كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«القتل الرمزي والبعث».. عن طقس «القودة» في صعيد مصر
حافي القدمين، حاسر الرأس، حاملًا كفنه بين يديه، يمشي الرجل مسحوبًا من رقبته بحبل، وسط جمعٍ غفير من الناس، إلى «ولي الدم» الذي سيكون عليه أن يمنحه الحياة أو الموت. المشهد الذي يبدو مهيبًا ومخيفًا، سرعان ما يتلاشى، ليحل بدلًا منه، مشهد آخر، قريبًا من حفل عقد القران، حين يقوم «الولي»، بوضع السكين على رقبة «القربان البديل» الذي يكون خروفًا أو عجلًا، بدلًا من وضعها على رقبة الرجل. يحتضن الرجلان بعضهما الآخر، وتتعالى الهتافات، والتبريكات، وكلمات المحبة، وبذلك يُصبح الرجل الذليل، الذي كان في حُكم «الموتى» منذ دقائق معدودة، حرًّا طليقًا، وكأنه بُعث من جديد.
القربان البديل
هذا المشهد المسرحي، هو ذروة طقس «القودة»، الذي يُجرى تنفيذه في صعيد مصر، لإيقاف نزيف عمليات الثأر، والتناحر بين العائلات، وفي أغلب الأحيان، تنجح «القودة» في القضاء على العنف، وإحلال السلام بين أهل الجنوب، وهو بذلك طقس عبقري، فثقافة الثأر، متجذرة في أعماق المجتمع الصعيدي، بشكل يصيب المرء باليأس من قدرة أي شيء على اقتلاعها. وهذه القوة السحرية لـ«القودة»، كانت محرضةً للشاعر والكاتب الجنوبي «فتحي عبدالسميع» ليقوم بتوثيق وتحليل طقس «القودة» في كتابه «القربان البديل» الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، وتعتمد دراسة الكاتب على دائرة جغرافية محددة وهي جنوب مصر، بداية من محافظة قنا، وسبب اقتصارها على هذه الدائرة، يرتبط بوجوده الدائم هناك؛ مما يسر له، متابعة وحضور فعاليات القودة مرات عديدة. كما أن الكاتب كان منغمسًا في مجتمع الثأر، بحكم النشأة، حيث وُلد وعاش طفولته في قرية تعرف الثأر، ثم عمل على مدار عشرين عامًا في محكمة قنا قبل أن يتفرغ للكتابة. وطوال تلك المدة كانت وقائع الثأر جزءًا من حياته اليومية. يقول: «رأيت الكثير من المواقف المأساوية الأليمة، والخسائر الفادحة التي يتسبب فيها الثأر والعنف عمومًا». وهكذا كان فتحي عبدالسميع شاهدًا على العالَمين؛ العنف المتمثل في الثأر، واللاعنف الذي يتجسد أو يتحقق عبر طقوس «القودة».
أما الثأر فهو دائرة محكمة من العنف، فشلت الدولة على مدار العصور في التصدي له، فالحل القانوني والقضائي، ليس كافيًا لعائلة القتيل، للنيل من القاتل، ومن ثم عندما يسقط قتيل من إحدى العائلات، جرى العُرف، على أنها ترفض أخذ العزاء، وتبدأ في الاستعداد للثأر من القاتل. ومن يأخذ الثأر، يكون قريبًا من الدرجة الأولى للقتيل، وهكذا تسير الأمور؛ قتيل أمام قتيل، ولا أحد يستطيع أن يوقف هذا النزيف، سوى «القودة»، التي يمكن النظر إليها من خلال البناء والعناصر، والتنفيذ، كعمل فني صرف، بل هي ليست إلا عملًا فنيًّا؛ تأخذ هذا العنف المكثف، وتُمرره على مجموعة من العمليات، وخطوة إثر خطوة، تخف حدته ويتلاشى، وهو بذلك يُمكن وصفه بـ«الطقس السحري». وعبر البحث التاريخي واللغوي، والتأمل الذاتي، توصل «فتحي عبدالسميع» إلى أن «القودة»: طقس قرباني يقوم بديلًا عن القتل ثأرًا، وطقس تكفيري وتأكيدي معًا، يدخل في إطار طقوس العبور، ويهدف إلى قتل القاتل رمزيًّا عبر إجراءات معينة ليبعثه مرة أخرى بعثًا رمزيًّا.
ردم حفرة الدم
ككل الطقوس، يقوم طقس «القودة» على سلطة الرموز؛ فالعملية الثأرية تتحول كل عناصرها إلى رموز، ويفترض هذا الطقس أن ثمة «حفرة دم»، قائمة بين القاتل والقتيل، وهي ترمز إلى الخصومة الثأرية. والحفرة تستدعي إلى الأذهان صورة القبر المفتوح في انتظار القتيل و«كأننا في طقس دفن معلق». وتهدف «القودة» إلى ردم هذه الحفرة عبر مجموعة من الطقوس والإجراءات، وهو ما اصطلح على تسميتها «ردم حفرة الدم»، وهي «تعبير مجازي يعني تغيير مجرى القتل من المجال الواقعي الذي يستهدف الجسد إلى مجال رمزي يستهدف تطهير النفس عبر إجراءات طقسية معينة». لكن كيف يتم «ردم حفرة الدم»؟
يُقسم الباحث، القائمين على ردم حفرة الدم إلى قسمين، يُعرف الأول باسم: قضاة الدم، ويُعرف الآخر باسم الأجاويد. وقاضي الدم، هو أحد الأشخاص الذين يتسمون بالمكانة الاجتماعية في مجتمع الثأر، ويتخصص في فض الخصومات الثأرية، وهو يتمتع بخبرات واسعة في هذا المجال ويقوم بـ«شد القودة» والإشراف على كل تفاصيل المهرجان الطقسي.
أما «الأجاويد»: فهم مجموعة غير محددة العدد، تلعب دورًا مؤثرًا وبالغ الأهمية في إنهاء الخصومة الثأرية، ويتمثل واجبهم في إقناع أفراد عائلة القتيل بقبول الصلح، مستغلين في ذلك مكانتهم التي تقلل من الشعور بالعار لدى عائلة القتيل لعدم قيامهم بالثأر وتؤهلهم لقبول «القودة».
ويقول «عبدالسميع»: إن «ردم بؤرة الدم»، لا يتم بشكل عشوائي، بل يمر بمراحل عدة، تتطور خلالها لغة الحوار، وتنمو فكرة المصالحة ببطء، وتتم عبر قسمين؛ الأول هو الوصول إلى اتفاق على التصالح، والآخر هو إجراء طقس القودة. وفي البداية يُحَرَّر محضر تصالح بمعرفة قاضي الدم، يُدون فيه استجابة العائلتين للتصالح، والالتزام بجميع الإجراءات مع شرط جزائي يصل إلى نصف مليون جنيه. ويُحَدَّد موعد احتفالية «القودة» أو ما يُسمى المهرجان الطقسي، حيث توزع دعوات على أهل القرية، وربما القرى المجاورة، وتكون هناك دعوات خاصة لشخصيات تحظى بمكانة اجتماعية كبيرة، وهناك أيضًا حضور أمني ورسمي، لكنه غالبًا ما يكون هامشيًّا.
تبدأ الطقوس الخاصة بـ«القودة»، عندما يقوم «قاضي الدم» بإحضار القاتل (مقدم القودة) إلى السرادق، بعد أن يكون قد قام بتلقينه، و«التلقين» هو بمنزلة مفتاح للقودة، حيث يطلب قاضي الدم من القاتل أن يُردد خلفه «الشهادتين». وللتلقين هنا رسالة رمزية، تهدف إلى ربط القاتل بعالم الموتى، إلى أن ترضى عنه عائلة القتيل وترفعه من حفرة الدم/ القبر، إلى عالم الأحياء.
وبعد «التلقين»، يأتي «التفطيم»، حيث يُخْبِر «قاضي الدم»، القاتلَ؛ بأنهم سوف يتوجهون الآن إلى عائلة القتيل، وأنه (القاتل) رجلهم، إن قتلوه فهو حقهم، وإن عفوا عنه فهو حقهم، ويذكره أيضًا بأنه يرى العفو أقرب. وبعد التلقين والتفطيم، يقوم القاضي، بتجريد القاتل من جلبابه ويُساعده في ارتداء جلباب أسود اللون، بوضعية مقلوبة، تكون فيها الناحية الداخلية للثوب هي الخارجية. وبعد ذلك تأتي مرحلة «شد القودة»، حيث يُقتَاد القاتل من الشاش أو الحبل الملفوف حول رقبته، ويُمْسِك قاضي الدم الشاشَ والسير أمام القاتل، ويكون القاتل، حافيًا، وحاسر الرأس، أي ليس على رأسه عمامة، وكفنه بين يديه، مع ضرورة إظهار خوفه ورعبه من أهل القتيل، وكل هذه التفاصيل، الغرض منها «كسر أنف القاتل» بالتعبير الشعبي، أي إذلاله، والتقليل من شأنه أمام الجمهور.
مسرحة الحياة والموت
يقتاد «قاضي الدم» «القاتلَ» ويسير به أمام «الحضور» الذين يقفون جميعًا، ليبدو المشهد وكأنه جنائزي، ثم يتوجه «القاضي» بالحديث إلى «ولي الدم»: نتقدم إليكم حاملين الكفن، معلنين بذلك عن ندمنا عن الحدث المؤسف، وهذا هو رَجُلكم، إن شئتم قتلتموه، وإن شئتم عفوتم عنه. ثم يطلب من القاتل أن يُردد خلفه: اقبلوني لوجه الله ورسوله والأجاويد والحضور. ثم يطلب من «ولي الدم» أن يُردد خلفه: قبلناك لوجه الله ورسوله والأجاويد والحضور. وعندما ينطق «ولي الدم» بهذه الكلمات، تصل «القودة» إلى ذروتها، وتنتهي الخصومة الثأرية، ويقوم «ولي الدم»، بإلباس القاتل، الحذاء، وتعديل جلبابه، وينضم «القاتل» إلى عائلة القتيل. أما الكفن فهناك أكثر من إجراء خاص به، فبعض العائلات، تقوم بدفنه في الجبانة، وبعضٌ آخرُ يحتفظ به، كدليل للأجيال القادمة على انتهاء الخصومة الثأرية.
يبدو «طقس القودة»، كالمشاهد المسرحية، فبوساطته يُمَسْرَح الحياة والموت. وهو عمل فني متكامل، فإذا اعتبرنا، مقدم القودة، وولي الدم، وقاضي الدم، والأجاويد، هم الأبطال الحقيقيين لهذا العمل، فهناك الكومبارس/ النساء اللائي تقمن بـ«البكاء، والندب»، من فور خروج «القاتل» من بيته، إلى بيت القتيل لتقديم «القودة».
وكباحث مدقق، استقصى «فتحي عبدالسميع» جذور وهوية «طقس القودة»، وتوصل إلى أن هذا الطقس، وإن اكتسب بعض عناصر الثقافة الإسلامية والعربية، فهو في الأساس طقس مصري فرعوني؛ تعود جذوره إلى أسطورة أوزير، وهي أهم أسطورة مؤسسة في ثقافة مصر القديمة. والحدث المؤسس فيها هو قيام «ست» بقتل شقيقه «أوزير»، وهو الأمر الذي تولدت عنه خصومة ثأرية بين القاتل و«حورس» نجل القتيل، وكان «اللاعنف» هو المنهج الذي تبنته هذه الأسطورة لمواجهة القاتل، كما هو الحال في طقس القودة.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق