كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
عبدالفتاح كيليطو في متاهات القول
في مناسبة نيل الدكتور عبدالفتاح كيليطو جائزة الملك فيصل العالمية لعام 2023م في فرع اللغة العربية والأدب/مجال السرد العربي القديم والنظريات الأدبية الحديثة، اعترافًا بجهوده الممتدة منذ عدة عقود في قراءة النثر والسرد القديم بعيون متأملة، تستهدي بالمناهج الجديدة، وتقدم أدبنا وتراثنا بأسلوب ممتع ومقروء يدرجه في اهتمامنا المعاصر، وفي ذلك صورة من صور تجديد التراث والتنبيه إلى ما فيه من كنوز وآثار دائمة الخضرة والحياة.
نتناول في هذه القراءة كتابه الموجز المعنون بــ«أبو العلاء المعري أو متاهات القول»(١) الذي يعد نموذجًا على مؤلفاته في السرد والنثر القديم، والنفاذ إلى الموروث من بوابة التفاصيل الصغيرة والظلال الهامشية. وإن نظرة خاطفة إلى بناء هذا الكتاب وعناوين فصوله ترينا اختلافه عن المؤلفات الأخرى المتعلقة بالتراث وأعلامه، فليس الجديد هنا هو المعري، وإنما طريقة قراءة الناقد له وطريقة الدخول إلى عالمه بمواربة ومن دون ادعاء بتقديم الكلمة النهائية. وإلى جانب صفحة «تقديم» و«كلمة ختامية» تدرّج كيليطو بين العناوين السبعة التالية: الفستق، منامات أبي العلاء، جنون الشك، رُبّان الحداثة، بين الجهر والسر، روايات، الكلب الأعمى. إنها عناوين أدبية سردية في عمومها، لا تدّعي شيئًا سوى تقديم رواية أو قصة «مفككة» ممتلئة بالفراغات التي تحتاج إلى ملء، ولكن ما العمل؟ لا شيء يتم، كأن النقصان والنسبية هما الأصل!
في الفصل الذي جعل عنوانه «الفستق» ربط المؤلف بين عمر الخيام والمعري من خلال بيت واحد، أخذه أو حوّره الخيام عن المعري، لم يركّز الناقد على الاختلاف بين وجهي: الزهد، واللذة، بل تساءل إن كان الخيام ابنًا روحيًّا للمعري؟ وعن مدى قبول المعري بهذه البنوّة؟ ولعل الناقد/ القارئ هو المعنيُّ بهذا السؤال وليس المعري؛ إذ رفض المعري أن يكون له أبناء بالمعنى الحقيقي والمجازي. ويرجح كيليطو رفض المعري للأبوة؛ لأنه «يكره أن يكون دائنًا أو مدينًا، والأبوة لا محالة تخلق دينًا في عنق الابن»(٢).
ومن هذه الفكرة ينتقل إلى فستق المعرة الذي استدعى ذكره وتأويله استعمال المعري له في إحدى هداياه وذكره في رسائله. كما سيرجع إلى ربط فكرة الدَّين في موقفه من والديه، ومن استمرار النسل والامتناع عن الزواج. يهمنا هنا إبراز انتقائية الناقد واختياره معاني النصوص التي تخدم تأويله. يذكر ما اشتهرت به معرة النعمان من الفستق الجيد، حسب روايات الرحالة والمؤرخين، ولكنه اعتمادًا على المعري يكتشف العكس: «ولكن المعري يؤكد العكس، فلقد بعث يومًا بشيء من الفستق إلى أحد معارفه، وأرفق هديته برسالة جاء فيها: (ولو أهديت إليه الأفق بثرياه، والربيع الزاهر برياه، لكان عندي أني قد قصّرت. وفي هذا البلد فستق رديء يسمى «غيظ الجيران»، ومعنى هذا الكلام أنه إذا كسر، ظن جيران السوء أنه ملآن، وهم لا يعلمون أنه فارغ. وقد وجهت شيئًا منه ليعبث به أتباعه)»(٣). ومثال على تساؤلات كيليطو وقراءته هذه الحكاية قوله: «إن المعري لم يكن ليجهل أن بلدته تنتج فستقًا جيدًا، فلماذا صدر عنه هذا القول المزيف؟ لماذا يقدم الملآن على أنه فارغ؟ وفضلًا عن ذلك لو كان الفستق رديئًا أكان سيسمح لنفسه بتوجيهه؟ إن ما يود تبليغه في الواقع هو أن مخاطبه لن يستدين بتسلمه للفستق، أي لن يكون ملزمًا بأن يهب له شيئًا مقابل ما توصل به… فكأن المعري يسعى إلى تقويض مبدأ الهبة الذي يسود العلاقة بين الناس، الهبة لا بد أن تقابلها هبة مماثلة أو مشابهة. ولكن أنى له ذلك؟ يود أن يلغي منطق الهبة والتبادل»(٤).
شطح الأسئلة
ووفق منطق القراءة الاعتيادية يمكننا أن نستنتج أن كيليطو قد ذهب بعيدًا وشطح بأسئلته، فمعرة النعمان اشتهرت حقًّا بفستقها حتى اليوم، ولكن كما هي الحال في البلدان التي تشتهر بسلعة ما فإنها تتوافر على أسوأ الأصناف وأجودها، فالوفرة تقترن بفرصة التفاوت، فليس كل فستق المعرة من الصنف الأجود، ويبنى على هذا أن المعري اختار نوعًا أو صنفًا رديئًا فارغًا سماه باسمه المتداول في البلدة: فستق غيظ الجيران، ولم ينفِ وجود الأصناف الجيدة، بل اختار النوع الفارغ ووجهه ليقوم بوظيفة الهدية الفارغة التي يقتصر دورها على إلهاء الخدم والصبيان والأعوان! هل يستهين كيليطو بهذه الوظيفة؟ ولذلك فليس ثمة تزييف في الخطاب؛ إذ كيف يرسل فستقًا جيدًا ويسميه رديئًا؟ هذا لا يستقيم! وإنما اختار الصنف الرديء الفارغ اختيارًا يتوافق مع الوظيفة التي يريد من الهدية أن تؤديها. ويمكن مع هذا التصويب في فهم النص أن نصل إلى النتيجة نفسها: تقويض فكرة الهدية والعبث بها، ضمن إلغاء أبي العلاء للاعتياد وللثقافة المتوارثة، ومن ذلك جملة الطقوس والعادات المكررة التي أعلن رفضها وجاهر بالخروج عليها دون مواربة.
يعوّل كيليطو على مهارة القارئ وحصافته في التأويل والتقاط المضمر والمسكوت عنه، فما من مؤلف بريء، وإنما الكتابة مرتبطة أشد ارتباط بالارتياب، وربما تأكيدًا على هذا وتلويحًا به جعل «الارتياب»(٥) –في تقديمه- مبدأ يلحق بأعلام المؤلفين، وعرض وقائع سردية تتصل بمواقف شخصية من ذكرياته تتصل بارتياب المُتَلَقّين الأجانب بوجود الجاحظ والمعري، وكأنهما شخصيتان سرديتان لسنا على يقين من وجودهما التاريخي أو الفعلي. يترك كيليطو فجوة في نهاية المقدمة؛ إذ يسكت عند ارتياب المتلقين، ولا يحدّثنا عن ارتيابه هو، ولعل المعنى البعيد لهذا الارتياب ليس التشكيك في الوجود التاريخي، فقد وُجد الجاحظ ووُجد المعري، ولكن أية صورة من ذلك الوجود بين أيدينا؟ كل محاولة لقراءة المعري أو الجاحظ أو غيرهما هي صورة «متخيلة» ومحاولة لمحو الارتياب، ولكنها ويا للمفارقة، تضاعف من ذلك الارتياب بدلًا من إزالته.
ويلتقط كيليطو تفاصيل جزئية من بعض الرسائل والحكايات الصغيرة، ويحاول تأويلها وتفكيكها كما يفعل في السرديات الصغرى، فهو في الأساس قارئ سرد، وربما لذلك أضفى على الكتاب كله روحًا سردية حتى في أسلوب كتابته، وطريقة عرض مادته، ويستخرج من باطنها خيطًا ما يفسر غموض المعري ويلقي ضوءًا جديدًا عليه. يتميز كيليطو بأسلوبه وطرقه في الربط أكثر مما يتميز بآرائه أو بالجديد فيما يكشفه. النص النقدي عنده أقرب إلى نص أدبي، فالناقد/ الباحث هنا «قارئ» مؤوّل، يحاول أن يفسر الحكايات والأخبار حتى الموضوعة منها تبدو ذات دلالة.
لا يكشف كيليطو عن منهجه بيسر، يتركه لتأويل القارئ وتسميته، إنه مثل بقية «التفكيكيين» لا يعد صنيعه «منهجًا»(٦) أو على الأقل يرفض أن يطلق عليه هذا المصطلح الذي ينتمي لعصر العقلانية، والفلسفة الكلية، لا يسمي هذا الصنيع أكثر من طريقة قراءة ومسار تأويل محتمل، ويتراجع البعد البحثي إلى درجة الصفر، ليحل مكانه البعد القرائي، ومن آيات ذلك أنه لا يشغل نفسه بتحقيق النصوص، أو بالرجوع إلى المصدر الأصلي، وأحيانًا يعتمد على المتداول منها دون توثيق.
متوائم مع نفسه
يخرج القارئ لهذا الكتاب بقراءة ممتعة، تشبه قراءة أثر أدبي مشوّق، لكنها قد لا تضيف كثيرًا إلى معرفته بالمعري؛ إذ إن تصعيد بعض الحكايات وتحريكها بأدوات سردية لا يضيف جديدًا إليها. كيليطو متوائم مع نفسه، لقد مارس «هوايته» القرائية في ملاحقة سلسلة من الحكايات الواردة في تراجم المعري وأخباره، وهي حكايات سهلة، ولدى المؤلف خبرة في تحليل الحكاية وظّفها في هذا الجانب، ولكن اللزوميات مثلًا لم ينل كبير اهتمام، والفصل الموضوع عنه ظل يدور في فلك المقدمة وبعض الأبيات بقصد الاستشهاد أكثر من التحليل، ولذلك نحسب أن هذه القراءة ظلت على عتبات عالم المعري، وتلصصت من نوافذ عزلته، ولكنها لم تكشف كثيرًا من مكونات عالمه الفكري الخصب والصعب.
القراءة التأويلية التفكيكية عند كيليطو قراءة سردية تطور قراءتنا للحكاية وللسرديات ولكنها لا تفتح أفقًا لقراءة شاعر فيلسوف، أدواتها تفكك وتقوّض أمورًا جزئية، ولكنها لا تتقدم أكثر من ذلك. إذن كتاب تفكيكي حول المعري ولكنه يدور في فلك حكاياته وأخباره أكثر من آثاره ومؤلفاته الصعبة. مع ذلك يحمد له ما يمكن أن يلتمس في منهجه من تدقيق ومن نفاذ من الزوايا المنسية والهامشية، ومن التعويل على دور القارئ نفسه في انتباهاته وذكائه، وفي حَفْز المتلقي ليغدو قارئًا أيضًا للمعري وللمادة نفسها، من دون أن نفرض عليه رأيًا محكمًا أو نهائيًّا، إنها قراءة حوارية لا تميل إلى الحسم، وقراءة أدبية تتفلت من جفاف البحوث وشعاراتها العلمية.
ينظر كيليطو للمعري بصفته «كاتبًا» يعي دور القارئ، ولذلك يعتني بما بين السطور، ويطالب بقراءة يقظة مرتابة: «هذا الإلحاح على أنه يخفي ما يعلم، قد يعود إلى كونه يخشى ألا يبصر القارئ ما يريد قوله حقًّا، أي ما لم يقله بصفة جلية صريحة، لهذا يحرص على لفت انتباهه، داعيًا إياه إلى نهج قراءة تكشف عما لم يكتبه، أو عما كتبه بين السطور. إنه في نهاية الأمر يطالب بقراءة حذرة يقظة مرتابة. لكن ألا تثير الكتابة بين السطور ظنون قارئ سيئ النية وميال إلى الإيذاء؟»(٧).
ويستطرد في الهامش موضحًا ما يقصده بهذا الضرب من «الكتابة»: «الكتابة بين السطور ليست بطبيعة الحال وقفًا على المعري… إنها على العموم تفترض تداول كتاب ما بين صنفين من القراء: قراء الصنف الأول لا يرون فيه إلا عرضًا موافقًا ومطابقًا للآراء الشائعة؛ أما قراء الصنف الثاني فِلمحون فيه شيئًا مختلفًا؛ لأن لهم طريقة في القراءة لا يمتلكها الآخرون. فهم مثلًا ينتبهون لتناقضات المؤلف ويتجنبون عزوها إلى نقص أو خلل في نمط استدلاله، خصوصًا عندما يشير المؤلف نفسه إلى احتمال وجودها كما فعل المعري في اللزوم»(٨). وهو يحيل إلى ليو شتراوس في «الاضطهاد وفن الكتابة» في إشارة دالة على مرجعياته البنيوية والتفكيكية. هذه المقاطع حول القراءة والكتابة والارتياب تذكر بمنهج كيليطو نفسه، وهو ينسى أو يتغافل أن المعري لا يكتب، وإنما يملي، وأنه ما عرف الكتابة قط لارتباطها بالبصر، أما ثقافة السمع، وآلية «الإملاء» في التأليف فنحسب أنها شيء مختلف كلية عن الكتابة، وينبغي اشتقاق معايير قرائية لتلائم هذه «الشفاهية» القدرية.
ومن الفقرات المتعلقة بعلو الاهتمام بالتأويل قول كيليطو: «تكمن المشكلة إذن في التأويل، في الطريقة التي قرئت بها اللزوميات. فالمعري يقصد شيئًا، وقُرّاؤه (أو فئة منهم) يصرون على رؤية شيء مخالف، فيعكسون الآية، فإذا بكتاباته تكتسي معنى لم يرده ولم يكن في حسبانه. هناك والحالة هذه سوء تفاهم فظيع، تغذّيه نية مبيتة للإساءة إلى المؤلف»(٩).
يحضر الناقد هنا في إهاب قارئ متمكّن، لكنه يقدّم قراءته بتواضع غير مفتعل، بعيدًا من لهجة التعالم التي شاعت في مصنفات المؤلفين، كتاب في أقل من مئة صفحة من القطع الصغير، بفصول موجزة بعناوين دالة، وهو لا يدعوك إلى تصديقه، بل يدعوك إلى مزيد من التأمل، وإلى التشكّك فيما يقول، ويترك لك حرية التأمل والتفكير. إنه –كما يقول واحد من أبرز قرائه- «لا يسعى إلى الكشف عن حقيقة المعري، فيما وراء التأويلات المتضاربة والآراء المتناقضة، ولا يهدف إلى القول الفصل في مسألة تديّن المعري.. بل يحاول أن يظهر لنا الشاعر في تناقضاته وصراعه بين الإفصاح والإضمار، والانكشاف والإخفاء»(١٠). مكتفيًا بلذة القراءة ووجوهها المتعددة، مستريحًا إلى حدّ من مقتضيات المنهج وإكراهاته المتعدّدة.
هوامش:
(١) عبدالفتاح كيليطو، أبو العلاء المعري أو متاهات القول، ط1، دار توبقال، الدار البيضاء- المغرب، 2000م.
(٢) المرجع نفسه، ص12.
(٣) المرجع نفسه، ص13.
(٤) المرجع نفسه، ص14.
(٥) للمؤلف كتاب صغير آخر عنوانه «الأدب والارتياب» فلفظة الارتياب أساسية في منهجه، أو طريقته القرائية.
(٦) انظر: سامي عبابنة، التفكيكية وقراءة الأدب العربي القديم، ع.كيليطو نموذجًا، في: دراسات (العلوم الإنسانية والاجتماعية)، الجامعة الأردنية، مج 42، ملحق 1، 2015م، ص1075، وما بعدها.
(٧) ع.كيليطو، أبو العلاء المعري أو متاهات القول، ص49.
(٨) كيليطو، المرجع نفسه، هامش ص49.
(٩) ع.كيليطو، المرجع نفسه، ص51.
(١٠) عبدالسلام بنعبد العالي، الأدب والميتافيزيقيا-دراسة في أعمال عبدالفتاح كيليطو، ط1، دار توبقال، الدار البيضاء-المغرب، 2009م، ص35.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق