كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
معتزل الكتابة
تمثل أشكال الاعتزال المختلفة حلمًا يراود الكتّاب على الدوام؛ لأن مهنتهم تحتاج إلى الوقت أكثر من أي شيء آخر. وقد يكون الاعتزال حقًّا أعلى أولويات الكاتب، ولذا فإنه يدأب ما استطاع على توفير الوقت والمكان القادرين على مدّه بالهدوء اللازم لإنجاز ما يريد كتابته. واليوم تزداد أهمية هذا الحلم بسبب تسارع رتم الحياة وكثرة المشاغل وتفاقم الضغط الناشئ منها. فيغدو استقطاع وقت ينأى به المرء عن مشاغل الحياة اليومية وقلقها من أجل ترتيب الأوراق وإنعاش الحسّ الإبداعي وإعادة النظر في عملية الكتابة وتأملها أمرًا لا غِنى عنه. ولقد لمستْ هذه الحاجةَ هيئةُ الأدب والنشر والترجمة، فعملت على إعداد مبادرة معتزلات الكتابة وتنفيذها، والمبادرة من ضمن حزمة مبادرات تهدف إلى تغيير مفهوم الكتابة، والاعتراف بكونها مهنة وحرفة لها متطلباتها الخاصة وفرص تطويرها، ولا شك أن هذه النظرة تمثل منعطفًا مهمًّا في التاريخ الأدبي المحلي.
تسنّى لي أن أشارك في واحدة من هذه المعتزلات، وهو معتزل الكتابة الذي أقيم في مدينة عنيزة آخر شهر ديسمبر الماضي، وأفيد من الفرصة التي أتاحها لي وبضعة كتّاب آخرين عرب. أقيم المعتزل في مكان ساحر محاط بالخضرة ويضمن أقلّ ما يمكن من النشاط البشري في حرص على استثمار العلاقة بين الطبيعة والممارسة الكتابية. وأستطيع القول: إن المعتزل حقق أهدافه المتمثلة في إيجاد وقتٍ ومكانٍ مناسبين لإكمال مشاريع كتابية أو بدئها، وقد حظيت بأن كنت شاهدًا على نصوص بُدئت في أثناء المعتزل، وأخرى أُكملت فيها، بل مسوّدات لقصص كُتبت بالكامل تقريبًا. لقد وفّر المعتزل الاسترخاء المطلوب لذهنية الكتابة وإنعاش قوة الإبداع وترميمها، إضافة إلى إتاحة الفرصة لأنْ يعيد الكاتب الاتصال بذاته المبدعة والتواصل مع عمليته الكتابية.
كان برنامج المعتزل مجدولًا يجمع بين التنظيم والمرونة، بما فيه من حصص طعام وفُسَح وجولات سياحية وعمل، ويعين على تهذيب عادات حسنة مثل تنظيم الوقت.
ولعل أميز ما فيه ورشُ عمل كتابية قامت على التناقش عن كثب حول قصص المشاركين الذين قرؤوا نصوصها وتلقّوا حولها الآراء والتعليقات والمشورة أحيانًا، وربما مارسوا مهاراتهم النقدية في التعليق على نصوص غيرهم. كما أن المعتزل أسهم على قصر مدّته في بناء إحساس المشاركين بمجتمع كتابي وتطوير هذا الإحساس من خلال التواصل الفعال مع مجموعة صغيرة من الأقران لا تتوانى عن تقديم الدعم والتوجيه، وقبل ذلك الإلهام والتأثير.
إن معتزلات الكتابة تجربة تقع على ملتقى طرق، وهي السياحة الثقافية، صناعة الثقافة، الرعاية الأدبية والتنشيط الثقافي، وهذا يزيد من حيويتها وأهميتها. ويكاد مأخذي الوحيد على المعتزل الذي شاركت فيه هو أن برنامج المعتزل متروك تقريبًا لميسّر المعتزل، ونجاحه وقدرته على تحقيق أهدافه يعتمد على رؤية الميسّر وتصوره للمعتزل. لكني آنستُ من القائمين على هذه المعتزلات حرصًا على صقل التجربة وتطويرها، وأعتقد أنه بمزيد من المراجعة والتقويم تؤدي وظيفتها وتستوفي الأهداف التي وضعت من أجلها. كما أرجو أن توجد برامج أخرى تصبّ في المصلحة ذاتها، مثل مِنح الكتابة والتفرّغ والمعتزلات المطوّلة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق