كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
بينالي الشارقة 15 «جنوب العالم».. يفكك تاريخ «الشمال» ويعيد التفكير فيه
لا تبدو النسخة 15 من بينالي الشارقة التي اتخذت من «التاريخ حاضرًا» شعارًا لها، مجرد تظاهرة فنية، وإن كانت مبهرة وهائلة وتمثل أقصى ما يطمح إليه أي فنان أو مهتم بالفنون في العالم. إنه جحيم في معنى آخر، الجحيم الذي عاشته الشعوب المستعمرة، والجماعات المهاجرة والأقليات المقتلعة، جحيم ضحايا الإبادة وعسف الدكتاتور وبطش السلطات. غير أن ثمة فارقًا جوهريًّا بين أن تعيش في جحيم وبين أن تتأمل أحوال الذين عاشوه وتعايشوا معه رغمًا عنهم.
يفتح البينالي الذي انطلق في 7 فبراير التاريخ المطلق للإنسانية، من وجهة نظر ما بعد الاستعمار، وما انطوى عليه هذا التاريخ من بؤس وعذابات وشقاء سيصعب التآلف معه حتى وهو في صورة ماضٍ. تاريخ صفحاته مليئة بالأغلال والقيود والأطراف الصناعية، والاقتلاع والمصادرة والاستعمار، استعمار الأرض والعقل، تاريخ مملوء بالظلم والاعتداء على الطبيعة وعلى المقدسات، وقيم الرأسمال المجحفة. تاريخ الجسد المعذب والمقهور والذات السليبة المفرغة من جوهرها. ليس تاريخًا واحدًا الذي يحضر في بينالي الشارقة ويأخذ منه عنوانه، إنما تواريخ للقهر والعبودية ولسيادة الغرب والغطرسة الإمبريالية منذ ما قبل التاريخ إلى ما بعد الحداثة.
تُراوِح الأعمالُ التي نفّذها عشرات الفنانين من أنحاء العالم، بين تفكيك تأويلات العرق والأنوثة ومواجهتها، والجسد بصفته سجلًّا للعنف والانتهاكات؛ بين الإجحاف التاريخي الذي خلّفه الإرث الاستعماري، والإجحاف الصناعي للعمال البسطاء؛ بين استعراض النفور والإحباط اللذين يمكن أن يشعر بهما الفرد عند مواجهته ثقافة غريبة، وتأكيد الإرادة الحرة من خلال التمثيل الذاتي ومواجهة الاستيلاء التاريخي على الممتلكات…
بينالي يحتفي بثقافات وصرعات الفن في مرحلة ما بعد الاستعمار، وينتقد ابتعاد الفن من المجتمع، منددًا بالهيمنة الغربية على وسائط التعبير وتوجيهها إلى شريحة محدودة من البشر. بينالي الشارقة 15 في أحد معانيه هو رد الجنوب العالمي، الجنوب الغني بثقافاته وحكاياته لكن المَقْصِيّ والمهمّش، على الشمال المتغطرس أحادي النظرة.
زعزعة الثقافة المهيمنة
مثّلت الأعمال المشاركة ما يشبه التدخلات الفردية لزعزعة الثقافة المهيمنة، وابتكار فرص جديدة للوجود، مع تسليط ضوء ساطع على الحقائق المنسية، وإعادتها إلى الذاكرة، فيما يشبه مساءلة للتاريخ وجردة حساب معه. كما فعّل البينالي إمكان ظهور أجيال جديدة من الفنانين الملتزمين بقضايا الذات، بصورة لا تنفصل عن الايمان بالإنسان، فردًا أو في صورة مجاميع، مع تأكيد أحقية هذا الإنسان في النضال، سواء في الحاضر أو في الماضي. مفاهيم كثيرة عبرت عنها الأعمال المعروضة، تجلّت عبر وسائط متعددة، تخصّ الاستعمار وما بعد الاستعمار والذات والجسد والعنصرية والاقتلاع والرق والحداثة.
من ناحية، كأنما البينالي وهو يقدم الشقاء الإنساني، يستعرض في الوقت عينه تاريخ تحول الفن وتطور مفهومه وانفتاحه، من صور وأشكال بدائية إلى فن مفاهيمي وما بعد حداثي، يتوسل وسائط وخامات بلا حصر، منها ما هو بصري وموسيقي وأدائي وكرتوني ووثائقي وفوتوغرافي، أو يمزج بينها كلها. إنها رحلة شاقة ومتعبة ومجهدة للإنسانية نحو خلاصها، مثلما هي ممتعة وشائقة ومثيرة للأسئلة الحارقة للجمهور، الذي تنقل طويلًا بين أعمال أخذت أماكنها في مدن وساحات عدة في إمارة الشارقة. مشدوهًا وقلقًا ومعجبًا هذا الجمهور، تارة يستأنس هذا العمل، وتارة أخرى يخشى ذلك العمل، الذي أيقظ بشاعة المستعمر ودموية السلطة الغاشمة وطبقية الغرب.
ابتعاد من التمثيل الوطني
لئن تأسست نسخة البينالي 15 على رؤية الناقد والقيم النيجيري أوكوي إينوزور (الذي أثرت أفكاره في الفن المعاصر وأفضت إلى صياغة مشروع فكري طموح رسَمَ معالم تطور الكثير من المؤسسات والبيناليات حول العالم) وتصوره لها بوصفها منصة لاستكشاف نسخ البينالي السابقة، وأسلوب مواجهة مع أحادية اللغة الفنية نظرًا لما تحتكم عليه من سلطة إقصائية، وأفق لتصور مساحة نظرية وفعلية للتفكير بالتاريخ حاضرًا، فإن الشيخة حور القاسمي قيّمة البينالي ورئيسة مؤسسة الشارقة للفنون، وسعت من هذه الرؤية، وأضافت تفاصيل مهمة، انطلاقًا من خبرتها الطويلة في البينالي وفي ضوء تجربتها الشخصية مع الفنون. فهي أضافت أسماء جديدة، إلى لائحة الأسماء العالمية التي اقترحها إينوزور، قبل رحيله، لإنجاز 30 عملًا، بعدد السنوات التي مضت على انطلاق البينالي في دروته الأولى، في سعي إلى بلورة مفهوم عميق وشامل للبينالي. ابتعدت القاسمي من التمثيل الوطني لفنانين من الدول العربية والإسلامية، «فهذا النموذج لم يعد ملائمًا لتجارب الجيل الحالي وميوله»، كما توضح. يسعى البينالي، في رأي حور القاسمي، إلى تسليط الضوء على الأولويات المؤسسية الناشئة والبعيدة من الممارسات الغربية.
مقاربة إينوزور لما بعد الاستعمار ستنعكس على رؤية عشرات الفنانين، ينتمون إلى ثقافات متنوعة، فأعادوا تصور التاريخ والحاضر بشكل نقدي، مقترحين وجهات نظر تؤسس لروابط بين التاريخ والممارسة الفنية، وهو ما يدفع المتلقي لبلورة تصوره الخاص، للوصول إلى الحقيقة الغائبة، لبؤس الإنسانية في لحظات عصيبة من تاريخها. الأماكن التي عرضت فيها الأعمال أضحت قديمة وتنتمي إلى الماضي، لكن البينالي أحياها من خلال ربطها بعشرات الأعمال التي أنشأت فيها. أي إتاحة الفرصة لإقامة حوار مع الأماكن التي لا يقصدها الفن عادة، ومع السكان المحليين الذين استبعدتهم برامج الفن المعاصر، أو «محاولة لإقامة حوار بين عروض البينالي والأعمال التي يستضيفها وبين الأماكن التي رسمت ملامح الشارقة بعمقها التاريخي وثرائها الثقافي»، بحسب الكلمة التي ألقتها الشيخة حور القاسمي في حفلة الافتتاح. وكان أوكوي إينوزور رأى في الشارقة، مكانًا مثاليًّا «لإقامة حدث يبقى حاضرًا في الأذهان على امتداد السنين».
الفنانات يستأثرن بالجوائز
في حفلة الافتتاح أكدت الشيخة حور أن رهان الشارقة التاريخي هو رهان على الثقافة بمختلف تجلياتها، وعلى الإنسانية بمختلف إثنياتها ومرجعيتها، «وقد حاولنا أن نضيف شيئًا جديرًا بإرثها الكبير، خصوصًا ونحن نحتفي بمرور ثلاثين عامًا على انطلاق الدورة الأولى من بينالي الشارقة». في حين تطرقت الشيخة نوار بنت أحمد القاسمي مدير مؤسسة الشارقة للفنون في كلمتها إلى الجهود التي بذلت للتحضير للبينالي، الذي أضحى، كما تقول، عاملًا أساسيًّا في استقطاب الفنانين والقيّمين والعاملين في الحقل الثقافي والإبداعي من أنحاء العالم.
وفي الحفلة نفسها كرّم حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي، الفائزين في البينالي، وهم بشرى خليلي عن عملها «الدائرة»، ودوريس سالسيدو عن عملها «مُجتث»، وهجرة وحيد عن عملها «ترنيمة»، إضافة إلى جوائز الإشادة الشرفية التي مُنِحَت الفنانين: لي كاي تشونغ، وتانيا الخوري، وغابرييلا جولدر، وأمار كانوار، وجويري مينايا، وفارونيكا صراف. في حفل الافتتاح توالى صعود الفنانات إلى منصة التتويج، فكانت مفاجأة سارة للمرأة، التي طالما هُمّشت وانتُهِكت حقوقها لصالح الرجل، فها هي تتحقق فنيًّا وتحقق جوائز مرموقة، في بينالي مَعْنيّ ليس برد الاعتبار للمهمشين فقط إنما أيضًا بتكريمهم والتذكير بهم.
الأعمال الفائزة
ترافق انطلاق البينالي صدور كتاب البينالي، الذي مثّل دليلًا للفنانين أنفسهم وللمهتمين، وأتاح معرفة نوعية بالأعمال، التي لا يمكن الإحاطة بمكنونها من أول نظرة، فهي جاءت على مقدار كبير من التركيب والتعقيد والتجريد، وتقرأ التاريخ بمستوى عالٍ من الوعي، وبالتالي تطلب خبرة عميقة وواسعة للتعاطي معها. نتوقف هنا عند بعض الأعمال، منها ما هو فائز ومنها ما أُشِيدَ به، وغير ذلك من أعمال. «مجتث» عمل تركيبي للكولومبية دوريس سالسيدو، يأتي في سياق بحث الفنانة في أشكال العنف الذي يتعرض لها المهاجرون والنازحون واللاجئون. يتألف العمل من 54 شظية مأخوذة من 200 شجرة ميتة منحوتة على شكل منزل متهالك وغير صالح للسكن، في رمزية إلى مأزق الزوال الذي يعانيه اللاجئون، في حين يجسد العمل مظهرًا خارجيًّا راديكاليًّا، بالإشارة إلى كتابات المُنظّر السياسي أشيل مبيمبي حول التفاوتات المتزايدة والمتطرفة التي تفرض الهجرة الدائمة كشرط لازم للبقاء من جهة، والمواقف المعادية للأجانب التي تنظر إلى مجتمعات اللاجئين المتزايدة في العالم على أنها مجرد فائض سكاني في عالم تتقلص فيه الموارد من جهة أخرى. تعزي الفنانة هذا الانتقال القسري للناس إلى التدمير البيئي الذي خلفته الرأسمالية، فتتلاعب بمواد عضوية لإنتاج قطعة فنية ضخمة بنبرة تهكمية، ليصبح عمل «مجتث» بذلك موقعًا لتناقض صارخ ينقلب ساكنًا ومقلقلًا وعنيفًا وخاملًا على حين غِرّة.
«الدائرة» عمل تركيبي لبشرى خليلي يعرض الفصل الثاني من مشروع الفنانة المستمر الذي يستقصي إرث حركة العمال العرب ومجموعتها المسرحية «العاصفة». يركز العمل على قصة كمال جلالي، وهو اسم مستعار لعضو مجهول في «العاصفة» شكل ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 1974م في فرنسا دعوة لملايين العمال غير المسجلين والمحرومين من حق التصويت لتأدية دورهم كمواطنين فاعلين. وأصبح هذا الترشح بمنزلة عرض أدائي عامّ يعرض حرمان المهاجرين من الحقوق المدنية مسرحيًّا، ويُبرِز نوعًا من التمكين والوكالة الذاتية، ولا سيما بسبب اضطرار المجتمعات المهاجرة إلى اتخاذ الحياد السياسي خوفًا من الترحيل. ومن خلال إعادة تمثيل قصته باستخدام العروض الأدائية والمواد الأرشيفية، تستعرض خليلي الإرث المنسي لمرحلة جوهرية في تاريخ الصراعات التي خاضتها المجتمعات المهاجرة لنيل حقوقها.
«ترنيمة 2» للفنانة الإيرانية هجرة وحيدي، يسعى إلى استكشاف الترنيمة بوصفها وسيلة لتأمل الصيغ الراديكالية للجمعي والتمثيل الصوتي. نفذت الفنانة العمل التركيبي داخل غرفة صوتية مخروطية فريدة، مستعرضة سبع أغانٍ كانت مفصلية في الانتفاضات الشعبية التي قادتها النساء والحركات الاجتماعية الجماهيرية والنضالات المناهضة للاستعمار في الأميركيتين وإفريقيا وآسيا. وعلى الرغم من القمع والحظر الذي تعرضت له هذه الأغاني والأنماط الموسيقية، فإنها لا تزال كثيرة التداول بين النساء ويتوارثنها جيلًا بعد جيل. تعاين الفنانة من خلال تضخيم هذه الأصوات غير المسموعة في كثير من الأحايين، قيادة المرأة ومشاركتها المهمشة في النضال ضد الاستبداد، وتركز على ضرورة التقاطعات الراديكالية بُغْية استعادة الإحساس بالتشاركية الإنسانية. من الأغاني التي يقوم عليها هذا العمل، ترويدة شمالي ويا طالعين الجبل، وهي من الأغاني الفلسطينية التي تنشد باستمرار في الشوارع خلال الانتفاضات ضد الاحتلال الإسرائيلي. موسيقا البوب الكوري كانت حاضرة في العمل، بصفتها وسيلة بديلة للحشد السياسي. أيضًا أغنية «لأجل» الإيرانية، التي أطلقها المحتجون خلال مظاهرات الاحتجاج تضامنًا مع مهسا أميني التي قتلتها شرطة الآداب في إيران. إلى جانب أغانٍ من تشيلي وأخرى تخصّ الشعوب الأصلية في كندا ومن الهند وكلها تندد العنف ضد النساء وضد السكان الأصليين وضد الطبقية.
استكشاف الجسد
مروة المقيط في «أرضي ذاكرتي» سعت إلى التعبير عن رحلات المهاجرين واللاجئين وتوقهم إلى الوطن، من خلال أداء حي لحركات صامتة تستجيب لسرديات مسجلة وصور كوَّنَها الذكاء الاصطناعي، بمنزلة رحلة استكشافية للأرض والجسد والإمكانيات. وتدعو مروة المقيط المتلقي إلى المساهمة في تجميد مؤقت لما هو راهن وكائن هنا، فتتلاشى الخطوط الفاصلة بين المادي واللامادي ليفضي إلى تصورات مستقبلية بديلة.
في «مرة أخرى… التماثيل لا تموت أبدًا» يستكشف إسحاق جوليان إرث الفيلسوف والناقد والزعيم الثقافي آلان لوك وجامع الأعمال الفنية الإفريقية ألبرت بارنز الذي ألهمت مقتنياته كلًّا من آلان لوك وفناني نهضة هارلم. يبني جوليان تصورًا جديدًا لمراسلات لوك المتواصلة لعقود مع بارنز، حيث تبادلا الآراء حول التصنيف المتبدل للفنانين السود، وآليات رفض وقبول أعمالهم في تاريخ الفن. في أثناء الفِلْم نشاهد أعمالًا فنية إفريقية لا تزال ضمن مقتنيات المتحف البريطاني، على خلفية من اقتباسات شعرية لإيمي سيزار ولانغستون هيوز. كما أن الفِلْم مشحون بصور واستيهامات ولقطات شعرية آسرة، تتفجر من أعماق الفن الإفريقي، لتغمر الذات والجسد.
فِلْم «أركاديا» لجون أكومفرا، يرصد التداعيات البيئية للاستعمار، وانقراض الكائنات الدقيقة. يستخدم الفنان مشاهد مصورة في الشارقة وأسكتلندا ولقطات أرشيفية، بُغْية الغوص في الجوانب الشفاهية والتمثيلية لتاريخ مختلف الثقافات الأصلية، وذلك في سبيل إنتاج عمل تركيبي متعدد الشاشات يجمع بين أحداث وذكريات ومشاهد وشخصيات متنوعة على شكل «مقتطفات مختلطة الوسائط» التي أفضت إلى تجربة غامرة لنظرة ما بعد استعمارية لا تتعلق أساسًا بالإنسان، بل تبرز العلاقة المدمرة بين البشر والمواد العضوية في بيئة هشة.
«حجرة الموسيقا» و«سائل» لصدام الجميلي، تستكشفان العلاقة المتشابكة واللامحددة بين زمانية الماضي والحاضر والمستقبل على خلفية الحرب والتدهور البيئي والتطور التكنولوجي. الجميلي يضع الماضي في سياق يجعله مصدرًا للطمأنينة والبساطة والعاطفة. لكن هذا الماضي يصبح معرضًا للضياع من جرّاء السعي وراء فكرة وهمية مرتبطة بالتقدم، بدلًا من تقديم حياة أفضل، وهذا بدوره يُطوّق الحاضر بصدمات ناشئة عن الحرب وتدهور العالم الطبيعي.
يستجيب عمل «مقاومة» لهانك ويليس توماس لإرث رجال الفهد من قبلية أيوتو، وهي جمعية سرية مناهضة للاستعمار في غرب إفريقيا، نشطت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتعدُّها المخيلةُ الأوربية عنيفةً وخطيةً، وقد أثرت في أسطورة طرزان، ومغامرات تان تان، وأفلام ديزني. وتوجد أعمال لتوماس تتأمل تسليع العمالة السوداء والموارد الطبيعية واستغلالها تحت الاستعمار الإمبريالي، بينما تسلط أعمال أخرى الضوء على أسطورة تأسيس المدينة، في سياق قيام النظام الاستعماري البلجيكي ببتر أيدي العمال الكونغوليين الذين يُخفِقون في جمع الكميات المطلوبة من المطاط.
في «عيون دامعة» تعرض غابرييلا غولدر مجموعة من أعمال الوسائط المختلطة، تتأمل من خلالها عنف الدولة الذي شهدته أميركا الجنوبية وأماكن أخرى مثل تشيلي وكولومبيا والبرازيل وهونغ كونغ وكشمير وفلسطين. استلهمت الفنانة أعمالها من الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية التي شهدتها تشيلي عام 2019م؛ إذ ألحقت الشرطة بأكثر من 400 شخص إصابات في العين، وفَقَدَ كثير منهم إحدى عينيه أو كلتيهما. تحتوي الأعمال على أساليب تعبيرية تتطرق إلى الاحتجاجات عبر العروض الأدائية والفيديو والتجسيد المكاني والفوتوغراف، وتمضي عميقًا في معاينة دوافع التشويه والسبل التي تتيح للعنف لأنْ يكون هجومًا على الذاكرة والنظرة البشرية.
تتناول مجموعة «الإنسان والآلة» لفتحي عفيفي حياة أولئك الذين ينتجون ويعيشون معًا في مواقع ومساحات تنطوي على طاقاتٍ هائلة وتراتبية طبقية صارمة في آنٍ واحد. ينطلق من السنوات الطويلة التي أمضاها في المصانع العسكرية للقاهرة، ليصوّر باللونين الأسود والأبيض مشاهدَ لعمّال وسط مساحات صناعية شاسعة تؤوي ما لا يُعَدُّ ولا يُحصى من البشر والآلات والمواد الأولية لتؤدي المطلوب منها تحت إشراف مالكيها الذين يراقبونها من دون كللٍ أو ملل. ويتمثّل أحد أبرز محاور أعمال عفيفي في قيم التضامن والرفاقية في مواجهة مصاعب الحياة وظروف المعاناة والشقاء المهينة.
في الواقع، أعمال كثيرة كانت تستحق التوقف عندها، بما انطوت عليه من إمكانات مفتوحة على التجريب والذهاب إلى الأقاصي؛ كي تبتكر قراءتها الخاصة والمتفردة للتاريخ.
سوينكا وحور
شارك وحضر البينالي العشرات من الفنانين من أنحاء العالم، وفي طليعة الجميع المسرحي والروائي النيجيري النوبلي وول سوينكا، الذي شوهد بين أصدقائه وصديقاته حول مائدة أخذت موقعها في أطراف القاعة التي شهدت حفلة الافتتاح. كان الكاتب الشهير الفائز بنوبل في عام 1986م ينقّل نظراته بين مجاميع الفنانين والمثقفين والإعلامين من أنحاء العالم، ويبدو بشعره الأبيض متفاعلًا مع ما يرى. ومما لا يمكن تجاهله ولفت الأنظار، وجود الشيخة حور القاسمي في كل مكان تقريبًا، توزعت فيه أعمال الفنانين. لم تَنْزَوِ بعيدًا تاركةً فريقَها الكبير والمنظم، يقوم بالعمل وحدَه. كانت تحيي الفنانين وتشجعهم عقب كل أداء لهم، تتجول تحت شمس قاسية أحيانًا، وتقول ملاحظاتها بصمت لأفراد طاقمها، حريصة على أن يمضي كل شيء كما خُطّط له.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق