كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«عصور دانيال في مدينة الخيوط» لأحمد عبداللطيف.. سريالية المدينة وندوب الذاكرة
تتسع الرواية الجديدة للكاتب والروائي المصري أحمد عبداللطيف لمستويات مُتعددة من الطموح والتجريب الفني، بداية من تحري بنية جمالية شائقة لنص مُركّب، وصولًا لخلق طبقات صوتية مُتعددة لحكاية بطله المأزوم، والتمسك بتلك الكتابة الحُلمية حتى في أحلك كوابيس المدينة، والبحث عن مدخل جديد لتأسيس علاقة بين النص واللغة كعنصر جمالي وتعبيري، وهو ما يسعى له منذ روايته «صانع المفاتيح»، 2010م، حتى عمله الأحدث «عصور دانيال في مدينة الخيوط» الصادرة أخيرًا عن دار «العين» للنشر بالقاهرة.
يبدو عنوان الرواية «عصور دانيال في مدينة الخيوط» كخريطة مُصغّرة لعالمها السردي الذي يبدو منفتحًا على الزمن، وبطل روائي يحمل اسمًا غير نمطي يشي بخلفية توراتية، ومدينة تستعير من الخيوط مجازاتها ومفاتيحها التي لا تخلو من أسطورية، وهو ما يجعلنا أمام انطباع مبكر أن عناصر الرواية من زمان وبطل ومكان تتقاسم البطولة السردية من دون مُنازعة.
تقدير الزمن
يبدو الزمن في الرواية معلقًا في مرج الطفولة والصبا والكابوس، فبطل الرواية «لا يعرف تقدير الزمن» وهي أكثر العبارات التي تُلازم البطل، ويستدل بها على نفسه على مدار السرد. فالبطل يعيش أربعة عصور، تتقلب بين شتاتها ذاتُه وذاكرتُه. وفي بنية الرواية يبدو كل عصر وكأنه مستقل بذاته، ولكنه الاستقلال الذي يظل منقوصًا ما لم يُربَط بغيره من العصور، ليس فقط على مستوى تدفق الحكاية السردية، وإنما في فهم التاريخ الشخصي للبطل وتاريخ مدينته، ويُراوِح التاريخ في الرواية ما بين واقعية جارحة ثم لا يلبث أن يؤول لسريالية عاصفة في عصر آخر، فيصبح فهم الحدث الروائي مرهونًا بالاستسلام للعبة العصور الزمنية التي صنعها الكاتب أحمد عبداللطيف منذ مطلع روايته التي يبدؤها بآخر عصورها وهو العصر الرابع.
يبدأ العصر الرابع بمشهد بانورامي كابوسي لدُمى تفتح أبواب شرفاتها فترى جثث رجال مذبوحين مُلقاة من حولها «وكأنهم ناموا في صحبة وفاجأهم الموت على حين غِرّة»، في مشهد يستعير سينوغرافيا المسرح كبناء جمالي لتشييد مشهد افتتاحي صادم بمعالم سريالية «كانت جثثًا مرصوصة بيد آدمية في شكل زهرة متفتحة».
وتبدو المدينة في عصرها الرابع، وكأنها تدفع ثمنًا فادحًا لعقاب ما وقع عليها، كما لو أن تلك الدمى كانوا بشرًا تحولوا إلى عرائس ماريونت في لعنة زمنية، حيث الدُّمى «ذات العيون الزجاجية» التي تسكن تلك المدينة يُعانون لعناتٍ بشريةً لا تُفرّق بين إنسان الألفية الثالثة وإنسان العالم الحجري، فهنا القتل، والدماء، والظلام، والأمطار، والرعب المحيط، يسود الشوارع والميادين والبنايات ذات المعالم المعاصرة، تسكنها دُمى بأدوار بشرية (دمية رجل/ دمية امرأة/ دمية طفل)، يشتركون جميعًا في «ذات دُمْيَوِيّة» غارقة في ظلام المدينة المُتسيّد «لا شيء يخيف الدُّمى أكثر من الظلام والبحر، والاثنان صارا على عتبة كل بيت».
بطلان ومدينتان
يبدو (البطل/ الراوي) في مكان ما مُحيطًا بالحدث السردي بصوت متورّط في الحدث المركزي أو «حادثة القتل الغامضة» التي تُطل كلغز كابوسي للمدينة بعد أن استيقظ سكانها (الدُّمَى) على جثث 40 رجلًا حول نافورة الميدان. ومع تقدم السرد يتكشف لنا أن الدُّمى تحتل الطبقة العلوية للمدينة، حيث للمدينة في الرواية طبقتان؛ مدينة علوية تسكنها عرائس ماريونت، وأخرى سفلية هي مركز تحريك خيوط تلك العرائس، مدينة تتحكم في مصير مدينة أخرى، وتجتمع لدى «دانيال» مقاليد المدينتين، بعدما تقوده مصادفةً للعمل في جهاز «الأرشيف» الذي يبدو وكأنه مركز قيادة المدينة السفلية، بما يملكه من سلطة ورعب تبدو وكأنها تُمسك بخيوط ومصاير سكان مدينة الدمى «فوق الأرض مدينة يسير سكانها إلى مصير محتوم كأنهم قطارات تسير على قضيبين دون التفات للوراء ولا قدرة على تغيير القبلة ظنًّا منهم أنهم اختاروا الطريق وأنه ممهد لهم. وتحت الأرض مدينة أخرى تشاهد المدينة العلوية وتضحك منها بسخرية».
وكما تستقر ملفات سكان المدينة في الأرشيف، يقرأ دانيال أرشيفه الشخصي الذي يبدو أقرب للغة السير الذاتية بكل مُكاشفاتها ومفارقاتها، ويصبح «أرشيف دانيال» أحد مفاتيح السرد الذي يحفر في مسارات (الماضي/ العصور) المُتعددة، فيُدخلنا الأرشيف لعالم طفولة دانيال الحافل بالغرابة والجُرح، حيث تبدو سنوات طفولته مهد انفتاحه المُبكر على الوحدة والفقد والثأر والغضب.
وكما للمدينة في الرواية طبقتان، فهناك نسختان للبطل، فهنا «دانيال» و«دانيال الآخر» حتى نصل لـ«دانيالات» متعددين، وهو الأمر الذي استلزم بنية فنية لا تتسع فقط للمساحة الدرامية والتكوين النفسي والذهني المُركب لبطل الرواية التراجيدي، بل لخلق مسارات ونسخ متعددة للحكاية نفسها، وهو ما جعل السرد الروائي لعبة صوتية مُتعددة للبطل/ الحكاية، فيصبح للصوت الواحد أصداء في عصور «دانيال» المتعاقبة، وللحقيقة الواحدة طبيعة مرآوية وأحيانًا متناقضة، فنغدو أمام صوت بطل مُنقسم يكتب تاريخه ويعيد قراءته ويهرب منه تارة بالانتقام وتارة بالنسيان وتارة بالإنكار، دانيال قاتل وآخر مقتول، دانيال بريء ودانيال مُنتقم. ويخلق عبداللطيف مسارات لغوية تربط بين الصوت الداخلي للبطل، وصوت دانيال متحدثًا عن دانيال الآخر؛ أحدهما طلق اللسان والآخر متلعثم، أحدهما مُنزوٍ والآخر يمتلك مفاتيح المدينة «استحلت شخصًا منفصلًا عن ذاته يطل عليها كغريب يراقب غريبًا، وبهذه الطريقة كنت دانيال الذي يحدّث دانيال ودانيال الذي يحب ويكره دانيال».
يعتمد السرد على بنية الشذرات المكثفة والفصول القصيرة، التي تبدو كمقاطع نثرية مكتوبة بلغة بصرية تستعير من تقنيات المونتاج السينمائي، حيث ينتهي المشهد ليعود في زمن آخر بمعطيات روائية جديدة. ويواصل الكاتب أحمد عبداللطيف بالإضافة إلى لعبة البنية الروائية، لعبته التجريبية مع اللغة، فهو يتحرر من علامات الترقيم في أغلب الرواية، ويستعين بها في حدود وبتوظيف مقصود لتلعب دور الدفقات الشعورية الحساسة، ولا سيما في سنوات الطفولة الأولى لدانيال، ويعد هذا التوظيف لعلامات الترقيم مواصلة لتجارب سابقة وصلت ذروتها في مجموعة «مملكة مارك وطيوره الخرافية»، ومن قبلها في رواية «إلياس»، حيث يمنح التحرر من علامات الترقيم تجربة لها وقع الصدى اللغوي لمشاعر أبطاله ما بين اضطراب، وتمرد، ولهاث هروبي متصل من أزماتهم العاطفية، وهي مشاعر ينتصر الكاتب لمنحها التدفق والتحرير حتى من قبضة علامات الترقيم.
فن النبوءة
يبدو بناء الرواية أقرب لبناء لعبة «البازل» كبنية سردية منفتحة على التشويق والغموض، أو كما يقول أمبرتو إيكو «الغابة لا تمنح مفاتيحها بسهولة للزائر الكسول»، فلُغز جريمة القتل الذي تفتتح به الرواية أولى عصورها، لا يمكن فهم أبعاده من دون ربطه بسيرة البطل «دانيال» منذ ولادته العسرة، وحياته المرهونة بموت من سبقه من أشقاء، وحادث مبكر يعصف ببراءة طفولته، وتلك النبوءة وراء اختيار اسمه بكل ما يحمله من غرابة وتاريخ توراتي مجهول في سياقه المعاصر، لكنه يظل يحمل دلالاته داخل النص.
فاختيار اسم «دانيال» لم يكن اختيار والديه، بل كان نبوءة من عَرّافة نصحتهما بتسميته بهذا الاسم حتى يعيش بعد موت متكرر لمن سبقه من أشقاء، فيعيش باسم اختارته له «عرافة»، في تقاطع بين المصير والنبوءة، وهما الثيمتان اللتان يصعب تفادي ارتباطهما الوثيق بمفتاح شخصية دانيال نفسه.
فدانيال يستعين بالحلم وسيلة لفهم عالمه الذي أصابه التعقيد مبكرًا «كنت ولا زلت أرى نفسي في الواقع بنفس طريقة رؤيتي لذاتي في الحلم»، فهو ينتبه لها ويحتاط لها، ويُفسرها ويُصدّق ما تحمله من علامات، ويثير هذا الخيط تساؤلات مبكرة حول ما إذا كان ثمة علاقة بين بطل الرواية «دانيال» والنبي «دانيال»، فقد اختار الكاتب تصدير روايته بمقطع من سِفره: «فدخل دانيال وطلب من الملك أن يعطيه وقتًا فيبين للملك التعبير. حينئذ لدانيال كُشف السر في رؤيا الليل». وينفي النص نفسه علاقة تسمية البطل تيمُّنًا بدانيال النبي: «لا العرافة كانت تعرف. ولا أم دانيال وأبوه كانا يعرفان قصة دانيال في العهد القديم. ومن غرابة الاسم وسؤال الناس عندما بدأ دانيال يبحث عن القصة. وبدافع الفضول أولًا فتح الكتاب المقدس، وقرأ سفر دانيال التوراتي وأحد حكماء بابل». فنجد البطل الروائي يقرأ مقاطع من «سفر دانيال» بفضول لا يخلو من التقاء مجازي تصنعه الرواية دون تأسيس علاقة مباشرة بين البطل والنبي التوراتي المعروف عنه علاقته الخاصة بتأويل الأحلام.
وتعد الأحلام وتأويلاتها وظلالها الميتافيزيقية من مفاتيح قراءة أعمال الكاتب أحمد عبداللطيف، وواحدة من أبرز لغاته السردية. ففي «عصور دانيال» يتقاطع مصير البطل مع أحلامه، وتبدو أحلامه وأحلام صديقه «إبراهيم» في الرواية مُحركة لتروس السرد وحركة المدينة، علاوة على دورها الجمالي الذي أشار له أفلاطون بوصفها «واحدة من أجمل الفنون»، وهو ما ظهر في محاورة «فيداروس» حين كتب أفلاطون على لسان سقراط: «إن الناس الذين اخترعوا الأسماء في العصور القديمة، لم يكونوا يعتبرون الهوس شيئًا مخجلًا أو معيبًا وإلا فلماذا اشتقوا منها اسمًا لأجمل الفنون وهو فن التنبؤ»، حيث تبدو النبوءة وكأنها تنسج من خيوط الحلم والمستقبل معًا نصًّا مفتوحًا على السحرية والغرابة والاحتمالات، وهو ما يمكن سماع أصدائه في هذا النص الروائي.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق