة بعقوق الإنسان مقابل وفاء الأشجار. ولعل مثل هذا الوعي يشكل تعويضًا عن عدم تناسب نوع الدور مع كمّه.
وعلى الرغم من عدم التناسب بين الحيز الكمي الذي تشغله التينة في السرد والدور الذي تنهض به في الحوادث، فإن ما ترويه يشكل جزءًا أساسيًّا من النسيج النصي، ويؤثث الفضاء الروائي العام، ويُراوِح بين مستويات سردية ثلاثة: السرد السير- ذاتي، والسرد التاريخي، والسرد العلائقي؛ فعلى المستوى الأول، تروي محطات من سيرتها الذاتية، منذ ولادتها في نيقوسيا عام 1878م، مرورًا بانتقال فسيلة منها إلى لندن في العقد الأول من الألفية الثالثة، وصولًا إلى تحوّلها إلى شجرة أواخر العقد الثاني من الألفية نفسها، وتروي ما عاشته وشهدت عليه من وقائع وحوادث، خلال هذه المحطات وما بينها. وعلى المستوى الثاني، تروي التينة محطات من التاريخ القبرصي، بدءًا من الاحتلال البريطاني للجزيرة أواخر القرن التاسع عشر، مرورًا بالاجتياح التركي لها في العقد الثامن من القرن العشرين، وصولًا إلى أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وما تخلل هذه المحطات من غزو خارجي، وتقسيم داخلي، وحرب أهلية كانت لها مضاعفاتها المدرة على المكان والإنسان. أما المستوى السردي الثالث والأخير فيتمحور حول علاقات التينة، البشرية والنباتية والحيوانية، والدور الذي لعبته في ردم فجوات السلك السردي الأول، في إطار التكامل بين السلكين لرسم المشهد الروائي العام. وهنا أيضًا نقع على علاقة جدلية داخل المتون السردية، بين السلكين البشري والنباتي، وعلاقة جدلية خارجية بين المتون والعتبات النصية، سبقت الإشارة إلى بعض تمظهراتها.
وبعد، وعودٌ على بدء، يمكن القول: إن رواية «جزيرة الأشجار المفقودة» تشكل نموذجًا متقدّمًا للعلاقة الجدلية بين العتبات النصية والمتون السردية في النص الروائي، وذلك بما تشتمل عليه من عدد كبير من العتبات المتنوعة التي قلما تجتمع في رواية واحدة، وما تتخذه تلك العتبات من تمظهرات مختلفة في المتون السردية، وجميعها يحدُث تحت مظلّة أسطرة الواقع الذي يُجمله العنوان، ويفصله المناخ الغرائبي في المتن ولا سيما في سلكه الثاني. ولعل هذه العلاقة الجدلية هي ما يمنح الرواية روائيّتها، ويجعلها على قدم المساواة مع «قواعد العشق الأربعون»، فكلتاهما تستحق القراءة، وتشكل مصدرًا لـ«الإمتاع والمؤانسة»، على حد عنوان أبي حيان التوحيدي.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق