المقالات الأخيرة

صناعة النخب

صناعة النخب

لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

الخط العربي في المخطوطات العربية والإسلامية قراءة في التحولات والجماليات

بواسطة | مارس 1, 2023 | الملف

في البدء؛ كانت قيمة الحرف مرهونة بدوره كجزء من أجزاء الكلمة، فلم يكن للحرف دور وظيفي فاعل إلا من خلال ربطه بحرف آخر أو بمجموعة أخرى من الحروف حتى يقدم لقارئه معنى أو وصفًا أو مدلولًا أو صورةً مجازيةً قادرةً على تحريك الخيال، ولكنه بعد أن مر بكثيرٍ من التجارب والتحولات وأصبح فنًّا مستقلًّا من فنون التعبير، صار قادرًا وحده على أن يكون وحدة بصرية منتجة للمعاني والصور والمدلولات والمجازات، لم يعد مجرد رسم ضمن كلمة من أدوات التعبير المكتوب عن القول المنطوق، ولا جزءًا من التعبير الذهني اللساني عن الفعل المتصل بالنشاط الإنساني المباشر في مختلف مجالات الحياة، فقد استطاع أن يتجاوز دوره الصوتي الشفاهي ليصبح فضاءً بصريًّا يكتنز كثيرًا من قيم الفن وجماليات الإبداع المحمَّل بالإشارات والتأويلات، ويصل إلى أقصى وظائفه كجزء محوري أصيل من بنية الهوية العربية والإسلامية، ليس فقط بالمفهوم الثقافي على اتساع مجالاته، بل بالمفهوم الحسيِّ والروحانيِّ والفكريِّ المنفتح على عوالم لا حدود لها من التأمل والتدبر والتبصر والتفكر، والذهاب إلى ما هو أبعد وأعمق من الإشارات المباشرة للنص المكتوب في مقابل القول الملفوظ.

وهكذا؛ اكتسب الخط العربي دورته الدلالية عبر مراحل زمنية مختلفة، ومن خلال تجارب إنسانية متعددة، واستمد قدرته على الربط بين الأبعاد اللسانية والبصرية لوظائف اللغة من كونية الرسالة السماوية التي نزلت بلسان عربي لكل الأمم والثقافات، حيث أتاح الفضاء البصري للخط العربي مجالات واسعة لاستخلاص المعاني الكامنة في الأبعاد السيميائية والجمالية للحروف بوصفها مشهدًا يجمع بين الحسي والمرئي لينقل المتلقي من مظهرية البصر إلى جوهرية البصيرة بحسب حركة الحرف في الكلمة، وحركة الكلمة في الجملة، وحركة الجملة في النص، فصار الخط كما قالت العرب: «لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووحي الفكرة، وسلاح المعرفة، وناقل الخبر، وحافظ الأثر».

بدايات التحول

في بدايات الإسلام؛ كان الخط العربي في إطاره اللغوي المحدد؛ أداة التوصيل التقليدية التي تقوم بدور الوسيط في تبليغ الرسالة التي نزلت بالعربية، ومن ثم كان استخدامها في نقل المعارف المتصلة بعلوم الدين والدنيا مرتبطًا بالإطار العام لذلك الغرض، ومع أن الخط العربي شهد مع ظهور الإسلام تحولًا تدريجيًّا من حيث الشكل والتوظيف، إلا أنه مع انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية، واتصال العرب والمسلمين بغيرهم من شعوب الأمم والحضارات الأخرى، شهد عددًا من التحولات الجذرية، وحقق مكتسبات أكثر وأوسع، ولعل أبرز هذه التحولات أو المكتسبات ما يتصل منها بالأبعاد الجمالية البصرية التي تختزن قدرًا كبيرًا من القيم الحسية والروحية، وقد بلغ الاهتمام بهذا الجانب ذروته في العهود الأموية والعباسية حتى جاوزت أنواع الخط العربي ما يزيد على ثمانين نوعًا في صورة من صور الترف الحضاري التي لم تتحقق لأي لغة أخرى في تاريخ الحضارات الإنسانية، وهو ما أشار إليه الدكتور راغب السرجاني بصيغة مغايرة، مؤكدًا «أن الخط لم ينل عند أمة من الأمم ذوات الحضارة ما ناله الخط العربي عند المسلمين من العناية به، والتفنن فيه، فخلال مدة وجيزة استطاع الفنان المسلم أن يجعل للكلمة وظيفة أخرى مرئية، إضافة إلى وظيفتها المسموعة». فكان الخط العربي بتعبير الدكتور مصطفى عبدالرحيم «الفن الوحيد الذي نشأ عربيًّا خالصًا، صافيًا نقيًّا، ولم يتأثر بمؤثرات أخرى».

وبالنظر إلى أسماء الخطوط التي وردت في مراجع الخط العربي والمصادر التاريخية والأدبية، سنجد أنها سُميت بأسماء ذات أغراض مختلفة ولكنها تلبي احتياجات محددة، فهناك خطوط سُميت بأسماء الأماكن والبلدان من مثل: المكي، المدني، البصري، الكوفي، البغدادي، العراقي، الشامي، المصري، الموصلي، اليمني، المغربي، الأندلسي، الفارسي، الكردي، الأصفهاني، وخطوط سُميت بأسماء الممالك مثل: العباسي، الفاطمي، المملوكي، وبعضها الآخر سُمي بأسماء الأشكال الهندسية والفنية، ونوعيات الورق، وخصائص الأقلام، وأعمال التجويد، وأساليب الكتابة، وطبائع الزخارف، وأصناف المواد، وكذلك بأسماء الأغراض والأعمال والمعاملات اليومية، والأكثر من ذلك أن الخط الواحد توالدت منه أشكال مختلفة تؤكد مدى الاهتمام بتنويع جمالياته وتعدد وظائفه، ولعل هذا الثراء الذي يتمتع به الخط العربي، هو ما جعل العرب يخصصون لكثير من أمور حياتهم خطًّا يميز وظيفته عن الآخر؛ بما يعكس قدرًا مدهشًا من الرفاهية الحضارية في علاقاتها الجمالية باستخدامات اللغة، كما يعكس في الوقت ذاته مدى ازدهار الخط العربي وطرائق تطويره، واتساع دوائر الاهتمام به، ليس فقط على مستوى الفنانين المشغولين بإبراز جمالياته، بل على مستوى الطبقات الحاكمة التي استثمرت هذا التنوع الجمالي، وسعت إلى توظيفه على أفضل نحو فخصصت خطًّا للقرآن الكريم، وخطًّا لكتابة الحديث الشريف، وخطًّا لكتابة العهود والبيعات، وخطًّا لمخاطبة الخلفاء والملوك، وخطًّا لمخاطبة الأمراء والقادة والقضاة، وخطًّا لرسائل الحمام الزاجل؛ وصولًا إلى تخصيص خط لمخاطبة النساء.

البناء والتجويد

تجاوز الخط العربي مسألة كونه أداة من الأدوات التعبيرية المباشرة؛ ليصبح حالة فنية تختزن في مدلولاتها أدق التفاصيل اللسانية والبصرية والحسية، كما أنه تحول مع الوقت إلى مشهد بصري مُلهم تُكتب فيه القصائد والمقالات، وتكثر فيه الأوصاف والأقوال، وكما أن لكلِّ فنٍّ قواعده البنائية التي تحكم عملية إتقانه وتجويده، كان للخط عند العرب أوصافه التي تحكم معايير التجويد فيه، ويقول محمد بن يحيى الصولي صاحب «أدب الكتَّاب» إن الخط يوصف بالجودة: «إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنفاسه، ولم تختلف أجناسه، وأسرع إلى العيون تصوره، وإلى القلوب تثمره، وقدرت فصوله، وأدمجت أصوله، وتناسب دقيقه وجليله، وتساوت أطنابه، واستدارت أهدافه، وصغرت نواجزه، وانفتحت محاجره، وخرج عن نمط الورَّاقين، وبَعُدَ عن تصنُّع المحررين، وخُيِّل إليك أنه يتحرك وهو ساكن».

وهو هنا يفرِّق بين الخط كفنٍّ عربيٍّ خالص، والخط كحرفةٍ وظيفيةٍ لنقل المعرفة، فيشير إلى أن تحقيق الجودة الفنية والجمالية سيبقى مشروطًا بـ«الخروج عن نمط الورَّاقين، وتصنُّع المحررين». وقد رأينا في كثير من المخطوطات أن الإبداع في الخط العربي لدى الفنانين الحقيقيين بلغ حد الإعجاز في تصغير الحجم حتى تستوعب الصفحات أكبر قدر من الكلمات، فبدت كل صفحة كأنها لوحة فنية تسرُّ النظر، وفي المقابل رأينا الورَّاقين من أصحاب الصنعة يستخدمون خطوطًا تساعدهم على مطِّ الحروف لزيادة عدد الصفحات ومضاعفة أجور النسخ، وهذا من الشواهد الجلية التي نلمسها بوضوح في تراث المخطوطات العربية والإسلامية للتفريق بين الفن والصنعة، وفيما يتصل بالبُعد الجمالي الذي أشار إليه الصولي للتدليل على جودة الخط ولخَّصه في جملة «يُخيَّل إليك أنه يتحرك وهو ساكن». نجد أن صاحب «الفتوحات المكية» محيي الدين بن عربي، قد ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يرى «الحروف أمة من الأمم، مخاطبون ومكلفون، وفيهم رسل من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، وهم على أقسام كأقسام العالم المعروف». بل يربط قيمة المُعطى الدلالي لوظائف الخط بقدرته على التحول الإيجابي من السكون والثبات إلى الحركة والفاعلية والتأثير، فيقول: «إن الحرف مجهولٌ ما لم يُحرَّك، فإذا حُرِّك مُيِّز بالحركة التي تتعلق به من رفعٍ ونصبٍ وخفض».

مراحل التطوير

لم يكن الاهتمام بتطوير الخط العربي وليد مرحلة متأخرة عن صدر الإسلام كما يتوهم بعضهم، ولم يبدأ مراحل تطوره فقط عندما خرج من محيطه العربي إلى ثقافات أخرى كما يتوهم بعضهم الآخر، فالشواهد التاريخية تؤكد أن الاهتمام بتطوير اللغة ومنها الخط العربي بطبيعة الحال؛ بدأ منذ المراحل الأولية للدعوة، وكان الاهتمام عملية من عمليات البناء والتطوير لما كان من اللغة والخط قبل الإسلام، فنزول القرآن الكريم بكل هذا العمق الفكري المعجز، وبهذا الأسلوب اللغوي البليغ يعني بالتأكيد أن الأمة لم تكن أمية بالمعني السطحي المباشر للكلمة، وأن العرب كان لديهم من الوعي اللغوي ما يعينهم على فهمه والتواصل مع مضمون رسالته، غير أن الحاجة لمزيد من الاهتمام باللغة على نحو عام والخط العربي على نحو خاص، كانت مطلبًا حتميًّا لتطوير أدوات الدعوة، وتفعيل آليات تبليغ الرسالة لنشرها على نطاق أوسع، ولم يكن لذلك أن يتحقق إلا بتوسيع دوائر تعليم المسلمين لرفع نسبة العارفين باللغة، وهنا تجدر الإشارة إلى معركة بدر التي طُلب فيها من كل أسير تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة كشرطٍ لإطلاق سراحه من الأسر، وهذا يعني أمرين؛ الأول أنه كانت هناك بين العرب قبل الإسلام مجموعات تجيد القراءة والكتابة ومنهم هؤلاء الأسرى بطبيعة الحال، والأمر الثاني أن القائمين على الدعوة من المسلمين الأوائل أدركوا منذ البداية أن توسيع النطاق المعرفي باللغة هو اللبنة الأساسية في عملية تبليغ الرسالة ونشر الدعوة، وقد نقل القرطبي عن ابن عباس تفسيرًا لهذا الخلط بين مفهوم الأمية وعدم معرفة اللغة، بقوله: «الأميون هم العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب»، بمعنى أنهم لم يكونوا من الأمم التي نزلت فيهم رسالات سماوية قبل الإسلام، وبالتالي فإن لفظة «أمية الأمة» لم يكن لها صلة بالأمية التي تعني الجهل بالقراءة والكتابة.

وقد رصد صاحب «فتوح البلدان» أحمد بن يحيى البَلاذُري شيئًا من ذلك في قوله: «دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلًا كلهم يكتب: عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، أبو عبيدة بن الجراح، طلحة بن أبي سفيان، يزيد بن أبي سفيان، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، حاطب بن عمرو العامري، سهيل بن عمرو العامري، أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، أبان بن سعيد بن العاص بن أمية، خالد بن سعيد بن العاص، عبدالله بن سعد بن أبي سرح العامري، حويطب بن عبدالعزى العامري، أبو سفيان بن حرب بن أمية، معاوية بن أبي سفيان، جهيم بن السلط، وكانت الشفاء بنت عبدالله العدوية كاتبة في الجاهلية، وهي التي علَّمت أم المؤمنين حفصة القراءة والكتابة».

التحوّل البصري

مع التطور التدريجي الذي لحق باللغة وتجويد خطها في السنوات الأولى من الإسلام، إلا أنها ظلت محتفظة لعقود عدة بما يعرفه العرب عن آليات قراءتها ونطقها والتعامل معها؛ لأنها في تلك الحقبة كانت تُستخدم في نطاقها العربي من حيث الثقافة والامتداد الجغرافي المتقارب، ولم تكن هناك حاجة مُلحّة إلى رسم الحروف بالتنقيط أو التشكيل، وقد «ظل الناس في مختلف الأمصار الإسلامية يقرؤون القرآن الكريم في مصحف عثمان إلى ما يقرب من الأربعين سنة بدون تنقيط الحروف أو تشكيلها». ولكن عندما انتشر الإسلام وانتقل من الجزيرة العربية إلى أمم غير عربية نتيجة الفتوحات الإسلامية، كان من الطبيعي أن يختلط المسلمون في تلك البلاد بالعرب، وهو ما أدى إلى ما يعرف بـاللحن والتصحيف والقراءات المغلوطة، وهنا برزت الحاجة إلى وضع تشكيل لضبط عملية القراءة، وكانت هذه أولى المؤشرات العملية على بدايات التحوّل البصري في رسم الحروف والكلمات، حيث «وُضع التشكيل بالنقط في عهد أبي الأسود الدؤلي المتوفى عام 69هـ، ثم وَضع النقط على الحروف غير المنقوطة تلميذاه نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر، ثم وَضع التشكيل الأحدث الخليل بن أحمد المتوفى عام 170هـ»، وهكذا نلحظ أن التدرُّج في تطوير بنية اللغة ورسم الأبعاد الجمالية لحروفها جاء تلبيةً لاحتياجات كل مرحلة، حيث «تم التشكيل بالنقط في النصف الثاني في القرن الأول، بينما التشكيل الحديث تم في القرن الثاني الهجري». ومن هذا التحول المبدئي بدأت التحولات الكبرى في مسيرة تطوير اللغة كوسيط معرفي من جهة، وتطوير رسم الخط العربي كوسيط جمالي من جهة أخرى، وهو ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته بقوله: «كان الخط غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولما فتح العرب الأمصار، وملكوا الممالك، ونزلوا البصرة والكوفة، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، استعملوا الخط، وطلبوا صناعته وتعلّمه، وتداولوه، فارتقت الإجادة فيه».‏

أثر الخط العربي في ثقافة الآخر

لم يترك الأثر الجمالي الذي نتج عن أساليب رسم الخط العربي ظلاله فقط على اللغة العربية، فكثير من تراث المخطوطات الإسلامية يقدم لنا نماذج مدهشة من الأعمال التي كُتبت بلغات غير العربية ولكنها استخدمت أنواع الخط العربي، وعندما تشاهدها تعتقد للوهلة الأولى أنها مكتوبة بالعربية، ولكنك سرعان ما تكتشف أن الخط فقط هو العربي، بينما اللغة المستخدمة قد تكون فارسية أو غيرها من لغات الأمم التي دخلها الإسلام، وبلغ تأثير الخط العربي فيها درجة كبيرة من التأثير المباشر في مكونات هويتها الأصلية، وهذا يعني أن مراحل التطور التي مر بها الخط العربي جعلته يتجاوز دوره التعبيري كناقل للمعرفة، إلى دور بصري أكبر كناقل للمشاعر الحسية والروحية التي تقدم فيضًا هائلًا من الرسائل الجمالية التي تنتقل من طريق البصر إلى البصيرة، وتضفي حالة روحانية من نشوة التلقي التي تُحدثها الفنون التي تستهدف المكامن الحسية لدى الإنسان على اختلاف دينه أو ثقافته أو مخزونه المعرفي؛ لذلك حقق الخط العربي حضورًا لافتًا في الثقافات الأخرى بوصفه فنًّا قائمًا بذاته، وبوصفه مدخلًا جماليًّا للحوار بين الثقافات، ليس فقط في إطار وظيفته اللغوية الناقلة للمعارف الذهنية، بل في إطار وظيفته الفنية المحمَّلة بالقيم البصرية والحسية التي أكسبته قيمًا جمالية جديدة جعلت منه فنًّا عربيًّا خالصًا مرجعيته الأساسية اللغة العربية التي ولد منها؛ لا من تكرار عمليات التجريب الفردية كما حدث -على سبيل المثال- في الاتجاهات التشكيلية التي قامت في الأساس على التجريب الفردي ثم تحولت بعد النضوج إلى مدارس فنية، وهنا ينقل لنا أستاذ الآثار الإسلامية الدكتور مصطفى بركات ما خلصت إليه رؤية باول بارتس نتيجة دراستها العميقة للخط العربي، وهي الرؤية التي تحولت لاحقًا إلى رأي علمي ونقدي وجمالي في الوقت نفسه، حيث تتمثل خلاصة هذه الرؤية في أن «علامات الكتابة العربية لا تحاول أن تعني شيئًا فحسب، وإنما تريد هي الأخرى أن تكون شيئًا، وهذا هو هدفها، وغايتها، ومعناها الدفين، فهذه العلامات لا تؤدي مجرد وظيفة المقابل الصوتي في اللغة فقط، وإنما هي أعمال فنية في حد ذاتها».

هذا الرأي العلمي المهم الذي يقدم رؤية غربية للخط العربي؛ يؤكد أن وظيفته لم تعد محددة بالإطار التعبيري عن شيء سواه، بل أصبح الخط العربي نفسه شيئًا منفردًا ومستقلًّا ولا بد له من مدلولات حسية إضافية تعبِّر عنه، وتكشف عن جمالياته التي جاوزت علامات اللغة، وأدارت حوارًا بصريًّا وحسيًّا مع من لا يجيدون العربية، وكأنها تكوينات فنية تستند إلى مرجعية لغوية ولكنها عابرة لحدود اللغة كاللوحة التشكيلية أو المعزوفة الموسيقية التي لا تحتاج إلى وسيط لغوي ينقل معناها أو مدلولها الجمالي أو الحسي للمتلقي، وللتدليل على ذلك نذكر قصتين؛ الأولى أن الخليفة العباسي الواثق بالله قد أرسل ابن الترجمان بهدايا إلى ملك الروم، وعند وصوله اكتشف أن جماليات الخط العربي قد سبقته إلى هناك، حيث رآهم قد علَّقوا على باب كنيستهم كتابات باللغة العربية، وعندما تساءل مندهشًا عن الأسباب، قيل له: «هذه كتب المأمون بخط أحمد بن أبي خلد، وقد استحسنوا صورتها فعلَّقوها». والثانية يروي فيها صاحب «أدب الكتَّاب» أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: «أن سليمان بن وهب كتب كتابًا إلى ملك الروم في أيام الخليفة العباسي المعتمد فقال ملك الروم: ما رأيت شيئًا أحسن من هذا الشكل، وما أحسدُ العرب على شيء حسدي على جمال حروفهم». وهذا يعني أن ملك الروم قال ما قاله تحت تأثير الأبعاد الجمالية البصرية والحسيّة التي نقلها الخط العربي إليه، وليس تحت تأثير اللغة التي لم يكن يعرفها أو يحسن قراءتها، ويعني أيضًا أن اعتناء العرب بالخط العربي أتاح لهم فرصة أكبر في أن تؤدي الكتابة وظيفة جمالية تُسهم في تعزيز عملية التلقي من خلال المحتوى البصري، وهي وظيفة إضافية تعزز بدورها فعل الوسيط اللغوي في نقل الرسالة المراد توصيلها.

والأكثر من ذلك أن جماليات الخط العربي، كانت لدى الأمم غير العربية التي انتشر فيها الإسلام ملاذًا لتلقي المعارف الإسلامية، فهذه الجماليات البصرية والحسية والروحية قلَّصت المسافة بين الشعوب غير العربية والدين الذي جاءهم محمولًا في كتاب عربي، وشيئًا فشيئًا حلّت العربية محل اللغات السائدة، وأحدثت تغييرًا جذريًّا في الهوية الثقافية لتلك الشعوب والأمم، وفي هذا السياق يؤكد المؤرخ البريطاني أرنولد جوزيف توينبي صاحب موسوعة «دراسة للتاريخ» أن الخط العربي بلغ من قوة التأثير ما بلغته الجيوش الفاتحة، حيث يقول: «لقد انطلق الخط العربي الذي كُتب به القرآن غازيًا ومُعلِّمًا مع الجيوش الفاتحة إلى الممالك المجاورة والبعيدة، وأينما حلَّ أباد خطوط الأمم المغلوبة». بينما يشير المستشرق الألماني أرنست كونل صاحب كتاب «فن الخط العربي» إلى أن الحدود والحواجز لم تمنع الخط العربي الذي تدفق من الجزيرة العربية إلى مختلف الأمم من الربط بين الشعوب ذات الثقافات المختلفة، وأن العرب برغم الإطار الجغرافي المحدد منحوا الدين الإسلامي بُعدًا كونيًّا يتوافق مع كونية الرسالة الإسلامية، ويقول: «لقد منح العرب الدين الإسلامي اللغة والخط، وانتشر الخط العربي في الدين الإسلامي فأصبح رابطًا بين الشعوب رغم الحدود الحاجزة».

جماليات الخط في المخطوطات

لا يمكن الحديث عن جماليات الخط العربي في المخطوطات العربية والإسلامية بمعزل عن وصف الخصائص التي يتميز بها كل خط عن الآخر؛ لأن القيم الجمالية التي ينتجها كل خط تتكئ في الأساس على تلك الخصائص لإبراز سمات التميز والاختلاف، ولأن عدد الخطوط وأنواعها وما تفرع منها أكبر من أن نتناوله في هذا المقام، فإننا سنركز فقط على إبراز بعض الخصائص الجمالية لعدد قليل من الخطوط التي عُرفت بكثرة الاستخدام والاستعمال في تراث الثقافة العربية والإسلامية بشكل عام، وفي تدوين المخطوطات العربية والإسلامية على وجه الخصوص، ومن أبرزها الخط الكوفي الذي يحفل بقدرٍ كبيرٍ من التنوع الناتج عن عملية التوالد المدهش لأنواعه المتعددة، فتارةً نجده في بناء هندسي مربَّع، أو في بناء مورَّق بالزخارف النباتية، وتارةً نجده في صورة الشكل المجدول والمعشّق والمضفَّر، ولم يقتصر الأمر على الخط الكوفي وحده، فكل ما يمكن قوله عن تنويعات «الكوفي» وتجلياته الجمالية، يمكن قوله على خطوط أخرى مثل الأندلسي، والديواني، والفارسي، والثلث، والنسخ وغيرها من أنواع الخطوط التي تحمل اسمًا واحدًا وأشكالًا متعددة، وإذا تأملنا «الخط الكوفي المصحفي المائل»، سنجد أنه يتميز عن غيره بأن ألفاته ولاماته متوزاية ومائلة إلى اليمين قليلًا، بينما الحروف النازلة فيه متوازية مع الحروف الطالعة، وهو خالٍ من نقط التشكيل وزخارف الصنعة الفنية، وهو من كتابات القرن الأول الهجري دون غيره.

أما «الكوفي المصحفي المشق» فهو أكثر جمالية من «المائل»، ففيه تُمطُّ حروف الدال والصاد والطاء والكاف والياء الراجعة مطًّا كبيرًا على السطر من دون المد في وسط المقاطع المكونة من حرفين أو أكثر، وفي هذا النوع من الخط الكوفي يجوز ترك المسافات الكبيرة بين الكلمات لتوسيع مساحات الفراغ للراحة البصرية من جهة، وتقليصها بين السطور لإبراز الحروف المتدلية على السطر التالي من جهة أخرى، وقد بدأ استخدام هذا النوع من الخط الكوفي في القرن الأول حتى الثالث الهجري، وأكثر المتوافر من المصاحف المخطوطة كُتبت به، غير أن الخط الكوفي المصحفي المحقق؛ يُعتبر أجود الثلاثة وأكثرها جمالية من حيث الشكل والتنسيق والتنظيم، فأشكال الحروف فيه متشابهة ومتساوية المساحات، وليست ممطوطة بذات الدرجة التي كانت عليها في الكوفي المصحفي المشق، وهو يتميز بوجود مدَّات في وسط المقاطع لتحقيق أكبر قدر من التوازن، كما يتميز أيضًا باتساع المسافات بين سطوره، واستقلال كل سطر بحروفه، والأهم من ذلك أنه من أوائل الخطوط التي كشفت عن جمالياتها البصرية بصورة واضحة بعد استخدام التنقيط والتشكيل، واستقرار التطور النوعي الذي شهدته اللغة بدءًا من العقد السادس من القرن الأول حتى أواخر القرن الثاني الهجري، ولذلك يُعد أحد أهم تجليات العناية الفنية المبكرة بالخط العربي، فمنذ استخدامه للكتابة في القرن الثاني الهجري بدأ الجانب البصري للخط العربي يتجلى أكثر، ويكشف عن وظائف جمالية لم تكن مطروحة من قبل.

خصائص الخط الكوفي

حظي الخط الكوفي في بلدان العالم العربي والإسلامي باستخدامات متنوعة وبالغة الخصوصية، وقد تعددت خصائصه بتعدد البلدان والممالك التي اهتمت بمخزونه الفني والجمالي، فعرفت اللغة العربية الكوفي الموصلي، والإيراني، والهندي، والأيوبي، والمملوكي، والفاطمي، وعندما فتح العرب بلاد فارس في صدر الإسلام، وكان تعلم الكتابة العربية أمرًا حتميًّا لقراءة القرآن الكريم وتوصيل رسالة الإسلام، كان الخط الكوفي هو أجمل ما حملوه معهم من الخطوط، وسرعان ما أصبحت الكتابة العربية هي الكتابة الرسمية، فحلَّت حروف الخط العربي محل الحروف البهلوية والفارسية، وتفنن الخطاطون في ابتكار جماليات جديدة تشبَّع منها الخط العربي، وفي العصر العباسي عمد الفنانون الإيرانيون إلى توظيف خط النسخ بصورة مغايرة عن أصله المتعارف عليه، فأدخلوا في رسوم حروفه بعض الجماليات المبتكرة من باب التجويد والتطوير، ونتج عن ذلك ما سمي بخط «التعليق أو الفارسي»، وقيل: إن الخطاط حسن فارسي هو أول من استنبط قواعد هذا الخط المُستلهم من خطوط النسخ والرقاع والثلث، فابتكر «خط التراسل أو التحرير» الذي انتشر انتشارًا كبيرًا من خلال استخدامه في المراسلات العامة، وعلى هذا المنوال تطورت فنون وأنواع الخط العربي، وتنوعت جمالياته بتنوع استخداماته لدى الأمم والشعوب التي دخلها الفاتحون واستقر فيها الإسلام، فوجدنا كثيرًا من الخطوط العربية تحمل هويات جمالية وثيقة الاتصال بطبيعة البيئات الثقافية التي نشأت فيها لدى الشعوب التي دخلت الإسلام وعرفت فنون الخط العربي، فعرفنا من خلالها الخطوط العربية التي امتزجت بثقافات تلك الشعوب، وصارت جزءًا من هويتها، وقد عُرِّفتْ هذه الأنواع من الخطوط بالبلدان والأقاليم والمدن التي تطورت فيها كإشارة إلى قدرة الخط العربي على تجاوز الجغرافيا والنفاذ إلى عمق الثقافات المغايرة، وكذلك الإشارة إلى تعدد مراحل تطوره خارج النطاق الجغرافي لمراكز الحكم الإسلامي سواء في الجزيرة العربية أم في العراق ومصر والشام، فعرفت اللغة العربية أنواعًا من الخطوط لم تكن من موروث الثقافة العربية، مثل الخط الإيراني، والفارسي، والكردي، والسلجوقي، والبهاري، والتركي، والأتابكي، والتمبكتي، والإفريقي، والأصفهاني، وغير ذلك من الخطوط التي مرت بمراحل انتقالية متباينة تشبَّعت خلالها بأنماط مختلفة من ثقافات الأمم والشعوب، وتعكس مجمل المخطوطات الفريدة والنادرة التي يحتفظ بها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، قدرًا كبيرًا من دلائل هذا التنوع الثري في استجلاء جماليات الخط العربي، وكيفية توظيفها في المخطوطات الإسلامية التي كُتبت في مختلف بلدان العالم الإسلامي عبر أزمنة متباعدة ومختلفة، وجُمِعَت تحت سقف واحد لحمايتها من التلف والاندثار، ومن بين مخطوطات المركز التي بلغت أكثر من ثمانية وعشرين ألفًا وخمس مئة مخطوط؛ يمكن للباحثين والدارسين والمهتمين بفنون الخط العربي أن يلحظوا هذا التنوع الجمالي الذي يحفل به الخط العربي، فقد حرص المركز منذ نشأته عام 1403هـ/ 1983م على أن يكون الاهتمام باقتناء وترميم المخطوطات الفريدة والنادرة على رأس أولوياته، ويشتهر بين المراكز العلمية العربية والعالمية بامتلاك مجموعات مميزة من المخطوطات الأصلية، وهي مجموعات تُعرض من حينٍ لآخر في معارض متحف الفيصل المتنوعة، مثل: معرض «مصاحف الأمصار»، ومعرض «وهج: زينة الصفحة المخطوطة»، ومعرض «تكوين»، ومعرض «أسفار»، إضافة إلى مشاركاته في المعارض الوطنية والدولية بمختارات من هذه المخطوطات الفريدة والنادرة.

كما أن المركز -إلى جانب مجموعاته الخاصة- يحتفظ بأكثر من (140000) مخطوطة مصورة مُخَزّنة رقميًّا أو على شرائح (الميكروفيش، والميكروفِلم) من ضمنها (15000) نسخة مصورة من المخطوطات المحفوظة بالمكتبة الوطنية البريطانية، و(8000) نسخة مصورة من محفوظات المكتبة الوطنية الفرنسية، وفي سياق العناية بهذه الكنوز التراثية من المخطوطات العربية والإسلامية؛ أسس المركز قسمًا متخصصًا في ترميم المخطوطات، وسلسلة لتحقيقها وإعادة إحيائها وإتاحتها للباحثين والمختصين، إضافة إلى سلسلة أخرى لفهارس المخطوطات الأصلية، ومن خلال السلسلتين يتم التعريف بنوادر المخطوطات العربية والإسلامية على نطاق واسع، وإبراز أهميتها العلمية وخصائصها الجمالية عبر إصدارات متميزة من حيث الطرح العلمي الجاد والطباعة الفاخرة، ويمكن من خلال هذه المخطوطات التي استندت إلى بعضها كمرجعية لهذه القراءة والصور المصاحبة لها، رصد الكثير من ملامح التحولات الفنية والجمالية التي شهدها الخط العربي منذ فجر الإسلام حتى الوقت الراهن.


المراجع:

– مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الخط العربي من خلال المخطوطات.

– أدب الكتاب لأبي بكر محمد بن يحيى الصولي.

– الفتوحات المكية لابن عربي، الجزء الأول.

– إحياء التراث العربي لأسامة ناصر النقشبندي.

– الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.

– فتوح البلدان لأحمد بن يحيى البَلَاذُري.

– أبحاث الدورة الثانية لملتقى القاهرة الدولي لفن الخط العربي.

المنشورات ذات الصلة

صناعة النخب في الوطن العربي

صناعة النخب في الوطن العربي

صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *