كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
فن التمثيل الآن
منذ أعوام يحتل فن التمثيل مركز اهتمامي البحثي والإبداعي؛ لكوني ممثلة وعاملة في الإخراج المسرحي وتدريب الممثلين، وبوصفي باحثة أكاديمية ومحاضرة في مناهج التمثيل والتعبير الجسدي والرقص على خشبة المسرح وفي الفضاء العمومي المفتوح؛ لذا يأتي هذا المقال في موقع متقاطع مع كتاباتي وأبحاثي السابقة -ومستفيدًا منها- ويأتي أيضًا كي يرصد لحظة من التغيير في سلوكيات الأداء التمثيلي الدرامي أملًا في تعميق فهم أثر المتغيرات الاجتماعية التي طرأت في الأعوام الأخيرة على طرق التمثيل.
فن التمثيل مرآة للسلوكيات الاجتماعية في كل مجتمع، سواء من حيث محاكاة طريقة الكلام والتعبير عن المشاعر والحركة والإيماء، أو من ناحية تقديم شكل مصغر لطرق وأساليب التواصل والاتصال بين الأفراد في المجتمع، لكن في هذه الحالة من خلال التواصل بين الممثلين والمتفرجين. فلا وجود لفن التمثيل بمعزل عن دراسة وفهم كل طرائق وآليات التعبير والتواصل بين الأفراد والجماعات في كل مجتمع. فلو نظرنا إلى التمثيل بوصفه فن التجسيد والمحاكاة والتشخيص، لا بد لنا أن نفهم ما هذا الذي يجسده ويحاكيه ويشخصه. إنها بطبيعة الحال أمور موجودة في الواقع وفي الحياة اليومية لكل مجتمع، حتى عندما يقدم التمثيل أحداثًا وشخصيات متخيلة في سردية أقرب إلى الخيال العلمي وكائناته، يظل تخيل وتجسيد تلك الأحداث والشخصيات خاضعًا لخيال الواقع واللحظة الإبداعية الراهنة.
وعلى الرغم من ذلك فلا يجب أن نقع في الفخ الشائع، وهو تصور أن التمثيل ما هو إلا إعادة إنتاج الواقع، أو تقليد له. فالوقوف عند هذا المستوى من فهم التمثيل يجعله أقرب إلى التقليد الأجوف، كأنه صدى صوت للواقع وحسب، وكأن الممثل ليس إلا آلة للإعادة والاستعادة. من هنا يهمني دومًا تحليل طرق وآليات التمثيل بوصفها درب قد يتمكن الممثل من خلاله من نقد سلوكيات وأداءات اجتماعية، أو قد يستطيع من خلاله تسليط مرآة تجاه المتفرج فتحدث له إنارة تغير من أدائه الاجتماعي في التواصل مع الآخر أو في التعبير عن نفسه. في الآونة الأخيرة شهدنا -من خلال المسلسلات والتمثيليات الدرامية والأفلام التي تبثها القنوات الفضائية أو منصات المشاهدة- عددًا كبيرًا من الأعمال التي تجاوزت ما كان سائدًا في الأعوام السابقة بخصوص قلة الأعمال الدرامية خارج المعروض في شهر رمضان الكريم. هكذا أصبحت هناك وفرة من الأعمال التي قد تسهل علينا رصد آليات وطرق التمثيل ومحاولة تحليل علاقتها بواقع العلاقات الاجتماعية والاتصال في المجتمع.
حضور وسائط التواصل الاجتماعي
لا تخطئ العين تكرار ظهور وسائط التواصل الاجتماعي بمختلف قنواته ووسائله داخل الأعمال الدرامية. فقد باتت الحلقة الواحدة من المسلسل الدرامي لا تخلو من ظهور شاشة الفيسبوك أو رسائل الواتساب، للدرجة التي أصبحت بها تلك الصور مشهدًا بصريًّا متكررًا لا يجوز فصله من العمل الدرامي وبنائه للمعنى. فهذه الصور أصبحت تشكل حضورًا بصريًّا يجسد حالة التواصل الاجتماعي في الواقع، ومن ثَم تعين على العمل الدرامي تبنيها وسيلة تواصل بين شخوصه الدرامية؛ كي تتحقق المصداقية والتواصل مع الواقع والمتفرجين. بيد أن دخول ذلك الحضور البصري بمدلولاته الاجتماعية والمعرفية أدى إلى تغير ما في التمثيل نفسه، فبدلًا من مشاهدة حوار كلامي والإنصات له، أصبحنا نشاهد شاشة المحمول ونقرأ ما عليها من رسائل، وكأن العمل الدرامي بهذه الطريقة يعيد إنتاج آليات التواصل في الواقع فيغير بها من آليات التجسيد والتعبير داخل العمل الدرامي نفسه.
وهكذا أصبح الممثل يقوم بتعبيرات صامتة في مواجهة مشهد شاشة المحمول سواء احتلت الشاشة دراميًّا أو كانت مجرد أداة يمسك ثم يعرض علينا ردود أفعاله عليها. في هذه الأحوال يوضع المشاهد أيضًا في موضع إعادة إنتاج آليات تلقيه لمحتوى شاشة المحمول بينما هو يشاهد عملًا دراميًّا متلفزًا. يتحول التلفاز إلى شاشة محمول، ويتحول المشهد البصري الدرامي إلى مشهد من بصريات وسائط التواصل الاجتماعي. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد إلى تأثر المشاهد بخبراته في تتبع رسائله الخاصة والـ «News Feed» أو الـ «Timeline» كي يتلقى العمل الدرامي بسردياته من خلال أسلوب التلقي نفسه، فكأن التمثيلية أو المسلسل قد تحول لجزء من تتبع «Timeline» اجتماعي مختَلَق.
يلفت نظري هنا أيضًا ظهور وشيوع استخدام تعبيرات لفظية داخل العمل الدرامي لكنها مرتبطة في الأساس ومستمدة من لغة وسائط التواصل الاجتماعي، وكلها من مشتقات اللغة الإنجليزية. كذلك شيوع اعتماد المنطق الدرامي للأحداث وتسلسلها على فهم المشاهد التلقائي لمعاني آليات كثيرة من آليات الاتصال عبر هذه الوسائط. ناهيك عن تحول العمل الدرامي نفسه إلى مادة للتعليق ولكتابة المنشورات على الفيسبوك مثلًا، لكل المشاهدين الذين تحولوا بدورهم إلى نقاد ومعلقين ومحللين، بل إلى كُتّاب موازين للعمل الدرامي من خلال تعبيراتهم على الفيسبوك. وهنا لا يتوقف الأمر عند رغبة الجميع في تخمين الأحداث القادمة، أو تفسير غموض العمل، بل يصل إلى إمكانية اعتبار كل منشور في حد ذاته بوصفه إعادة كتابة أو إعادة تأويل للعمل الدرامي. وهكذا تتحول وسائط التواصل الاجتماعي من وسيلة للاتصال بين شخوص العمل الدرامي، إلى صانعة لمحتوى هذا العمل الدرامي المتخيل. بل يتحول العمل الدرامي نفسه إلى محتوى في منشورات وتعليقات مستخدمي الفيسبوك. فكأن الواقع هنا قد حلت محله الدراما المتخيلة لتكون هي هدف وأسلوب تواصل مستخدمي وسائط التواصل الاجتماعي/ الدرامي.
أداء العلاقات الاجتماعية
في مقابل الأفلام العربية القديمة، التي كنا نشاهد فيها طرقًا راقية وودودة للتحية والتعامل، باتت اليوم كلاسيكية، بل عتيقة؛ إذ نجد في أعمالنا الدرامية اليوم محاكاة لأشكال التحية والمعاملة الاجتماعية أقل ما توصف به هو العدوانية والعداء الشديدين. ومع ذلك فأول ردود أفعالي تجاه هذا الأمر هو العرفان؛ إذ إنه لولا وجود تلك الأعمال الدرامية القديمة والكلاسيكية لما كنا سنعرف بشكل حي كيف كان الناس يتعاملون في الماضي. وكذلك بالنسبة للحظتنا الراهنة، فلولا وجود هذه الأعمال الدرامية التي تعبر عن واقعنا اليوم لَمَا أصبح ممكنًا للأجيال القادمة أن تتعرف بشكل حي إلى ممارساتنا الاجتماعية والتواصلية اليوم. إضافة إلى ذلك هناك العرفان الذي يستند على حقيقة أن وجود الأعمال الدرامية الكلاسيكية والراهنة معًا، وإمكانية وضع الواحد في مواجهة الآخر، تمنحنا فرصة لدراسة سلوكياتنا الاجتماعية، ومعرفة كيف تغيرت على مدار الأعوام والأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية. من هنا تصبح الأعمال الدرامية وثيقة يمكن من خلالها دراسة أوجه متعددة من ثقافة كل مجتمع. ويزيد من أهمية هذه الوثيقة كونها وثيقة حية تستطيع أن تشاهد بصرياتها وتنصت إلى صوتياتها وتعبيراتها الكلامية والجسدية. من هنا فهي وثيقة شديدة الغنى ومليئة بالمعلومات وبطبقات الدلالة المتعددة.
في هذه المرحلة من الكتابة لا أهدف من تحليل ظواهر التمثيل الدرامي إلى رصد طبيعة العلاقات الاجتماعية من حيث الصراع الناشئ بين الأفراد والطبقات، أو من حيث أثر الفجوات الاقتصادية في التعليم والوعي ومن ثَم السلوك، بل أهدف وحسب إلى رصد الكيفية التي يتواصل بها أفراد المجتمع في حالات التحية والمعاملات، من دون التطرق إلى طبقات عميقة من تكوين سيكولوجية الشخصية. ومن ثَمَّ يستوقفني في هذا الإطار المقارنة بين التواصل في الفضاء العمومي المفتوح، والتواصل في الفضاء الخاص والمنزلي. ففي معظم الأعمال الدرامية الكلاسيكية كنا نشاهد تواصلًا منمطًا بين الأفراد في الفضاء المفتوح، وكأن هناك شفرة عمومية متفق عليها للتحية وللاحترام أيًّا كانت المنطقة الجغرافية أو الطبقة الاجتماعية. أما اليوم فقَلَّما نشاهد حضورًا للفضاء العمومي المفتوح في الأعمال الدرامية، وكأن المجتمع قد اختُزِلَ في تجمعات حميمية بين أفراد من الطبقة نفسها ومن العُمر نفسه. قد تُنسَب هذه الظاهرة ببساطة إلى ظروف الإنتاج وعدم إمكانية الخروج إلى الشوارع -إلا لو كانت بلاتوه- لكنها في الوقت نفسه ترسل، بشكل غير مباشر، معرفة ومعلومات إلى الأجيال الراهنة والقادمة بعدم أهمية الفضاء العمومي المفتوح، والاتجاه نحو الفضاء المغلق الذي لا تلتقي فيه سوى أعداد قليلة من الناس داخل حدود دائرة اجتماعية وثقافية واقتصادية ضيقة جدًّا.
تمرر تلك الصورة حالة من تفتيت المجتمع وخلق جدار صلب بين أفراده ومجتمعاته الفرعية. ويزيد من وطأة تلك الصورة كونها تَصِلُ تدريجيًّا إلى مستوى شبه تلقائي من القَبُول؛ حتى تصبح البدائل مستهجنة وغير محببة اجتماعيًّا. ولو وضعنا طريقة التحية الكلاسيكية في الأفلام المصرية القديمة، مثلًا «نهارك سعيد»، بجوار ما يتسق من لطف ورقة في التعامل، في مواجهة خشونة الاستقبال وعدوانية المعاملة في الأعمال الدرامية الراهنة؛ لأدركنا تراجع مستوى التربية الجَمْعِيّة والاتصال الجَمْعيّ في مجتمعاتنا الراهنة، بما ينطوي عليه ذلك من تصنيف للبشر وتمييز بينهم على أُسُس اقتصادية واجتماعية لم تكن حادثة في ماضي أعمالنا الدرامية.
بشكل عام تُعلمنا أعمال اليوم أن الغطرسة سِمَة يجب أن نسعى إليها؛ لأنها دليل على الترقي الاجتماعي والاقتصادي. كما تعلمنا أن التلون والتصنع والتظاهر هي ضرورات للمعاملة الاجتماعية في مقابل النزاهة والأمانة والشفافية التي باتت سمات قد عفا عليها الزمن. هكذا تتحول تلك المظاهر الأدائية الدرامية إلى دروس تربوية جديدة تشكل معارف ومعلومات الجيل الحالي والقادم، ومن ثَمَّ لا يتأثر الأداء التمثيلي والدرامي فحسب بالمجتمع، بل يؤثر فيه ويُرسّخ وينمي الاعتلال الاجتماعي والنفسي بين أفراده.
تجسيد الشخصية الدرامية
كثيرًا ما نجد، فيما نشاهده من تمثيل اليوم، أداءات شبه محايدة، فلا هي تحمل انفعالات ولا تشبع مشاعر ولا تبعث على التعاطف أو حتى على الفهم. إنها تلك الأداءات التي يسميها بعضٌ بالأداءات «الباردة» التي تمرر الكلام من دون شحنه بمشاعر، وتتلفظ بالكلام من دون تحميله بالمعنى، وتستخدم الصوت من دون تلوينه بنقلات. فكأن الممثل في هذه الحالة أشبه بالآلة الكلامية التي تُمَرِّرُ حالاتٍ وكلامًا متشابهًا من دون أن يتمكن المشاهِد من تفسير السبب وراء ذلك، ومن دون أن يتمكن من استيعاب التكوين النفسي للشخصية، أو أن يتمكن من إدراك الحالة الدرامية أو التأثر بها. في كثير من الأعمال الدرامية تبدو هذه الطريقة كما لو كانت نمطًا جديدًا وشائعًا من الأداء التمثيلي؛ ذلك الأداء الذي لا يهتم بتقبل المشاهِد ولا بفهمه، بل لا يُعِيره اهتمامًا من الأساس. إنه أداء أقرب إلى الأداء الداخلي، الذي تعتمد فيه وجاهة الممثل على نطقه ولفتاته اللامبالية، وكأنه لا يعبأ بالجمهور، بل هو مُكْتَفٍ بذاته. يتعذّر عليَّ تسمية هذا النوع من الأداء بالتمثيل، على الرغم من أن كثيرين يسمّونه بالسهل الممتنع، إلا أنني أجد فيه نوعًا من الاستهانة بفن التمثيل، والامتناع طواعية عن أداء مهنة يفترض فيها أنها تنقل معنًى وتُحدِث أثرًا داخل العملية الدرامية.
لقد انتشر هذا الأسلوب الأدائي مؤخرًا، بطريقة قد توحي لكثيرين أنه من الممكن ومن السهل لأي فرد أن يصبح ممثلًا دون أي قدر من التدريب أو الدراسة أو التأهيل، بل دون حتى أي قدر من المجهود. يبدو لي هذا الأمر بوصفه اتجاهًا واعيًا وممنهجًا لإحداث سيولة في فن ومهنة التمثيل، وتحويله إلى حالة مائعة من الحضور الفرجوي، حالة خالية من المعنى والمحتوى، بل خالية من الإنسانية بمختلف معانيها. ربما هي حالة أدائية تسهل قبول اللامبالاة الحادثة في الواقع، بل تدفع نحو الإعجاب بها. وربما هي حالة أدائية تحيل الممثل إلى مجرد عارض أزياء، وجه وسيم، جسد رياضي، لكن بلا مشاعر وبلا دافعية وبلا هوية. وبوصفي أيضًا متفرجة فإنني أعاني كثيرًا فَهْمَ الكلامِ الذي تنطق به هذه الشخوص الدرامية، فعادة لا يمكنني تفسيره بسبب صعوبة التلفظ وعدم تدريب الآلة الكلامية ومخارج الألفاظ، كما يصعب عليَّ أيضًا التواصل مع المعنى المقترح من وراء الكلام؛ بسبب عدم فهم الكلام أولًا، ثم بسبب عدم إحداث أي وقع شعوري من وراء الكلام. وغالبًا ما يكون الوجه محايدًا بلا تعبيرات، فيظل المكياج مثاليًّا، ويبدو الوجه دومًا كما لو كان تمثالًا شمعيًّا.
أتساءل عما يعنيه كل ذلك؟ هل يعني مثلًا أننا كمجتمع سنتجه نحو هذا النوع من التواصل والاتصال والتعبير الميت؟ هل هكذا نفقد التعاطف والوثاق الإنساني؟ هل تمهد الأعمال الدرامية لمجتمع منزوع المشاعر الإنسانية؟ هل تقودنا المنصات العالمية للدراما والأفلام إلى منهج ثابت ومعتمد لتوحيد طريقة التمثيل وللتواصل بين البشر؟ هل ينذر هذا النوع من التمثيل بمجتمع عالمي على أعتاب نزع الهوية الإنسانية؟
المنشورات ذات الصلة
لم يتم العثور على نتائج
لم يمكن العثور على الصفحة التي طلبتها. حاول صقل بحثك، أو استعمل شريط التصفح أعلاه للعثور على المقال.
0 تعليق