كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الفلسفة أسلوب في الحياة
أصابت جمعية الفلسفة بالمملكة العربية السعودية في اختيارها موضوع «فلسفات فن العيش والحياة المعاصرة»، للاحتفال باليوم العالمي للفلسفة الذي أقرَّته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) منذ 2002م، والذي يصادف الخميس الثالث من شهر نوفمبر. وكان لي شرف المشاركة في الندوة التي نظمتها الجمعية الفلسفية عن بعد، يوم الأحد 13/11/2022م، قدَّمت فيها بعض الأفكار الأولية فيما يمكن تسميته بخطاب الفلسفة بوصفها (طريقة للعيش) أو (أسلوبًا في الحياة)، أو شكلًا من أشكال (جماليات الوجود)، الذي نقرؤه عند فلاسفة معاصرين، منهم: بيير هادو، وميشيل فوكو، وجون غريش، ومارسيل كونش، وفريدريك لونوار، وألان دو بوتون، ومارتا نوسبوم، وأندريه جون فولك، وستانلي كفال، وأرنولد دفيدسون… إلخ.
يقدِّم هذا الخطاب قراءة جديدة للتراث الفلسفي اليوناني والروماني القديم، أو لما يعرف في تاريخ الفلسفة بالمدارس المتأخرة، الإبيقورية والرواقية، وإلى حدٍّ ما المدرسة الكلبية. وتهدف هذه القراءة، على اختلاف مؤلفيها، إلى نقض قراءة سائدة في تاريخ الفلسفة، تقوم على فكرة انحطاط الفلسفة وتراجعها عند هذه المدارس، مقارنة بالازدهار وبلوغ القمة والأوج الذي عرفته الفلسفة عند أفلاطون وأرسطو.
حكمة الاهتمام بالنفس
ولقد اتصفت هذه القراءة، شأنها في ذلك شأن مختلف القراءات الأخرى التي عرفها تاريخ الفلسفة بتركيزها على جوانب معينة، وإهمالها جوانب أخرى. ولعل أهم جانب ركَّزت عليه هو مفهوم الفلسفة ذاته الذي لم يعد يتحدَّد بالبحث عن الحقيقة النظرية، وإنما بالاهتمام بالممارسة العملية، وتحويل الفلسفة إلى نوع من الحكمة العملية في مقابل الحكمة النظرية، بحسب تقسيم أرسطي مشهور، والتأكيد للتجربة الفلسفية، وأن الفلسفة فعل تفلسف قبل كل شيء، وليست مذهبًا أو نظرية أو نسقًا. وهو ما يعني أن الفلسفة ممارسة قائمة قبل ظهور الفلسفة النظرية في اليونان. يقول بيير هادو: «كانت الفلسفة القديمة تقترح على الجنس البشري فنًّا للعيش، وعلى العكس من ذلك تبدو الفلسفة الحديثة، فوق كل شيء، كتشييد لرطانة تكنيكية مقصورة على المتخصِّصين» (الفلسفة طريقة حياة، ص399).
من هنا عمد هذا الخطاب إلى تحويل الفلسفة إلى نوع من الطب الروحاني مقارنة بالطب الجسدي، إذا استعملنا عبارة الفيلسوف والطبيب أبي بكر الرازي في رسالته: «الطب الروحاني»، وأن وظيفتها مداواة الأرواح، وتحقيق التحوُّل من نموذج الحقيقة والخطأ إلى نموذج المرض والصحة؛ لأنه من (تألَّم تعلَّم)، ولأنه كما يقول فورفيل: «لا جدوى من الفلسفة إذا لم نتخلَّص من وجع النفس» (المرجع نفسه).
تقوم هذه الفلسفة بوصفها فنًّا في العيش على جملة من الرياضات الروحية والبدنية، منها:
(أ)- تقنيات الانتباه، والتركيز على الذات، والحاضر، والجزئي. (ب)- ممارسة التأمل، وذلك بالتوجه نحو موضوع محدد، والرؤية أو النظرة الفاحصة؛ (ج)- الاهتمام بالقراءة، والكتابة، والاستماع، والحوار الروحي. (د)- الاعتناء بالجسد من خلال إجراء التمارين الرياضية، والحد من الملذَّات، وممارسة قدر من الزهد الفلسفي المتميز بطابعه الحر والذاتي. (هـ)- التواصل مع الآخر المتمثِّل في المعلِّم، والمدرِّب، وممارسة الاعتراف، والشجاعة في قول الحقيقة أو ما يعرف بمبدأ الصراحة.
من هنا ارتبطت هذه الفلسفة بالحياة العادية والمألوفة للناس ومشاغل الحياة اليومية؛ لأنها تطرح أسئلة الحاضر والراهن وتحاول إيجاد الحلول أو العلاجات المناسبة لمختلف المشكلات الحياتية. كان سينيكا يقول: «بينما نحن ننتظر أن نحيا تنقضي الحياة وتضيع». ولذلك، فإن الحكمة الموجهة للفلسفة بوصفها فنًّا للعيش هي ليست فقط حكمة (اعرف نفسك) التي ميَّزت تاريخ الفلسفة، وإنما أيضًا حكمة (اهتم بنفسك) التي نقرؤها في محاورتي أفلاطون: «الدفاع والقبيادس»، والتي تجاهلها تاريخ الفلسفة، أو بتعبير دقيق، تركها في الظل مقارنة بحكمة «اعرف نفسك» التي عرفت تألقًا، في حين أن التفلسف لا يستقيم إلا بممارسة الحكمتين؛ لأنهما تحيلان إلى النفس أو الذات في علاقتها بالمعرفة والممارسة معًا.
ولقد ظهرت حكمة الاهتمام بالنفس والاعتناء بها في الخطاب الفلسفي الأخلاقي المعاصر، وفيما يعرف بأخلاق العناية والاهتمام، الذي تمثِّله مجموعة من الفيلسوفات المعاصرات منهن على سبيل المثال لا الحصر: مارتا نوسبوم، وفرجينيا هيلد، وجوان ترونتو، وساندرا لوغييه… إلخ، وشعارهن في ذلك: اهتم بنفسك؛ لأنني أهتم بك. ويشمل مبدأ الاهتمام بالنفس في هذه الحالة كل أولئك الذين يقعون تحت مسؤوليتنا، وبخاصة أن الكائن الإنساني يعتمد على غيره لسنوات عدة من حياته. وأن كل الناس يحتاجون إلى العناية سواء في السنوات الأولى من حياتهم، أو في حالة المرض، والشيخوخة، والعاهات الدائمة.
والحق أنه إذا كان خطاب الفلسفة بوصفها أسلوبًا في الحياة، وفنًّا للعيش، قد أصبح في المجتمعات الغربية ظاهرة ثقافية، تجسدت في العيادات الفلسفية، والعلاجات الفلسفية، والانتشار المكثف لأدبيات كثيرة تُعنى بهذه الفلسفة، كالمجلات، والكتب، والأفلام، وتحولها في بعض الأحيان إلى نوع من (الموضة) أو التقليعة الحداثية عند أفراد وتجمعات ومؤسسات معينة، فإنَّه يمكننا القول: إن هذا الخطاب الفلسفي قد أصبح خطابًا عالميًّا. يؤكد ذلك درجة الإقبال على ترجمة النصوص والكتابات المخصصة لهذه الفلسفة. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة هو: ما علاقة هذه الفلسفة بخطابنا الفلسفي العربي المعاصر؟ لا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال ما لم ننظر في سؤال آخر أساسي ألا وهو: كيف قرأ الفكر العربي المعاصر الفلسفة اليونانية؟ وكيف نظر إلى المدارس المتأخرة؟
التداوي بالفلسفة في السياق العربي
لا يفاجأ الناظر في المشروعات العربية التراثية، بحضور فلسفة أفلاطون أو أرسطو بوصفها قمة الفلسفة اليونانية، وبخاصة ما قدَّموه في موضوع الأخلاق؛ إذ تكفي العودة إلى أربعة كتب ميَّزت الخطاب الأخلاقي العربي المعاصر، وأعني بذلك كتاب: «العقل الأخلاقي العربي» لمحمد عابد الجابري، وكتاب: «الإسلام، الأخلاق والسياسة» لمحمد أركون، وكتاب: «سؤال الأخلاق» لطه عبدالرحمن، وكتاب: «الأخلاق والعقل» لعادل ضاهر؛ حتى ندرك غياب المدارس الفلسفية المتأخرة، وسيادة فكرة الانحطاط، وتغليب العامل السياسي على العامل الفكري.
ونجد الأمر نفسه في الدراسات التاريخية الأكاديمية التي تتقدَّمهم دراسة عبدالرحمن بدوي الذي ربط المدارس الفلسفية المتأخرة بالخريف. يقول في تصديره العام لكتابه «خريف الفكر اليوناني» (1948): «في أماسي الخريف الرطبة ما يغري الموجود الحي بالانطواء على نفسه تأهبًا للموت. وإلى نحو من هذا الجو الباهت استجابت الروح اليونانية، بعد أن صعدت في معراج السماء الروحي حتى الدرجة العليا التي يسَّر لها بلوغها أقصى قواها، فأرهقها هذا التصعيد، ولم يكن في وسعها بعد إلا أن تنحدر حتى الهاوية، منهوكة مهزولة، فاتجهت ببصرها الكليل إلى الجانب الشاحب في الوجود، تستلهمه نظرة في الحياة جديدة، تعبر عن حالها هذا الحزن». (خريف الفكر اليوناني، ص «ب»). ويعلِّل ذلك بقوله: «لأنَّ هذه المدارس قد انصرفت عن النظر الفلسفي الصرف، وعن التفكير المجرَّد العاري عن العمل إلى الأخلاق العملية والسلوك» (المرجع نفسه، ص 7).
وردَّد هذا الحكم من بعده محمد علي أبو ريان في كتابه: «أرسطو والمدارس المتأخرة»، (1972م)، وفيه قسَّم الفلسفة اليونانية إلى ثلاثة أدوار: الدور الأول هو دور النشأة، والثاني دور النضوج، والثالث دور الذبول (ص 251)، وأكَّد أيضًا هذا التصورَ مصطفى النشار في كتابه: «فلسفة أرسطو والمدارس المتأخرة» (2006م). يقول: «لقد تحوَّلت نظرة الفيلسوف في هذا العصر من البحث عن الحقيقة المجردة للوجود وإدراك مظاهره المختلفة والكشف عن كنهها وماهيتها إلى البحث عن طريق للسلوك يحقق للفرد السعادة الذاتية. لقد انعكف الفرد على ذاته؛ لأنَّه لمَّا كان قد فقد حريته في العالم الخارجي نتيجة للظروف السياسية السائدة، فقد راح ينشد نوعًا من الحرية في العالم الباطن» (ص 262). ولعلَّ آخرهم هو مجدي كيلاني في كتابه: «المدارس الفلسفية في العصر الهلينستي» (2009م)، وفيه يقول: «وهذا يعني أن الأفكار التي تبنَّتها هذه المدارس كانت تتميَّز بأنَّها عملية أكثر من أفكار المدارس السابقة عليها» (ص 7). وهو ما يعني سيطرة القراءة الغربية لتاريخ الفلسفة على قراءتنا للتاريخ نفسه.
الرواقية في الفكر الإسلامي
ولكن مع ذلك، فإنني لا أجانب الصواب كثيرًا، إذا قلت: إن المؤرخ والمفكر الوحيد الذي خرج عن هذا التوجه الذي وسم القراءة العربية للفلسفة اليونانية سواء تلك الدائرة في فلك المشروعات التراثية العربية، أو تلك الدائرة في فلك البحث التاريخي الأكاديمي، هو عثمان أمين في كتابه: «الفلسفة الرواقية» (1944م)، وذلك بعد أن أصبغ عليها مذهبه المسمى: الجوانية. يقول: «والرواقيون على الخصوص فلاسفة جوانيون يلتفتون إلى الحياة الروحية الداخلية للإنسان، ولا يبالون بما يقع له من أحداث خارجية» (ص. «ج»). وتأكيده أثرَها في الفلسفة الإسلامية والمسيحية الوسيطية، والفلسفة الحديثة؛ ليخلص إلى نتيجة أساسية: «أن نقرِّر غير مسرفين أن الرواقية ما برحت بين المذاهب الفلسفية القديمة من أكثرها حيوية وأبعدها في الفكر أثرًا» (ص 15).
وعلى الرغم من أن الرواقية قد أثَّرت في الفكر الإسلامي القديم كله بحسب عثمان أمين، فإن هذا الأثر يُلتمس أكثر في نصين رائدين؛ هما نص رسالة الكندي: «رسالة في دفع الأحزان»، وكتاب أبي بكر الرازي: «الطب الروحاني»، وذلك لأنهما أكدا مفهومًا تأسيسيًّا في كل فلسفة تريد أن تكون فلسفة حياة، وأعني بذلك عبارتهما القائلة: «جمِّل حياتك بالأخلاق»، أو «زيِّن حياتك بالفضائل»، إضافة إلى الميراث الصوفي الثري والمتنوع الذي يحتاج إلى إعادة قراءة على ضوء مفهوم الزهد الفلسفي الذي يقوم على عنصرين؛ هما الحرية والتنوع في الممارسات. وكذلك في إقبال الباحثين العرب المعاصرين على ترجمة النصوص الرواقية، والنصوص الفلسفية المعاصرة المهتمة بالفلسفة بوصفها فنًّا للعيش، ومحاولة التأسيس لهذه الفلسفة في فكرنا الفلسفي العربي المعاصر الذي يتجلى في كتابات المفكر المغربي سعيد ناشيد، وبخاصة كتابه: «التداوي بالفلسفة» (2018م)، أو ما تحاول تقديمه بعض المؤسَّسات المعنية بتعليم الفلسفة سواءٌ على مستوى التعليم الثانوي أو الجامعي حيث تدرَّس مقرَّرات فلسفية ذات صلة مباشرة بالفلسفة بوصفها طريقة للعيش والحياة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مقرَّرات «فلسفة الأخلاق»، و«الأخلاق والمجتمع الحديث» و«الفلسفات الشرقية» التي تركِّز على فعل التفلسف عند حكماء الشرق، وأكثر من هذا ما يعرفه المجتمع المدني في عالمنا العربي من حضور وتنوع ونشاط، مستفيدًا من هامش الحرية الذي يميِّز عصرنا مقارنة بالمجتمع العربي القديم، وبخاصة من جهة تأسيس جمعيات ونوادي فلسفية تُعنى بمختلف الأنشطة الفلسفية، ومنها تحويل الفلسفة إلى أسلوب للعيش وفنٍّ من فنون الحياة.
المنشورات ذات الصلة
فيليب ماينلاندر… فيلسوف الخلاص
شنق الفيلسوف الألماني فيليب ماينلاندر نفسه ليلة 1 إبريل 1876م مُتخذًا من أكداس نسخ كتابه حديث النشر منصة أنجز فوقها...
اللاهوت والفلسفة بعد الغزالي.. هل انتهت الفلسفة في زمن الإسلام؟
في محاضراته حول «تاريخ الفلسفة»، استبعد واحد من المفكرين الأكثر تأثيرًا في العالم الحديث أهمية الفلسفة العربية...
سيرة ابن رشد.. من وجهة نظر مستعرب إسباني
هل انتهى زمن ابن رشد؟ هل تجاوز الزمن أفكاره؟ تبدو أن الإجابة: لا، فلا تزال أفكار ابن رشد مطروحة في الجامعات الغربية،...
0 تعليق