كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
على حافات الألب السويسرية.. مشاهد واستذكارات
«إنه الليل: هي ذي الينابيع الفياضة ترفع صوتها في حديث مسموع، وروحي أيضًا هي نبع فياض.. إنه الليل: هي ذي أغاني المحبين تستيقظ الآن، وروحي هي أيضًا أغنية حب». (نيتشه من كتابه «هذا هو الإنسان»)
في متحف آينشتاين
لا أعلم لماذا تذكرت عبارات نيتشه تلك وأنا أرتقي السُّلَّم بدرجاته المتعبة إلى متحف- بيت «آينشتاين». إنه الليل في منزل آينشتاين، إنه ليل العالم وأغاني العشاق تغمر ليل الحرية في مدن الشرق والغرب، وما إنْ أبلغ الطابق الثاني وتواجهني صورة آينشتاين المفعمة بالمرح والحياة بقبعته الأنيقة والابتسامة الساخرة التي تفيض من عينيه وملامحه المتوهجة بالعبقرية حتى تنهمر كلماته المجيدة من ذاكرتي. كم انحنيت احترامًا لذكراه وهو يعترف في كتابه «العالم كما أراه»: «علينا العمل بالسرعة الممكنة لإزالة هذا العار الذي يلطخ اسم الحضارة باسم البطولة، باسم الاعتداء والعقلية القومية الغاضبة، كم أكره كل هذه المظاهر! وكم أحتقر الحرب التي أجدها في غاية البشاعة! أفضّلُ أن أقطّع إلى أشلاء على أن أشارك في هذا الحدث البائس…».
متحفه كان في السابق بيته المتواضع الصغير الذي يقع في العاصمة بيرن، ويحتل شقة في الطابق الثاني من المنزل كان يشغلها آينشتاين وزوجته ميلفا ماريك وابنهما هانز من عام 1903م إلى عام 1905م، عام المعجزة الكبرى في حياة آينشتاين، وهي السنة التي نشر فيها نظرية النسبية الخاصة التي دشّن بها عصر الفيزياء الحديثة. كتبها في هذا المنزل ونشرها في مجلة «حوليات الفيزياء» وكان حينها يعمل موظفًا بسيطًا في المعهد الفيدرالي للملكية الفكرية لبراءات الاختراع.
شاهدنا في الطابق الثاني أسلوب معيشة أسرة آينشتاين وتفاصيلها: أثاث كلاسيكي متواضع يرجع في طرازه إلى أواخر القرن التاسع عشر، غرفة معيشة غاية في البساطة، أريكة مخمل بُنّيّة اللون وسجادة حمراء ومائدة طعام مستديرة، وستائر مخمل عتيقة الطراز، وتحتلّ الجدارَ صورةٌ فوتوغرافية له مع زوجته ميلفا. في غرفة الابن ثمة مهد من الخيزران ولعبة دب مخملي تمثل رمز مدينة بيرن، ويختص الطابق الثالث بعرض بعض الوثائق والصور عن سيرة آينشتاين وأعماله ومنجزاته العلمية، ومن بينها صورته عازفًا على الكمان مصحوبة بتسجيل لإحدى معزوفاته.
مغامرةٌ في العصر الجليدي
لم يُدهشْني منظر جبال الألب المدثرة بثلوج يتصل بياضها بسُحب السماء البيضاء، لم تسحرني الثلوج المهيبة بقدر ما أصابني المشهد بالخوف والتفكر بالعصور الجليدية التي اكتسحت الكوكب ولم ينجُ منها سوى قلة من الأحياء. تمتعت أكثر بالسفوح الخضراء والبحيرات والمنازل الريفية على امتداد الطريق من مدينة بيرن إلى أعلى قمة يمكن بلوغها، همومي كانت الجبل الذي يثقل زمني في الصحو واليقظة على الرغم من شعوري بالأمان والدعة مع ابني.
لطالما كنت أهاب الثلج والبرد والمرتفعات؛ فأنا ابنة السهول والشمس وأضواء الشرق الكاشفة، لكن الفضول دفعني للموافقة على رحلة اليوم الواحد إلى إحدى قمم جبال الألب الشمالية. أمضينا يومًا بين قرى ومدن السفوح وتركنا السيارة في إحدى القرى الجميلة، التي تضحك في شرفاتها أزاهير الجيرانيوم الحمراء والنوافذ التي تنعم بستائر الدانتيل وموسيقا موزارت. (استقلينا) القطار الذي يتسلق سكة شديدة الانحدار على حافة سفح ليأخذنا إلى محطة التلفريك التي سأخوض تجربة رعبها للمرة الثانية بعد أن جربتها لأول مرة عند أرز لبنان. أنا التي ترعبها المرتفعات، كان قلبي يرتعش هلعًا وجسمي يرتجف بردًا والتلفريك بركّابه العشرة وهوائه الخانق يحلق بنا فوق الوديان السحيقة وبحيرة (تون) لنهبط أخيرًا عند الجزء الشمالي لجبال الألب على هضبة جليدية تحت ذرى جبل (بياتنبيرغ). تجربة غريبة ومدهشة ومخيفة قررت ألا أخوضها ثانية؛ فقد أحسست -رغم المعطف السميك والشال الصوفي وطاقية الرأس- بأن عظامي ترتجف وتطقطق بشدة فتنتقل الرجفة إلى أطرافي، تيقنت أنني جبانة للغاية أمام جبروت الثلج الأبدي ولن أتحمل أو أطيق تمضية سنوات العمر الباقيات في بلاد مثلجة.
لبثت واقفة عند باب محطة التلفريك بينما تزلج المسافرون الآخرون على السكي وتقاذفوا كرات الثلج وبالغوا في ارتقاء سفح الهضبة الثلجي الصاعد إلى قمة الجبل. احتسينا الشاي الذي اشتريناه من رجل كان يحرس الثلوج الأزلية ويبيع المشروبات الساخنة في كافيتريا تحتل غرفة على السفح، لم يفلح الشاي المبجل بحرارته الممتعة وشذاه المنعش أن يوقف جائحة الرجفة في العظام.
كان عليَّ أن أكابد رعب العودة بعربة التلفريك المغلقة وهوائها الخانق لنبلغ محطة القطار وننحدر هذه المرة نحو الأرض بعد أن ارتقينا بالزمن إلى عصوره الجليدية السحيقة وكأننا عشنا في عالم موازٍ لعالمنا- عالم ما زال يكابد مصاعب العصر الجليدي الأخير ويخبرنا عما حصل للكائنات الحية التي لم يسعفها الحظ بالنجاة.
هل سأنتهي في ثقب أسود؟
أمضيت مع ابني في مدينة بيرن ثلاثة أشهر تمتعت خلالها بجماليات الفنون وزيارة المتاحف والريف السويسري على النقيض مما عشته من توتر وإحباط وخذلان في باريس. خلال تلك المدة كانت الأوساط العلمية العالمية تتهيأ للإعلان عن بدء التجارب الأولية في مشروع (سيرن) قرب جنيف. ولأننا أنا وابني مهووسان بالفيزياء وأسرار الكون فقد عشنا تجربة فريدة راوَحَت بين الفضول والشغف، وبين الزهو البشري بعيش لحظات فاصلة في تاريخ العلم وبين نوبات هلع وخوف متباعدة كنا نترقب معها بدء التشغيل التجريبي في مصادم الهادرون الكبير. نحن في بيرن على مبعدة 158 كيلومترًا من موقع التجربة المخيفة. أُجريت هذه التجربة في 2008م وأبدى علماء فيزياء عالميون كبار مخاوف من خطورة المشروع وحذّروا من إمكانية حصول ثقب أسود قد يلتهم الأرض وما عليها.
فكرتُ حينها: فليكن، إذا حصل وانبثق ثقب أسود وابتلع كوكبنا فأنا في الأقل مع ابني ولست وحيدة مثل نكرة مجهولة في فندق باريسي بائس. طرأت لي فكرة أخرى: لماذا لا أستقل القطار إلى جنيف ولديّ هناك صديقات وأصدقاء، وقد فعلتها وسافرت قبل أيام بالقطار إلى جنيف؟ لماذا لا أفعلها لأكون على مقربة من مشهد البانوراما النووية والارتماء مباشرة في أحضان الثقب الأسود الحنون؟
وجدتها فكرة مدهشة: أن أختار نهاية عظيمة فأنجو من تفاهات وضع اللجوء في فرنسا الذي فرضته عليّ فوضى الوضع العراقي ورعبه. لم أطرح الفكرة على ابني؛ فلم أشأ أن أربكه بقرار يبدو صبيانيًّا أخرق مثل هذا بينما هو يحاول التخفيف عني بسفرات ممتعة وزيارات للمتاحف ومعارض الفنون.
كان الخوف يخيم على المدينة والناس؛ فالكل يتوقع كارثة ما لدى تشغيل المعجّل النووي (مصادم هادرون الكبير) في قلب أوربا الذي تمتد منشآته على مساحة 27 كيلومترًا مربعًا تحت الأرض في المنطقة التي تقع خارج جنيف على الحدود بين سويسرا وفرنسا.
لم يحصل ما حذر منه العلماء القلقون على مصير عالمنا وكوكبنا المسكين، فأرجأ النجاح الجزئي للتجربة مشهد النهاية إلى حرب قادمة أو تجربة علمية جديدة يجازف فيها منفذوها بمصيرهم ومصير العالم.
أُصبت بعدها وعلى مدى سنوات لاحقة بهَوَس متابعة أخبار مشروع سيرن وكل ما ينشر عنه في الصحف الأجنبية والمجلات العلمية بعد مغادرتي باريس وعودتي إلى عمّان. ولطغيان تأثيره فيَّ كتبت عنه في أحد فصول روايتي «سيدات زحل». استمرت تجارب المصادم الهادروني الكبير وأعلن علماء المشروع في 2012م عن رصدهم لوجود بوزون هيغز- جسيم هيغز الذي يمنح المادة كتلتها وأكدوا وجوده بنسبة 99,99%!
لا أظنني سأصاب بالهلع إزاء مثل هذه الأرقام المذهلة؛ فأنا عاشقة دائمة للفيزياء وعلم الكونيات والنظر للمستقبل البشري على كوكبنا الذي لم نكن أوفياء له ولم نجنبه المخاطر التي سبّبتها مطامع البشر واستنفادهم لموارده الهائلة، لكنني سأردد دومًا مع بابلو نيرودا: «أشهد بأنني قد عشت»، وأنني كنتُ ذات يوم على وشك أن تنتهي حياتي في ثقب أسود!
زيورخ: أسطورة المال وخلود الفن
أتيحت لي زيارة زيوريخ مدينة الثقافة والمال والسياسة مراتٍ خلال إقامتي في بيرن. الأولى بدعوة من المركز الثقافي العربي السويسري ومقره زيورخ لحضور يوم من فعاليات مهرجان المتنبي. كان حشد من شعراء عرب وأوربيين حاضرًا: شعراء ألمان ونمساويون وإيطاليون وآخرون من الكويت والسعودية ومصر والمغرب، وثمّة شعر ومآدب على ضفة بحيرة زيورخ وجولات في قلب المدينة.
مع ابني زرتُ زيارات أخرى لزيوريخ، تجولنا بين مقاهيها التي تتفوق على مقاهي باريس بترفها المعلن، وكدت أضلُّ سبيلي في أزقتها العتيقة بين مباني القرون الوسطى الكلاسيكية لولا برج الكاتدرائية الشامخ. سحرتني جسورها ومسارحها ونهرها الذي يتدفق بجلال الأنهار العظمى ماضيًا نحو مصيره في بحيرة زيورخ المسترخية تحت ذرى جبال الألب وقصور الأثرياء.
تفخر زيورخ كمدينة عصرية عولمية بمصارفها التي تمتد خزائنها تحت الأرض مثقلة بالذهب والأموال. عَبْرَ البنوك و(متحف الفن الحديث) الرابض في قلب المدينة توقظ زيورخ فضولك بأنامل من ذهب وجمال؛ فهي المدينة الأنثى بامتياز فتنتها ونشوة الحياة المعلنة فيها، تواجهك في اللحظة الأولى من ذهولك وتقول غنجةً بشعارها المعلن: «عِشْني لتحبّني»، هكذا تخاطبك إعلاناتها السياحية الترويجية.
زيوريخ مدينة تغويك بآفاقها الثقافية ومفاجآتها، من لحظة الوصول إلى محطتها العريقة تبدأ آيات الفن الحداثي وما بعد الحداثي بمحاورة فضولك؛ فهنا في قاعة المحطة أعمال فنية ما بعد حداثية، تجهيز ضوئي يتألق ألوانًا في العتمة الهشة للقاعة، ومعرض للصور الفوتوغرافية المدهشة لعلم الحياة تقيمه جامعة زيورخ لعرض لحظات من تشكلات عضوية برؤية بصرية مبهرة. من المحطة إلى متحف الفن الحديث مرورًا بمقاهٍ عديدة ينغمر المرء في لذائذ الحوار البشري وعبق القهوة والشوكولاتة وقراءة آخر الإصدارات من روايات وآداب أوربا والعالم.
أمام المتحف ساحته الواسعة بمصاطبها الحداثية تتيح للمنتظرين التمتع بأعمال النحات البريطاني هنري مور والفنان الأميركي ألكساندر كالدر وآخرين. تطفو في الفضاء الذي يتقدم المبنى أمامنا -ونحن في الكافيه المفتوح تحت الشمس- قطعةٌ فنيةٌ من منحوتات الفنان الأميركي الشهير ألكساندر كالدر المتحركة، تشاكس الريح والريح تحررها من سكون العناصر فيها، كالدر كان يقول: المتحرك في رأيي قصيدة ترقص على إيقاع الحياة المرح ومفاجآتها.
في كافيه المتحف طلاب فنون وكتاب وصحافيون وعشاق فنون وسيدات متأنقات ورسامون بوهيميون وموسيقيون يكوّنون خلاصة المشهد الحضاري لمدينة الثقافات.
تحت منحوتة كالدر بقطعها المعدنية الملونة ورقصها الحر ثمة منحوتة ثابتة للنحات البريطاني الأشهر هنري مور. هنري مور وكالدر يتناقضان ويتكاملان ويتعاملان مع الفضاء بعذوبة شعرية وحساسية عالية للحدوس الإنسانية والقوة الداخلية للمنحوتة لدى مور والحركية المباغتة المربكة لدى كالدر الساخر ونظرته المراوغة للكون.
الفنان السويسري الأشهر أوغستو جياكوميتي والفنان الحلمي مارك شاغال يتقاسمان نوافذ الأديرة والكنائس القوطية وسط زيورخ، ومن تلك النوافذ نطلُّ على عالم فانتازي يجمع بين الأسطورة والفن والدين.
المنشورات ذات الصلة
بيوت في البودي وربما نيبالين
ما أكثر ما فكّر آسفًا أن والده كان قاسيًا، بل بالغ القسوة، عندما بدأ ينفذ مشروعه بهدم البيت الأيمن وبناء بديل، سيكون...
صيف إنجليزي… مشاهد مستعادة من الذاكرة
من المعهد البريطاني في بغداد رُشّحْتُ عام 1978م لدورة صيفية للغة الإنجليزية في بريطانيا. تُقامُ الدورات كل عام في كلية...
البترا بلاغة الحجر
البحر الميت، أولًا اليوم نبدأ الطريق إلى «البحر الميت». سائقنا «شبْسو» الأشقر القصير المتحفّز مثل قط أريب، يشرح لنا...
0 تعليق