كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
يوسف عبدالعزيز صوت فلسطيني.. الشاعريةُ الجامحة في الخيال والصورة
ما بين قصائد الطفولة والبراءة، وقصائد الذئب وقناع الوردة، مياه شعرية غزيرة سالت على أوراق الشاعر الفلسطيني يوسف عبدالعزيز. صحيح أنه لم يصدر سوى القليل من المجاميع الشعرية، سبعة دواوين فقط في نحو أربعين عامًا مع الشعر، لكنه بدا متميزًا منذ ديوانه الأول الذي صدر في بغداد عام 1980م، وحمل عنوان «الخروج من مدينة الرماد». هذا الديوان الذي جاءت قصائده «أناشيد» ضد الموت والخراب واتفاقية كامب ديفيد 1976م.
منذ البدايات، وجدت قصيدة يوسف طريقها إلى فلسطين، الوطن المغتصب والمتروك لرصاص الأعداء ينهبونه وينتهكونه. وظل صوتُ الشاعر حاملًا هم الوطن والشعب، في صور شتى، ولكن من دون أن تغيب عنه الشاعرية العالية. فقد استطاع يوسف أن يجمع بين الصورة واللوحة والمجاز والخيال المحلق، وبين الهواجس والأسئلة والهموم الفلسطينية والعربية، دون أن يطغى جانب على الآخر، وهو ما ميز بداياته، واستمر يطور تجربته، من حيثُ الرؤى وجماليات القصيدة.
تنوع في التجربة
في مجموعته الثانية «حيفا تطيرُ إلى الشقيف» (كُتِبتْ قصائدها بين 1980- 1982م)، وهو الزمن الذي شهد حصار بيروت واجتياحها، ومجازر صبرا وشاتيلا، يرتفع صوت الشاعر، فنقرأ ما يقارب «النشيد الوطني»، واستحضار الأساطير الكنعانية، إلى جانب صورة المقاتل الفلسطيني واللبناني المُقاوِم: في البَدء كان البحرُ متراسًا/ ورشاشًا على كتِفِ الفلسطيني/…/ مركبةً يسافر فوقها داجونُ. (وداجون هذا هو إله البحر عند الكنعانيين، وكان إلهًا زراعيًّا).
لكن يوسف في قصائد ديوانه هذا، الذي يحمل عنوان قلعة «الشقيف» الشهيرة بصمودها في الحرب على الجنوب اللبناني، لا ينسى ثيمة الحب التي تنتشر في دواوينه، جنبًا إلى جنب قصائد «الوطن». فهو يغني لحيفا وعكا ويافا والقدس، لكنه لا ينسى الحب «وأنا الفلسطيني/ كوكبةُ المُحبين القُدامى». يهتف للمقاتل والعاشق في القصيدة ذاتها، ويزاوج «حالة الشعر الكئيبةَ بالقتالْ»، ويصور «الشاعر المُحتد فوق منابر الكلمات»، ويصرخ به «يكفيك التوجعُ والسؤالْ/ لدَينا الضد/ نرفعُ في السماء يدًا ونمشي خلفَها».
ويواصلُ الشاعر الاشتغال على تجربته، فنقرأ في ديوان «نشيد الحجَر» (كُتبت قصائده في العامين 1980- 1982م أيضًا)، لكن بخصوصية مختلفة عن صوته في الديوان السابق. وعلى الرغم من حضور قصيدة «الوطن» والحرب والرصاص والحرية، فإن حضور المرأة يشهد تنويعًا على شكل هذا الحضور، حيث تغدو المرأة حقيقية، ولم تعد مجرد رمز للوطن السليب. بل تغدو حيفا امرأةً أو «موجة مربكة»، ويغدو وجهها «له شكلُ مدينة». وتختلف أسئلة الشاعر، فيكون من أبرز أسئلته «كيف أدخلُ مملكةَ الشعر ثانية/ أهتدي للينابيع في جسدي؟». أو نقرأ «أنا العاشقُ القروي/ وأقدرُ أن أفتنَ الصخر حين أغني». ولعل سمةً بارزة في قصيدة شاعرنا تتمثل في أن الشعر لديه شديد الارتباط بالمرأة، فالشاعر/ العاشق أمام سؤال «هل أفرَحتْه القصائدُ؟ هل أنقذتْه النساء؟».
وكما تتعدد الصور وتتنوع، ما بين صورة واقعية جدًّا، وصورة شديدة الفانتازية، بل السريالية، كما في قصيدة مستلهمة من عالم سلفادور دالي ومهداة إليه، فإن قاموس المفردات والتراكيب الشعرية لديه شديد الثراء، وكأنه يغترف من مياه المحيط وأمواجه الهادرة. شاعر يلعب بالماء والنار، بالشياطين والملائكة، في آنٍ. وهي مفردات وعبارات مبتكرة وطازجة، لن تجد لها مثيلًا في شعر غيره من الشعراء.
وطن في المخيم
في ديوانه هذا، كما في السابقات، سيجتمع العشاق والمقاتلون، سيجتمع «لوركا المَشرقي»، مع الشاعر علي فودة الذي استُشهد في أثناء اجتياح بيروت 1982م، وسوف نرى كيف «مر الغُزاةُ على أصابعنا/ وذابوا كلهم/ لم يبقَ إلا البحرُ والإنسانْ». ويتكرر السؤال حول الغُزاة والحروب والأوطان والطفولة المستباحة «يولَدُ الطفلُ في وطَني مثقَلًا بالسلاسلْ/ ويرى السجنَ في كل شيء/ كيف أبني إذَن/ حائطًا واحدًا لأصد الغُزاة».
إنها حربُ الشاعر وقصيدته في مواجهة أشكال الموت والانهيارات. فهو يستحضر الشعراء (محمد القيسي، زهير أبو شايب، طاهر رياض)، كما يستعيد الشهداء ومعاركهم، يستعيد معركة «القسطل» وبطلها/ شهيدها عبدالقادر الحسيني. وشخصيات هامشية من هذه القرية أو تلك المدينة، والكثير من النساء اللاتي شكلن شخصيته، وكن «الأثاث» لقصائده، والملهِمات لشعره بأبعاده الوطنية والغزَلية/ الشهوانية في الكثير من قصائده.
تحولات أساسية
أما ذروة التطور في هذه التجربة، فقد شهدتها ولادة مجموعته «دفاتر الغيم» (1988م)، ففي هذا الديوان نجد صوتًا جديدًا مختلفًا، مع الاحتفاظ بسِمات قصيدته الأساسية، لكن النبرة هنا باتت خافتة إلى حد بعيد، بل تكاد تكون اختفت تلك النبرة القتالية، بهزائمها وصمودها، فمال الشاعرُ إلى الهدوء والتأمل والتصوير بعبارات أدق، وامتزجت قصيدة التفعيلة لديه بقصيدة النثر عالية الشعرية، وباتت مفرداته أكثرَ رقة في تصوير أدق الحالات الإنسانية، بل غدا ميالًا، أكثر من ذي قبل، إلى النحت والسرد، كما في قصيدة «جالاتيا» مثلًا، حيث الفنان ينحت عشيقة ثم يقتلها حين يقترب المُهر منها. أو كما في قصيدة «الحظيرة» التي فيها يتصور بيته حظيرة ويتخيل نفسه «شبيهَ تيس» كما يقول، فيذهب إلى النافذة ويبدأ الثُّغَاء. وفي قصيدة بعنوان «سديم» (مُهداة إلى الشعر)، يخاطب الشعر بوصفه عدوًّا، في سابقة شعرية يناديه، ربما تسبب بها غياب الشعر «مرحبًا يا عدوي/ يا قليلَ الكلامْ/ ألهذا الغُبار الكثيف.. قُدتَني…/ ثم أسقطنَني في الظلامْ».
ولما كان الشاعر رتب دواوين هذا المجلد/ المجموع، من النهاية إلى البداية، فسوف نختم هذه القراءة المختزلة بديوانين هما الأخيران لشاعرنا، وصدَرا في مدة متقاربة، هما «قناعُ الوردة»، و«ذئبُ الأربعين».. ويمكن عدّهما امتدادًا للديوان السابق، وتعميقًا لجوانب من تجربته، وتجديدًا في بعض الجوانب.. وإضافات في جوانب أخرى. لكن الصورة في قصيدة شاعرنا تظل تتجدد، تتولد على نحو شديد العفوية، وهو ما يمنح هذه التجربة قدرًا من التفرد والخصوصية. ولعل أبرز ما تنطوي عليه تجربة الشاعر في هذين الديوانين، هو الدوَران ما بين براري الجسد وفضاءات الروح، في مقاطع لا تخفي تلك الشهوانية الهائجة. نقرأ في مقطع منها:
«يشم الحليب الذي يتساقط،/ من فتحة في القميص/ فيعوي/ ولكنْ/ ثلاث صفاتٍ قتلن الفتى/ ورمين نوافذه للغروب:/ إنه من زهور الحدائق/ دائمًا يعشقُ الزهرة الجارحة/ إنه يتوغل في النار/ حتى يذوبْ/ إنه لا يتوبْ».
وفي ديوان «ذئب الأربعين»، الذي يُهديه إلى عائلة الذئاب: زهير أبو شايب، طاهر رياض، عمر شبانة، وغيرهم، نجد الشاعر «وحدَهُ في النفَقِ المعتمِ/ ذئبُ الأَربعين/ يملأُ الأرضَ عُواءً/ ويشم الميتينْ». وفي صورة من صور الشاعر يبدو فيها «سائسُ شِعر»، فيتساءل بحنق «ما الذي يمكِنُ أَنْ تطلبَهُ المرأةُ/ مِنْ سائسِ شِعرْ؟/ أَنْ يرى غُرتها أَعلى/ ويجثو قربَ ساقَيها ككلبٍ/ ويُدَوي مثل صفرْ؟».
وأخيرًا، صدرت الأعمال الشعرية الناجزة، عن «بيت الشعر الفلسطيني»، وزارة الثقافة، رام الله، في 652 صفحة من القطع الكبير. وتجدر الإشارة إلى ما نجده في قصائد شاعرنا من سيرته الذاتية، سيرة الشعر والحياة، فننتهي مع هذا المقطع من قصيدة «سيرة ذاتية»، التي يبدو فيها يائسًا مما آلت إليه الحياة: «حَفنَةُ تبنٍ أيامي/ قالَ الشاعرُ/ وحياتي تلهثُ خلفي كالكلبة/ كانَ العُمرُ الوغدُ يمر كشحاذٍ/ معتمرٍ فوق الرأس حذاءً/ أغمضَ عينيهِ/ فانسَكَبَت جرةُ موسيقا/ واشتعلَ الوردُ على الجدرانِ/ ورفرفَ سِربُ شفاهٍ/ قُربَه/ ما جدوى ذلك؟ قالَ الشاعرُ، ورمى/ مِن نافذةِ الغرفةِ قلبَه».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق