كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الكاتبُ الأرجنتيني والتقاليد
أُلقيت هذه المحاضرة في عام 1951م في كلية الدراسات العليا في مدينة بوينس آيرس الأرجنتينية، وفيها يشكك خورخي لويس بورخيس في الافتراض القائل: إنه من أجل أن يكون الكُتاب الأرجنتينيون أصليين يجب أن يتبعوا المعايير الأسلوبية والموضوعية المتمثلة في الأدب الغاوتشيسكي (أدب سكان الريف في أميركا الجنوبية).
يقول بورخيس: أود أن أعبر وأبرر بعض التناقضات المتعلقة بالكاتب الأرجنتيني والتقاليد الأدبية. إن شكوكي لا تتعلق بصعوبة حل تلك المشكلات، بل تتعلق بوجود المشكلة في حد ذاتها. أعتقد أننا نواجه موضوعًا فنيًّا بوسعنا أن نتناوله بأسلوب يثير الشفقة لا بأسلوب منطقي جاد فحسب. وعليه فإنني أرى أن هذه المشكلة مزيفة، ويمكننا أن نعدها مظهرًا أو مجرد محاكاة.
التناقض الأول
سأبدأ بتناقض يقدم نفسه على أنه الحل لمشكلة القومية في الأدب الأرجنتيني. أصبح هذا الحل غريزيًّا تقريبًا، ويقدم نفسه من دون الاستفادة من أي مبرر عقلاني. يؤكد هذا الحل التقليدَ الأدبيَّ الأرجنتينيَّ الموجودَ فعليًّا في شعر الغاوتشيسكو (سكان الريف ورعاة البقر في الأرجنتين) يجب أن ينير الكاتب المعاصر، وهو نموذج أصلي وربما يعد نقطة انطلاق. هذا الرأي هو الأكثر شيوعًا؛ لذا فإنني أود أن أتناوله بشيء من التفصيل.
لقد اقترح الكاتب الأرجنتيني ليوبولدو لوجونز في كتابه «El payador» أن هناك من يرى أننا نحن الأرجنتينيين نمتلك قصيدة كلاسيكية، وهي قصيدة مارتن فييرو، وأن هذه القصيدة يجب أن تكون لنا مثل قصائد هوميروس لليونانيين. يبدو من الصعب معارضة هذه النقطة من دون الإضرار بمارتن فييرو. وأعتقد أن قصيدة مارتن فييرو هي من أكثر الأعمال التي كتبها الأرجنتينيون استدامة، وأعتقد أيضًا، بالقدر نفسه من الشدة، أنه لا يمكننا عد مارتن فييرو، كما يزعم بعضٌ، كتابنا المقدس والأساسي.
أوصى ريكاردو روخاس أيضًا بتقديس مارتن فييرو، وكتب عنه صفحة في تاريخ الأدب الأرجنتيني، وتبدو وصيته تافهة لكنها ذكية جدًّا. درس روخاس شعر الغاوتشيسكوس Gauchescos مثل شعر هيدالغو، وأسكاسوبي، وإستانيسلاو ديل كامبو، وخوسيه هيرنانديز. وتوجد أصول هذا اللون الفني في شعر المطربين الارتجاليين الريفيين المعروفين باسم البايادورز payadores، أي الشعر العفوي للغاوتشوس أنفسهم. ويشير روخاس في كتابه إلى أن مقياس هذا الشعر الشعبي الأصلي عبارة عن مقطع ثماني الشكل، وهو المقياس نفسه الذي استخدمه مؤلفو شعر الغاوتشيسكو، ويخلص إلى أن شعر الغاوتشيسكو ما هو إلا استمرار أو توسيع لشعر البايادورز.
أظن أن هذا الادعاء مبني على خطأ فادح؛ لأنه من الواضح أن روخاس يقدم شعر الغاوتشيسكوس على أنه استمرار أو اشتقاق لشعر الغاوتشوس الذي كتبه سكان الريف الأصليين، وذلك من أجل إعطاء جذور شعبية لشعر الغاوتشيسكو الذي كتبه سكان المدينة لاحقًا، ويبدأ بهيد الغو ويتوج بهرنانديز. يصنع ريكاردو روخاس إذن payador من هيدالغو؛ ومع ذلك، وفقًا لتاريخ الأدب الأرجنتيني نفسه، فقد بدأ هذا النوع الشعري المفترض بتأليف سطور من أحد عشر مقطعًا لفظيًّا، وقافية تقترب في طبيعتها من مؤدي فن البايادور ممن لا يدركون تناغم القافية، تمامًا كما لم يدرك القُراء الإسبان تناغم خط الهنديكاسيلابيك hendecasyllabic، وهو عبارة عن مقطع شعري مكون من أحد عشر مقطعًا لفظيًّا، أو قوافٍ شعرية مختلفة كانت تستخدم في الشعر الكلاسيكي الإيطالي، عندما استورده الشاعر الإسباني غارثيلاسو دي لا فيغا من إيطاليا.
هناك، في رأيي، اختلاف جوهري بين شعر الغاوتشوس وشعر الغاوتشيسكو. يحتاج المرء فقط إلى مقارنة أية مجموعة من الشعر الشعبي لمارتن فييرو أو باولينو لوسيرو أو فاوستو؛ لكي يدرك هذا الاختلاف الموجود بالتساوي في المعجم الشعري وفي مقاصد الشعراء. الشعراء الشعبيون في الريف وأطراف المدينة ينظمون شعرًا بمواضيع عامة: ألم الحب والغياب، والحزن على المحبوب، وهم يفعلون ذلك بلغة معجمية عامة. وعلى العكس من ذلك، فإن شعراء الغاوتشيسكو يصيغون أشعارهم بلغة شائعة بشكل متعمد لا يحاول الشعراء الشعبيون حتى القيام بها. لا أقصد أن اصطلاح الشعراء الشعبيين هو اصطلاح إسباني صحيح، بل أعني أن كل ما قد يكون غير صحيح فيه ناتج من الجهل. وعلى العكس من ذلك، نرى في شعراء الغاوتشيسكو بحثًا عن الكلمات الأصلية ووفرة من الألوان المحلية. والدليل على ذلك أنه يمكن لكولومبي أو مكسيكي أو إسباني أن يفهم مِن فورِه قصائد البيادور -شعر الغاوتشوس- ولكنه يحتاج إلى معجم من أجل الوصول إلى فهم تقريبي لإستانيسلو ديل كامبو من أسكاسوبي.
يمكن اختصار كل هذا على النحو الآتي: الشعر الغاوتشيسكو، الذي أُنتج -وأركز هنا على الأعمال المثيرة للإعجاب- هو شعرٌ مصطنع مثل أي نوع أدبي آخر. تحاول مؤلفات الغاوتشيسكو الأولى، وقصائد بارتولمي هيدالغو أن تقدم نفسها وفقًا لشعر الغاوتشو الشعبي، كما لو كان يتحدث بها الغاوتشو من أجل أن يقرأها القارئ بنبرة الغاوتشو. لا شيء يمكن أن يكون أبعد من الشعر الشعبي. فعندما ينظم شعراء الغاوتشيسكو، فإن الناس -وقد لاحظت أن هذا ليس فقط بين سكان الريف ولكن أيضًا في أحياء بوينس آيرس- يفعلون ذلك عن قناعة بأنهم يشاركون في شيء مهم؛ ولذلك فهم يرفضون غريزيًّا الكلمات الشائعة ويبحثون عن كلمات ذات إيقاع عالٍ وتحويلات في العبارات. وفي جميع الاحتمالات فقد أثر شعر الغاوتشيسكو في الرواد في الوقت الحالي؛ لذلك هم أيضًا كثيرون في الأرجنتينية، لكن في البداية لم يكن هذا هو الحال، ولدينا دليل على ذلك (دليل لم يلحظه أحد) في مارتن فييرو.
شعر مارتن فييرو مكتوب بلغة إسبانية وبلكنة غاوتشيسكو، ولمدة طويلة لا تسمح لنا القصيدة أن ننسى أن الشخص الذي يغنيها هو غاوتشو (شخصٌ ريفي)، وشعره يزخر بالمقارنات المأخوذة من الحياة في المراعي؛ ومع ذلك هناك مقطع مشهور ينسى فيه المؤلف هذا الاهتمام بالألوان المحلية ويكتب بلغة إسبانية عامة، لا يتحدث فيه عن الموضوعات العامية، ولكن عن الموضوعات العظيمة المجردة، مثل: الزمان والمكان والبحر والليل. وأنا أشير هنا إلى البيادا payada التي تمثل المواجهة الموسيقية المرتجلة بين مارتن فييرو وإل مورينو التي تحتلّ نهاية الجزء الثاني. يبدو الأمر كما لو أن هيرنانديز نفسه كان يرغب في إظهار الفارق بين شعر الغاوتشيسكو والشعر الأصيل للغاوتشوس. عندما بدأ الاثنان من الغاوتشوس، فييرو وإل مورينو في الغناء، فإنهم ينسون أن تكلف الغاوتشيسكو يعالج القضايا الفلسفية. لقد تمكنت من تأكيد ذلك من خلال الاستماع إلى payadores في المناطق المحيطة بـمدينة بيونس آيرس فهم يرفضون فكرة التشبيه بالعامية في الشوارع، في أوريليرو ولونفاردو، ويحاولون التعبير عن أنفسهم بشكل صحيح. وهم بالطبع يخفقون، لكن هدفهم هو جعل الشعر شيئًا ساميًا ومميزًا، ويمكننا أن نقول ذلك بابتسامة.
يبدو لي أن فكرة أن الشعر الأرجنتيني يجب أن يزخر بالسمات التفاضلية الأرجنتينية واللون المحلي الأرجنتيني فكرة خاطئة. إذا سألنا عن أي كتاب أكثر أرجنتينيةً هل هو كتاب مارتن فييرو أم السوناتات في لا أورنا من تأليف إنريكي بانش، فليس هناك سبب للقول: إن الأول أرجنتينيًّا أكثر من الثاني. سيقال: إنه لا توجد مناظر طبيعية أرجنتينية ولا تضاريس أرجنتينية ولا نباتات أرجنتينية ولا علم حيوان أرجنتيني في لا أورنا في بانش؛ ومع ذلك، فإن هناك ظروفًا أرجنتينية أخرى على وجه التحديد في لا أورنا.
أستطيع أن أتذكر سطرين من لا أورنا يبدو أنهما قد كُتبا صراحة لمنع أي شخص من القول: إن هذا كتاب أرجنتيني. شطر البيتين هما: «تلمع الشمس على السقف القرمزي/ وعلى النوافذ/ والعندليب/ يعني أن تقول: إنهم في حالة حب».
هنا يبدو الاستنكار في قوله: «تلمع الشمس على الأسطح المكسوة بالبلاط وعلى النوافذ» أمرًا لا مفر منه. كتب إنريكي بانش هذه السطور في منزل على أطراف بوينس آيرس، ولا توجد أسقف قرمزية على أطراف بوينس آيرس، بل توجد أسقف شرفة مسطحة. أما البيت التالي: «العندليب.. يعني أن تقول: إنهم في حالة حب»؛ فالعندليب ليس طائرًا حقيقيًّا بقدر ما هو طائر في الأدب، وهو من التقاليد اليونانية والجرمانية. ومع ذلك، أود أن أؤكد أنه في استخدام هذه الصور التقليدية، في هذه الأسطح المكسوة بالبلاط والعندليب، وعلى الرغم من أن الهندسة المعمارية وعلم الطيور ليست أرجنتينية، فإن هناك جزءًا أرجنتينيًّا وتحفظ أرجنتيني في هذه القصيدة، حيث إن بانش، في حديثه عن حزن كبير غمره، لامرأة تركته وتركت العالم فارغًا من أجله، يستخدم الصور التقليدية مثل الأسطح المكسوة بالبلاط والعندليب؛ لتجسيد الصعوبة التي نواجهها نحن الأرجنتينيين في الثقة، وفي أن نكون حميميين، وهذا أمر مهم وحقيقي.
علاوة على ذلك، لا أعرف ما إذا كان يجب أن يقال: إن الفكرة التي يجب أن يُعرف الأدب نفسه بها من خلال السمات التفاضلية للبلد الذي ينتجها هي فكرة جديدة نسبيًّا، كما أن فكرة أن الكُتاب يجب أن يبحثوا عن موضوعات محلية في بلدانهم هي أيضًا جديدة وتعسفية. ومن دون أن نعود كثيرًا إلى الوراء، أعتقد أن راسين لم يكن ليبدأ في فهم أي شخص قد ينكر حقه في لقب شاعر فرنسي لبحثه عن موضوع يوناني ولاتيني. وأعتقد أن شكسبير كان سيندهش إذا حاول أي شخص حصره في مواضيع اللغة الإنجليزية، أو إذا أخبره أي شخص أنه، بصفته إنجليزيًّا، ليس لديه الحق في كتابة «هاملت» بموضوعه الإسكندنافي، أو «ماكبث» على السمة الأسكتلندية. وعليه فإن الاعتناق الأرجنتيني للون المحلي هي عبادة أوربية حديثة يجب على القوميين رفضها؛ لكونها مستوردة من الخارج.
قبل أيام قليلة، اكتشفت تأكيدًا غريبًا للطريقة التي يمكن بها لما هو أصلي فعليًّا الاستغناء عن اللون المحلي. لقد وجدت هذا التأكيد في كتاب إدوارد جيبون عن تراجع وسقوط الإمبراطورية الرومانية. يلحظ جيبون أنه في الكتاب العربي بامتياز، «القرآن الكريم»، لا يوجد استحضار كبير للإبل، وأنا أعتقد أنه إذا كان هناك أي شك في صحة القرآن الكريم، فإن هذا النقص في الإبل سيكفي لإثبات أن القرآن الكريم عربي. والقرآن الكريم منسوبٌ إلى محمد، ولم يكن لدى محمد، بصفته عربيًّا، أي سبب لاستيعاب أن الإبل لون عربي على نحو خاص. لقد كانت الإبل تمثّل له جزءًا من الواقع، ولم يكن لديه سبب لتفردهم ومزيتهم المحلية، في حين أن أول ما يفعله المزيف أو السائح أو القومي العربي هو إحضار الإبل، بل قوافل كاملة من الإبل في كل صفحة. لكن كتاب محمد العربي لم يكترث لذلك. بل كان كتابًا عربيًّا من دون أن يزخر بذكر الإبل. أعتقد أننا نحن الأرجنتينيين يمكن أن نكون مثل كِتاب محمد؛ يمكننا أن نؤمن بإمكانية أن نكون أرجنتينيين من دون أن تزخر كتابتنا بالألوان المحلية.
اسمحوا لي أن أعترف بشيء ما، مجرد فكرة صغيرة. حاولتُ لسنوات عديدة، وفي الكتب المنسية الآن لحسن الحظ، أن أشكل لونًا فنيًّا يعكس نكهة وجوهر ضواحي بوينس آيرس، وبطبيعة الحال كنت أتكلم بالكلمات المحلية مثل: cuchillerso و milonga و tapia وغيرها، وبهذه الطريقة كتبت تلك الكتب المنسية أو القابلة للنسيان ولكن من دون جدوى. ثم، منذ نحو عام، كتبتُ قصة بعنوان: «الموت والبوصلة»، وهي نوع من قصص الرعب، تظهر فيها عناصر من مدينة بوينس آيرس بطريقة مشوهة ومرعبة. وفي هذه القصة سميت شارع باسيو كولون شارعَ طولون؛ وسميـت quintas من Adrogue، اسم Triste-le-Roy. وبعد نشر القصة، أخبرني أصدقائي أنهم وجدوا أخيرًا نكهة ضواحي بوينس آيرس في كتاباتي. وهكذا تمكنت من تحقيق هذا الحلم المتمثل في تجسيد لون محلي بعد سنوات عديدة من المحاولة.
أود الآن أن أتحدث عن عمل لامع كان يتذرع به القوميون في كثير من الأحيان. أشير هنا إلى «Don Segundo Sombra» الذي كتبه جويرالديس. يخبرنا القوميون أن «دون سيغوندو سومبرا» هو الكتاب الوطني المميز. ولكن إذا قارنّا هذا الكتاب بأعمال الغاوتشيسكو التقليدية، فإن أول شيء نلحظه هو وجود الاختلافات. يزخر الكتاب بنوع من الاستعارة التي لا علاقة لها بكلام الريف وكل ما يتعلق باستعارات صالونات ضاحية مونمارتر في شمال باريس في تلك الحقبة. أما حبكة العمل، القصة، فمن السهل تمييز تأثير رواية «كيم» للمؤلف الإنجليزي الحائز جائزة نوبل روديارد كيبلينغ. تدور أحداث رواية كيم في الهند، وقد كتبها كيبلينغ بدوره تحت تأثير ملحمة «هاكلبري فين» لمارك توين، المعروفة بملحمة نهر المسيسيبي. وأنا هنا لا أقصد التقليل من قيمة كتاب جويرالديس؛ بل على العكس من ذلك أود أن أؤكد أنه لكي نحصل على هذا الكتاب، كان من الضروري لجويرالديس أن يتذكر عمل كيبلينغ والأسلوب الشعري للصالونات الفرنسية في عصره، وقد قرأ هذا العمل منذ سنوات عديدة. وبمعنى آخر فإنني أريد أن أؤكد أن كتابي كيبلينغ ومارك توين، واستعارات الشعراء الفرنسيين كانت ضرورية لهذا الكِتاب الأرجنتيني الذي لم يكن أقل أرجنتينية بقبوله لتلك التأثيرات الأجنبية.
التناقض الثاني
من ناحية أخرى، أود أن أشير إلى تناقض آخر: يتظاهر القوميون أنهم يبجلون قدرات العقل الأرجنتيني، ولكنهم يرغبون في حصر الممارسة الشعرية للعقل في عدد قليل من الموضوعات المحلية المتواضعة، كما لو كنا نحن الأرجنتينيين لا يمكننا التحدث إلا عن الأحياء والمزارع وليس عن الكون.
دعونا ننتقل إلى حل آخر. يُقال: إن هناك تقليدًا يجب أن نستفيد منه نحن الكُتاب الأرجنتينيين، وهو التقليد الأدبي الإسباني. وأرى أن هذه النصيحة الثانية أقل ضيقًا من الأولى، لكنها تميل أيضًا إلى تقييدنا، ويمكن تقديم اعتراضات كثيرة عليها، لكنني سأكتفي بتقديم اعتراضين. الأول: يمكن تعريف التاريخ الأرجنتيني -على نحو لا لَبْسَ فيه- بأنه رغبة وإرادة في الابتعاد من إسبانيا. أما الاعتراض الثاني فهو أن متعة الأدب الإسباني، التي أشارك فيها شخصيًّا، عادة ما تكون ذوقًا مكتسبًا؛ وغالبًا ما أستعير أعمالًا فرنسية وإنجليزية لأشخاص ليس لديهم أية قدرة على استيعاب تقاليد أدبية معينة، واستمتع القراء بهذه الكتب من فورهم دون جهد. ومع ذلك، عندما اقترحت أن يقرأ أصدقائي الكتب الإسبانية، وجدت أنه كان من الصعب عليهم الاستمتاع بهذه الكتب في غياب التدريب الخاص؛ لذلك أعتقد أن تناول الكُتاب الأرجنتينيين لصور محددة كتلك التي يستخدمها الإسبان مثلًا ليست برهانًا قاطعًا على بعض القدرات الموروثة بقدر ما هي دليل على التنوع الأرجنتيني.
التناقض الثالث
لقد وصلت الآن إلى تناقض ثالث حول الكُتاب والتقاليد الأرجنتينية، وهو رأي قرأته منذ وقت ليس ببعيد وأدهشني كثيرًا. ينص هذا الرأي على أننا -نحن الأرجنتينيين- مقطوعون عن الماضي؛ وأن هناك نوعًا من القطيعة بيننا وبين أوربا. وفقًا لوجهة النظر الفريدة هذه، فنحن الأرجنتينيين نحيا كما لو كنا في الأيام الأولى من الخلق، وأن بحثنا في الموضوعات والتقنيات الأوربية هو وهم وخطأ. وبناءً عليه يجب علينا أن نفهم أننا وحدنا في الأساس، ولا يمكننا أن نلعب دور الأوربي.
هذا الرأي يبدو لي أن لا أساس له من الصحة. وأتفهم سبب قبول كثير من الناس له؛ ففي مثل هذا الإعلان عن وحدتنا وهلاكنا وشخصيتنا البدائية، سحر عاطفي كالوجودية. قد يقبل كثير من الناس هذا الرأي؛ لأنهم سيشعرون بأنهم وحدهم بائسون بطريقة تبدو مثيرة للاهتمام. ومع ذلك، فقد لحظت أن في بلدنا، على وجه التحديد؛ لأنه بلد جديد، شعورًا قويًّا بالوقت. فكل ما حدث في أوربا، وبخاصة الأحداث المأساوية في السنوات الأخيرة أخذ يتردد صداه بعمق هنا. فقد تسبب وجود شخص ما إلى جانب فرانكو أو الجمهورية في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، أو إلى جانب النازيين أو الحلفاء في خلافات خطيرة للغاية. ولن يحدث هذا إذا انفصلنا عن أوربا. أما تاريخ الأرجنتين، فأعتقد أننا جميعًا نشعر به بعمق، وهو أمر طبيعي؛ لأن هذا التاريخ قريب جدًّا منا، في التسلسل الزمني وفي الدم والأسماء، وفي معارك الحروب الأهلية وفي حرب الاستقلال. كل هذه الأحداث قريبة جدًّا في الزمان وفي وعي العوائل الأرجنتينية.
ما التقليد الأرجنتيني إذن؟
أعتقد أن هذا السؤال لا يطرح مشكلة يمكن إيجاد حل لها بسهولة. أعتقد أن تقاليدنا هي الثقافة الغربية بأكملها، وأعتقد أيضًا أن لدينا حقًّا في هذا التقليد الغربي، وهو حق أكبر من ذلك الذي قد يتمتع به سكان أمة غربية أو أخرى. أتذكر هنا مقالًا كتبه ثورستين فيبلين، عالم الاجتماع في أميركا الشمالية، عن التفوق الفكري لليهود في الثقافة الغربية. يتساءل فيبلين فيما إذا كانت هذه السيادة تسمح لنا بافتراض تفوق يهودي فطري، ويجيب بأنها لا تفعل ذلك. يقول: إن اليهود بارزون في الثقافة الغربية؛ لأنهم يتصرفون ضمن تلك الثقافة، وفي الوقت نفسه لا يشعرون بأنهم ملزمون بها وبأي تكريس خاص؛ لذلك سيكون من السهل دائمًا على اليهودي دون غيره صنع إبداعات في الثقافة الغربية. يمكننا أن نقول الشيء نفسه عن الأدب الأيرلندي في الثقافة الإنجليزية. ففيما يتعلق بالأيرلنديين، ليس لدينا سبب لنفترض أن وفرة الأسماء الأيرلندية في الأدب والفلسفة البريطانية ترجع إلى أي تفوق اجتماعي؛ لأن العديد من هؤلاء الأيرلنديين اللامعين (شو، بيركلي، سويفت) كانوا من نسل الإنجليز، وبأنهم رجال لا يجري الدم الكلتيكي في عروقهم، ومع ذلك فإن حقيقة الشعور بأنهم أيرلنديون مختلفون، كان كافيًا لتمكينهم من صنع ابتكارات في الثقافة الإنجليزية. أعتقد أن وضع الأرجنتينيين، وأميركا الجنوبية عامة، وضعٌ مماثل لتجربة اليهود والأيرلنديين. يمكننا أن نتعامل مع جميع الموضوعات الأوربية من دون خرافات واستهتار، وقد كان لذلك فعليًّا عواقب محمودة.
وهذا لا يعني أن كل التجارب الأرجنتينية كانت متساوية في النجاح؛ إذ أرى أن مشكلة الأرجنتين والتقاليد هي ببساطة نسخة معاصرة تذكرنا بمشكلة الحتمية المطلقة. لنفترض مثلًا أنني إذا كنت سألمس هذه الطاولة بإحدى يدي، وسألت نفسي: «هل سألمسها باليد اليسرى أم اليمنى؟»، وألمسها باليد اليمنى. سيقول أولئك الذين يؤمنون بالحتمية: إنني لم أكن لأفعل غير ذلك، وإن التاريخ السابق للكون كاملًا أجبرني على لمس الطاولة بيدي اليمنى، وإن لمسها بيدي اليسرى سيكون معجزة. ومع ذلك، إذا لمستها بيدي اليسرى، فإنهم سيخبرونني بالشيء نفسه، أنني اضطررت إلى لمسها بتلك اليد. يحدث الشيء نفسه مع الموضوعات والتقنيات الأدبية. كل ما نقوم به نحن الكتاب الأرجنتينيين على أكمل وجه سوف ينتمي إلى التقاليد الأرجنتينية، بالطريقة نفسها التي ينتمي بها استخدام الموضوعات الإيطالية إلى تقاليد إنجلترا من خلال أعمال تشوسر وشكسبير.
التناقض الأخير
أعتقد أن جميع المناقشات السابقة حول أهداف الإبداع الأدبي تقوم على خطأ افتراض أن النيات والخطط لها أهمية كبيرة. لنأخذ، على سبيل المثال، حالة كيبلينغ: كرس كيبلينغ حياته للكتابة وفقًا لمجموعة معينة من المثل السياسية، وأراد أن يجعل عمله أداة للدعاية والترويج (البروباغندا)، ومع ذلك، ففي نهاية حياته، كان عليه أن يعترف أن الجوهر الحقيقي لعمل الكاتب عادة ما يكون غير معروف لدى الكاتب. ولنتذكر أيضًا حالة سويفت، الذي أراد في أثناء كتابته لـ«رحلات جاليفر» رفع لائحة اتهام ضد البشرية، لكنه ترك وراءه كتابًا للأطفال بدلًا من ذلك. وقد قال أفلاطون: إن الشعراء هم أمناء سر الإله الذي يحركهم ضد إرادتهم، وضد نياتهم كما يحرك المغناطيس سلسلة من الحلقات الحديدية.
وأخيرًا، أكرر أننا يجب ألا نخاف، ويجب أن نؤمن بأن الكون هو حقنا الطبيعي، وعلينا أن نجرب كل الموضوعات. ولا يمكننا أن نحصر أنفسنا فيما هو أرجنتيني فحسب حتى نكون أرجنتينيين؛ فإما أن يكون مصيرنا الحتمي أن نكون أرجنتينيين، وفي هذه الحالة سنكون أرجنتينيين مهما فعلنا، وإلا سيكون مصيرنا بوصفنا أرجنتينيين، هو مجرد تصنع وقناع.
أعتقد أننا إذا فقدنا أنفسنا في الحلم الإرادي المسمى بالإبداع الفني، سنكون أرجنتينيين وسنكون أيضًا كُتابًا جيدين وأَكْفاء.
رابط المحاضرة باللغة الإنجليزية : http://tadubois.com/Volumetwohomepage/Borges.pdf
المنشورات ذات الصلة
خوليو كورتاثر كما عرفته
كانت آخر مرة رأينا فيها بعضنا هي يوم الجمعة 20 يناير 1984م، في غرفته الصغيرة بمشفى سان لازار في باريس، على مبعدة زهاء...
عن قتل تشارلز ديكنز
عشت الثلاثين عامًا الأولى من حياتي ضمن نصف قطر بطول ميل واحدٍ من محطة ويلسدن غرين تيوب. صحيح أني ذهبت إلى الكلية -حتى...
الأدب الروسي الحديث.. الاتجاهات، النزعات، اللغة
يشير مصطلح «الأدب المعاصر» إلى النصوص التي كتبت منذ عام 1985م حتى الوقت الحالي. إنه تاريخ بداية عملية البيرسترويكا،...
0 تعليق