كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
شعر بلا كلمات.. شارلو بعيون الشاعر فيليب سوبو
طيلة مُدّة ما بين الحربين، برز فيليب سوبو كأحد المعجبين الأشد حماسًا لشارلو، وبدلًا من أن يثير فيه ذلك الإعجاب حالة من الدهشة الهادئة، فجر فيه فعل الكتابة؛ وبالحماس نفسه الذي دفعه للكتابة عن رمبو أو عن لوتريامون، أفرد هذا الشاعر السوريالي البارز نصوصًا عديدة وبليغة عن شارلو. ففي سنة 1919م كتب بوحي من سيرة شابلين «قصيدًا سينمائيًّا» انطلاقًا من حياة كلب؛ ليشارك بعد ذلك في الاحتفاء بـ«القرص الأخضر» سنة 1924م، قبل أن يسلم لمجلة «أوربا» سنة 1928م دراسة مطولة عن حياة شارلي شابلين وفنّه. ولم تكن كل تلك المقالات والأعمال في النهاية، سوى توطئة للكتاب الذي سوف يصدره سنة 1957م: «شارلو».
وهو يتناول قصة حياة شابلين، حاول فيليب سوبو سرد الحياة المتخيلة لهذا المتشرد الشهير، انطلاقًا من الأفلام التي شاهدها والذكريات التي ظل محتفظًا بها؛ كما عمل بكل حرية على إعادة تشكيل العديد من المشاهد التي بقيت عالقةً بذاكرته. ومنسجمًا مع هوس «الروايات السينمائية» الذي شاع ما بين عامي (1910: 1920م) من القرن الماضي. غدا شارلو في نظر سوبو، يمثل إلى حدٍّ ما، شكلًا فريدًا من أشكال «الكتابة السينوغرافية المستوحاة من الكتابة الروائية». وفضلًا عن ذلك، كشف لنا عن التأثير الاستثنائي لشخصية غدت معروفةً، وأضفى عليها الشاعر وجودًا آخر، مسترسلًا في مغامرات شارلو إلى ما هو أبعد من أفلامه، وكأن هذا الفنان قد غدا لدى سوبو رمزًا مستقلًّا بذاته، بل أسطورة تتيح لأي كان حرية الانفراد بالتصرف فيها. وخلافًا لكثيرين من معاصريه، ولِمَا يكون هو ذاته قد كتبه، تحاشى سوبو الخلط بين المبدِعِ (شارلي شابلين) والمُبدَعُ (شارلو)، ففي شارلو.. الشخصية وحدها هي التي كانت تُستدعَى؛ وإن أثار شارلو مثل ذلك القدر من الاهتمام لدى الكاتب، فذلك تحديدًا، لأن سوبو الشاعر كان ينظر إليه على أنه شاعر.. بل الشاعر! «بالمعنى الأكثر إطلاقًا وطفوليةً ونقاءً».
أو يكون شارلو إذن شاعرًا؟ هو في نظر سوبو كذلك، ولكن لا بالمعنى العام للكلمة، وإنما بحكم طبيعة علاقته بالوجود. فحين نطالع هذه القصة الشعرية، تتملكنا الدهشة ونحن نرى سوبو، مغاليًا في تعلقه بشارلو، يحيط قَدَرَ هذه الشخصية بهالة شعرية وامضة وغاية في الإشراق، ويجعله قريبًا من النماذج الشعرية الرمزية الكبرى، مجسمًا وجوده بكتابة إيحائية وإيقاعية ناصعة، تتبدى لنا من خلالها صورة الشاعر ساطعة وباهرة.
أن نكتب شارلو
كان الرهان لسوبو هو أن يتوفق في الإفصاح أولًا عن الوجه الشعري لهذه الشخصية. ولنذكر في هذا الخصوص بهدفه الأصلي: حريصًا على إجلال الشعر الرائع المنبعث من شخصية شارلو، أكد سوبو أن هذا الفنان لا يحتاج إلى أن نكتب سيرته الذاتية، بقدر ما نحتاج إلى أن نكتب عنه قصيدًا. هكذا.. ولترجمة وجود كان يراه سوبو شاعريًّا، كان لا بد أن تتناغم ريشة الكاتب والشاعر مع صورة الشخصية؛ وتواضع شارلو كان يستلزم تبعًا لذلك هامشًا ما من التجرد في الكتابة: قواعد مختزلة إلى أقصى حد، جمل قصيرة، مفردات مشذبة وصيغة مبسطة للمضارع:
«أحد ما يطرق الباب.. لعل معه بعض المؤونة.. مبتهجيْنِ، اندفع شارلو ورفيقه نحو الباب، ثم ارتدّا مذعوريْنِ.. إنه دب! ولكن الجوع أشد وطأة من الخوف. لنقتل الدب إذن ولتكن المأدبة».
وعوضًا عن أن تقلل تلك البساطة من قيمة القصة، فإن السرد فيها سوف يساعد على إعادة بناء الإيقاع السريع الذي طبع حياة شارلو، وكان على علاقة وثيقة بالشعر؛ إذ بإيجازها البالغ منحت الكتابة في هذا العمل الكثير من الحرية والانسياب للفاعلية التصويرية لدى القارئ. وواثق بشكل صريح من الذكريات السينمائية لهذا الأخير (القارئ) التي قد تساعد على ملء تجاويف القصة، يكون سوبو قد لامس ما كان يتحدث عنه: فهو لا يعيد سرد الأحداث، وإنما يخطط وينبُش ويومئ، وتجرد أسلوب الكتابة سوف يضمن له قراءة تضمينية بالغة التلميح. ففعل التسمية مثلًا كان يكفي، من دون وصف، تمثيل العناصر والأشياء: «حجرة باذخة في سفينة. سيجارات. ويسكي. الجميع يتدافع حولها. المخبرون الصحفيون يسألونهم عن انطباعاتهم. أثرياء متخمون بالمال. مصور يطرح أسئلة».
بأسلوبه الإشاري والإضماري، وبتردد جُمَله الرمزية، كم يذكرنا كتاب شارلو بجمالية أشعار الكاتب، التي تبدو هي الأخرى مُطَهَّرة من كل حَذْلَقة، ومتنامية على شكل ترميز إيحائي منخطف، على غرار ما كان يميز كتابة سندرارس أو ريفردي. ويحدث أن ينهوي القص أحيانًا بشكل واضح ليحط ويستلقي على القصيد: «لكأن المركب يرتجّ. يتهادى إلى السمع قرع نواقيس، دويّ صفارات، ثم عويل صفارة إنذار. المركب يرتج. ها أننا قد مضينا. أخيرًا يُفتح لهم الباب. بوسع المهاجرين، وللمرة الأخيرة، مشاهدة سواحل مسقط رأسهم. أوربا تتباعد. نسوة ينتحبن».
هنا تُجتزأ الفقرة لفائدة الشعر، ومواطن البياض التي تهوى كل سطر، تبقي على قيد الحلم. مثبتة في المد السردي، تنبثق بصورة مؤقتة «مُضْغة» من قصيد، شاهدة بشكل جليّ، على مسامية الحدود الاستدلالية والعامة، فتستبين الكتابة هكذا.. منصاعة ومرنة. وفي هذا المقتطف، يتم كل شيء، وأن الشكل يتخذ فجأة هيئة قصيد؛ ليتوافق مع موضوع أثير في التقليد الشعري (وعند سوبو أيضًا): الارتحال في البحر.
إن ذلك الأسلوب البسيط والإيحائي لَيبدو مندغمًا في المثال الشعري للكاتب. نافرًا من مزايدات الطلائع الأدبية، كان سوبو يؤثر دائمًا شعرًا سليخًا.. عاريًا، بسيطًا وشفافًا، غير منمق، لبلوغ الانفعال الأكثر أصالة. ألم ينعت نفسه بـ«الشاعر.. بالمعنى الأكثر نقاوة للكلمة»، شاعر يتلمس «كلمات لا يزينها الريش، وتتأبى على كل كفن، شعر متدفق مثل نبع سلسبيل منعش، وعلى قدر من العراء.. تغدو الكلمات معه مجرد اندفاعة ساطعة». وبهذا المعنى، تكون البساطة الانسيابية لـ«شارلو» قد تاخمت صفاء يعدل الصفاء الشعري. ولكنها ساهمت خاصة في إضفاء أجواء الشعر في حياة الممثل. وإنه لَمِنَ اللافت أن نلحظ: كم كان أسلوب الكاتب متناغمًا مع طبيعة شخصية شارلو! وهو الذي نعت أيضًا «بالشاعر.. بالمعنى الأكثر نقاوة للكلمة»؛ فهل الوضاءة الجمالية التي كان يحلم بها سوبو جاءت لتتساوق مع الوضاءة الوجودية للشخصية؟ إن هذه الوضاءة لَتُماثِلُ بداهةً الصورةً التي كانت للكاتب عن شارلو، أي تلك التي كانت تحدد بكامل الشفافية ملامح الشخصية: من فرط تعففه وإملاقه، أظهرت الكتابة وَدَاعة الرجل وصدقه وهدوءه وعفويته وبراءته، وأبان الأسلوب على نحو دقيق وأنيق الطبيعة الشعرية لهذه الشخصية الأليفة. وليس من العبث أن نشير هنا إلى أن صوت السارد بنبرته، غالبًا ما كان يدنو من صوت شارلو حد الاشتباه والالتباس؛ ففي أحيان كثيرة، كان الصوتان يندمجان في الخطاب غير المباشر والطليق، خصوصًا عبر علامات التعجب أو الاستفهام، التي كانت تترجَم بطراوة تكاد تكون طفولية: «في القرية الأولى سوف يعزف شارلو على الكمان ويجمع مالًا. سيَهَبُهُ الأهالي نقودًا وخبزًا وبيضًا. المزارعون يحبون الموسيقا. كم رائعة هي الحياة!».
إنه لمن الصعب حقًّا، الجزم لبيان مَنْ مِنَ السارد أو الممثل، يتبنى القولين الأخيرين، بالنظر إلى شدة اندماج صوتيهما في تعبيرة واحدة صريحة وعفوية. وتسهم علامات التعجب هنا في بلورة خُلُق خاصّ بشارلو الذي كان دومًا يتصرف تصرف الأطفال.
ولعل طبيعته الشعرية تعود تحديدًا إلى مثل ذلك التصرف: منتبذًا اللعبة الوضيعة للنفاق والهرولة وراء الطموحات الواهمة، يؤثر الممثل الاحتفاظ بالمثاليات البسيطة والصادقة للطفولة. وتقدمه لنا بداية القصة، وبشكل رمزي، في طور طفولته المبكرة، وهو مدهوش أمام روعة وعذوبة الطبيعة؛ وسوف يعرف شارلو طيلة حياته، كيف يحتفظ بتلك النظرة المشلحة للروح، الساذجة والمغتبطة؛ «لأنه كان لا يعرف كيف يشيخ، وكان على الدوام أشد حماسًا وتساؤلًا وقلقًا، مثلما كان، وهو لا يزال صبيًّا، ممعنًا في اكتشاف العالم والنجوم المتلألئة في رحاب القبة الزرقاء». غير أنه تبين، أن هذا الكائن التائه على صفحة الكون، كان على قدر كبير من الشاعرية: كان يمثل منهج حياة، يسمح بالإبقاء على قدر كبير من الاندهاش في هذا العالم، والتسامي على واقع محبط، واقع المجتمعات الوضيعة للأزمنة الحديثة.
منتبذًا ذلك الواقع الخالي من الشعر والسعادة، سوف يؤثر شارلو الانفلات والاعتصام بالعالم الخيالي لأحلامه -حيث يبتسم له الناس بلطافة ودماثة- ولبناء قصص خيالية أكثر إشراقًا ووضاءة. وفي ذلك، كم يذكرنا بأولئك الأطفال الذين عمروا القصص الشعرية لبداية القرن العشرين، قصص فاليري لاربو «طفوليات»، وجول سوبرفيال «طفل أعالي البحار»، وجان كوكتو «الأطفال الأشقياء».. الذين عملوا هم أيضًا على أن يستبدلوا بعالمِ الواقعِ المُنَفّرِ عوالمَ فاتنةً وعجائبيةً.
هكذا.. يتبين أن الكاتب وممثله، هما الاثنان «شعراء بالمعنى الأكثر وجاهة للكلمة»؛ لأنهما الاثنان -أحدهما بالكتابة والثاني من حيث طبيعة علاقته بالعالم- يحتفظان بسلوك طبيعي وعفوي يكاد يكون طفوليًّا. ومع ذلك، فإن شارلو، ولئن تبدى شاعري الهوى في القصة، فإن ذلك لا يعود فحسب إلى نظرته الطفولية فحسب، أو إلى لجوء سوبو إلى الكتابة الإيحائية، وإنما أيضًا بالنظر إلى أن مسيرته التي كانت تُشاكل على نحو متقطع، مسيرة بعض الشعراء الرموز.
سيماء شاعر ومسيرته
بداية من الفصل الأول، ترفع القصة شخصية شارلو وتُبَوِّئُه سُدَّةَ الشعراء. وفيما كانت مدن كثيرة تلتمس شرف أن يكون شارلو من مواليدها -كما كان الأمر مع هوميروس- فإن ميلاد هذه الشخصية كان محل فرضية أكثر رمزية من جانب السارد: «لعله في مساء ما، وعند هبوط الليل، كان هذا الشاعر قد نزل على ظهر غيمة.. من نجمة بارقة في أعالي السماء..».
مستهلة خارج أي إطار واقعي، كانت طفولة شارلو في كتاب سوبو ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالطبيعة، والفصل الأول يقدم لنا شخصية مندهشة، ممعنة في استكشاف الأشجار والأزهار والأطيار والماء، أي كل العناصر الكونية، وكل الكائنات النباتية والحيوانية. قريبًا من «الأنا» الشعرية في «فجر» رمبو، التي توقظ الطبيعة عند مرورها، كان شارلو الشاب، وهو يمرح في فردوس الطفولة، يعبُر محيطًا بشريًّا يلتفت نحوه ببالغ الود والحنو: فالقمر «يرسل إليه أجمل وأخلص شعاع من نوره»، والنجوم تغمزه، والجدول الرقراق يسديه النصيحة.. مصيخًا لشدو الطبيعة المحتفية به، غدا شارلو قادرًا على سماع وفهم لغة الكون. وفضلًا عن ذلك، احتفظ طيلة حياته بتلك الملكة وبتلك القدرة الساحرة، التي تجعل الطبيعة تهتز طربًا وسعادة كلما استشعرت خطواته. «كل أفراح العالم، الواحدة تلو الأخرى، تغدو معه على قيد اليقظة؛ فثمة فرح الصبح وفرح الغروب، وثمة فرح النجوم والخيل، فرح البالونات الحمراء والآلات البخارية (…)، الثلج يتلألأ والبحر يلتمع، وينحني خيط من نور الشمس على شجرة ويصدح بملء حنجرته…».
بحضوره شبه الساحر ذاك، يغدو شارلو تجسيدًا حديثًا لأورفيو. أليست للابتسامة العطوفة لشارلو مزايا نشيد الشاعر العتيق نفسها؟ مشرقًا.. إنه يفتن الطبيعة، وبأنفاسه الندية يبث فيها الحياة، ويمنحها جذَلًا ملؤه التناغم والائتلاف. وصورة أورفيو التي استهوت شعراء عديدين في بداية القرن العشرين، قد تجعلنا نستذكر بعض الوجوه الشعرية من المدة نفسها، وبخاصة «كرونيامنتال» أو «الشاعر القتيل» لأبولينير (1916) المستوحاة من سيرة الشاعر الأسطوري؛ ودراسة مقارِنة قد تكشف لنا عن أوجه شبه كثيرة بين هذه الشخصيات.
مولود في مكان لا أحد يعرفه، كان «كرونيامنتال» يتحاور هو الآخر مع الغابات وينابيع الماء بعد أن يكون القمر وتكون التلال قد منحته ضرعها المنعش»؛ فعلى غرار أورفيو، يعيش شارلو وكرونيامنتال في ائتلاف مع الطبيعة التي يبثان فيها الحياة، والتي في أحضانها يعيشان التجربة المولدة للذهول والاندهاش.
ولكن.. وعلى غرار كرونيامنتال، كانت لحياة شارلو خلفية أكثر قتامة: فمن الوهلة الأولى تقدم لنا القصة هذه الشخصية على أنها شخصية مقصي، ولد على هامش المجتمع، وطرد بسرعة من المدرسة، ومن ثَمّ «لم يكن ليعرف البشر». وعلى الرغم من أنه كان عطوفًا وخيريًّا، فلسوف يواجه مبكرًا عداوة وشراسة هؤلاء البشر؛ لتكون علاقته بالآخرين رغمًا عنه، شِقاقية ومُختلة. مُضايَقٌ من الجندرمة، مُستهزَأٌ به من الجميع، يتحمل شارلو، كما أورفيو وكرونيامنتال، عبء قدر مفزع ورهيب، وشراسة مجتمع يعادي الشعراء ولا يقيم لهم وزنًا. ألا يوضح سوبو في الفصل الأخير أن شارلو، وإن كان مهددًا بتخلص الآخرين منه، فإنه لم يكن ليتردد في بذل سعادته بسخاء من أجل هؤلاء، كيما يمنحهم الابتسامة. ثم كان عليه دومًا أن يغادر، أن يزداد وجعًا، أن يسقط، أن يُضرب ويكون ملاحقًا، حتى يشعر الجميع بالسعادة.
مِثْل الشهيد، يكون شارلو قد سفح حياته بكل سماحة وندًى من أجل فرحة الآخرين وهناءتهم، ورضي أن يكون محل سخرية، لتعمر وجوههم ضحكة بريئة، في عالم غدا قلقًا.. متوترًا وموهوبًا للحقد النازي. وستنتهي قصة سوبو بنبرة حذرة تحيل إلى سيرة القديسين، كما هو الشأن «للشاعر القتيل» لأبولينير، والحال أن سماحة القديسين كانت غالبًا ما تشبه بسماحة الشعراء. وكرجع صدى لما جاء في المقدمة من أن شارلو يكون، في مشهد رباني، قد نزل من السماء على ظهر غيمة، فإن الخاتمة سوف تجعله يَلِجُ، شبه مباركٍ ومقدسٍ، رحاب الأبدية. وفي ذاكرة الأجيال القادمة سيظل هذا الفنان لا محالة «الرجل الذي أضحك العالم بأسره».
حياة التيه والعزلة الأبدية
مُؤْثِرًا العيشَ على الهامش، ومتنافرًا مع الآخرين، سيجد شارلو نفسه موهوبًا لوجود دائم الانحراف مع دنيا البشر. ومرد الشعر الفاجع لوجوده أساسًا، إلى «اختلافه» الثابت عن الآخرين، وإلى صعوبة اندماجه مع من حوله من الناس، ومن ثَمّ وضع شبيه بوضع الشاعر الملعون؛ ذلك أن الرجل، وإن كان يحاول الاندماج بكل ما أوتي من جهد، فإنه كان منذورًا لا محالة للعزلة، في مجتمع كان لا ينفك يتعفف منه، يرفضه ويرده بجفاء. حتى الضحك الذي كان يثير.. كان لا يكفي: فعوض أن يجتذب إليه تعاطف الآخرين، كان هؤلاء، وفي كل مرة، يتألبون ضده؛ كيما يجعلوه ضئيلًا، بئيسًا وحزينًا.
لذلك، وهو يبحث عن هوية اجتماعية ما، كان شارلو لا يَنِي يَتنكَّرُ ويُراكمُ الوجوهَ ويتعاطى كل أنواع الحِرَف: مُتعهِّد نَقْل، قَيّم على اللواحق في المسرح، عامل مُكلّف بتركيب آلات المسرح وتفكيكها، حَلْواني، خادم بالنُّزُل، لِصّ، ملاكم، بحّار، سبّاك، موظف بنكيّ، مهاجِر… وهذا التعداد السريع، الذي يقحم الشخصية في الصخب المربك لبداية القرن العشرين، يُلمح إلى استحالة انخراطه في الأطر الاجتماعية المبلبلة، بل أكثر من ذلك.. استحالة استقراره.
ذلك أن حياة شارلو كانت تتمدد وَفْقَ النسق المتحرك لحياة التِّيه والعزلة الأبدية. مستعيدًا التصرف في شارلو المتشرد، يحيل سوبو شخصيته على بعض النماذج الرمزية للشعر، وإن كانت مفردة «المتشرد» تكتسي معنى متغيرًا تبعًا للوضعية التي كان يوجد فيها الرجل. وأحيانًا ما كان ينظر لهذا التشرد على أنه ظاهرة إيجابية، متى كان مرادفًا لنزوع الإنسان الفطري إلى الحرية والانعتاق: «يتسكع شارلو مغتبطًا عبر الطرقات، فينتابه إلى حد ما إحساس بالوحدة، ولكن أيضًا إحساس بالانعتاق»؛ لذلك كان «يعشق التيه سعيًا وراء الصدفة». إن هذا التسكع الأفعواني لَيُذكِّرُنا بالتبختر والتطواف المغامر، الذي احتفى به الشعراءُ السورياليون في أعمال مثل «الساردين- العابرين لليالي باريس الأخيرة» لسوبو، أو «مزارع باريس» لأراغون.
«ويمضي شارلو متسكعًا، مطلقًا العِنَان لأحلامه، متشوفًا إلى المجهول، مدهوشًا أمام الأسرار الليلية للمدن، يمضي وهو «صديق الليل» على غرار جورجيا التي كانت «لا تعشق غير الليل»، «لغزو ذلك الكوكب، ذلك الكون المجهول، أو المدينة الجديدة». غير أن التشرد ليس دومًا بالأمر الذي يجلب السعادة ولا سكينة الروح: إنه يكاد يتحول دائمًا، وبشكل محزن، إلى ضرب من الهروب. إن المشي قد يبدأ بنزهة مرحة في الفصل الأول من الكتاب، ولكنه غالبًا ما يتحول إلى تِيهٍ ممضّ ومريرٍ. «إنه يمشي. إنه يعيش. إنه يضحك»: ولكن ذلك قد يصلح لوقتٍ، سرعان ما يميل فيها المثال بعد ذلك إلى الذبول والاضمحلال: «إنه يهرب، إنه يتيه، إنه يعيش». فيكون تشرد شارلو حينئذ من قبيل الهروب والانكسار.
محتقر من الناس، وتائقًا بجموح إلى الحرية، سيظل شارلو على الدوام عند نقطة البداية. متملّصًا مما يحب ومما لا يحب، كان دومًا ذلك «العابر» الذي يهرول نحو المجهول، المندفع نحو الآفاق القصية للحرية، ولا قبل له بالتوقف. دائم التأهُّب للمغادرة، كان تنتابه في كل لحظة الرغبة في رحيل مُطهر، وبخاصة في بداية القصة. وتقربه تلك السمة كثيرًا من بعض شعراء العصر الحديث، وفي طليعتهم فيليب سوبو، الذي كان هو الآخر دائم الترحل، حريصًا على تجنب السكون والارتباط. وكانت تلك السمة تقربه أيضًا من شعراء آخرين أثيرين لدى سوبو: رمبو، ذلك الشاعر الذي أطلق نعاله للريح، وبخاصة بليز سندرارس، الذي نتذكر جيدًا نصيحته «أن تكون قد أحببت، فتلك علامة على رحيل وشيك». وإنه لَمِنَ المؤسف ألا يكون شارلو قد تَعَرَّفَ إلى التجربة المثيرة لرمبو أو سندرارس. ففيما توفق هذان الشاعران بحماس بالغ في تجديد حياتهما، كان مآل شارلو.. الإخفاق، فلا هو يقوى على القطع نهائيًّا مع وضعيته، ولا قدرة تسعفه للتحرر مما بات يُكَبِّله، كما لا أمل يُرتجَى من السفر بعيدًا؛ كيما تتغير هويته. عبثًا سافر إلى نيويورك، فهناك، ألفى نفسه وجهًا لوجه مع عزلته، ومع سوء حظ زاد في محنته، وقد باتت خريطة وجوده تتمدد متماثلة، فلا يرى آخر لعذاباته، غير الدوران حول نفسه، مُكَبّلًا بقيود قدره، ينتابه الخوف من أن يصبح عاجزًا على تغيير ما به، وأن يمضي وحيدًا على ذلك الدرب الرتيب.. المحزن لحيرته وتيهه.
المصدر : المجلة الأدبية الشهيرة «لوكسياس»
المنشورات ذات الصلة
«غرافيتي» على جدران الفناء
لكل فعل رد فعل، ولكل نظرية إثبات، نظرية نفي، ولكل ثقافة هنالك ثقافة مضادة. هذا يعني أن لكل شيء هنالك «اللاشيء» الذي...
كيف شَكَّلَ الحرير والنسيج تاريخ البشرية؟
يقول بعضٌ: إن التاريخ بدأ بالكتابة، غير أننا نقول: إن التاريخ بدأ باللباس. في البداية، كانت هناك ملابس مصنوعة من...
الحياة الأدبية للأشياء
يجيز مثل هذا العنوان الانطلاق من السؤال التالي: كيف تكف الأشياءُ عن أن تكون مجرد موجودات؟ ونستقي الإجابة عنه من ميريام...
0 تعليق