كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الشعر السوري بين داخل وخارج: قصيدة واحدة مكتوبة بقلم الحرب
لا تزال الحرب تُنبئ بتداعياتٍ كثيرة على مستوى الكتابة الجديدة في سوريا، فمن «هجمة الستينيات» التسمية التي أطلقها الشاعر شوقي بغدادي على جيله في تصديره لأنطولوجيا الشعر السوري المعاصر، مرورًا بـ«منعطف السبعينيات» أكثر المراحل تمردًا على القوالب الشعرية الجاهزة كما أطلق عليها الشاعر منذر مصري، الذي أصدر في الحرب كتابه اللافت «لمن العالم» (دار نينوى- 2016م)، وصولًا إلى شعراء الحرب في عامها السادس، والانقسام الذي أصاب النخب الأدبية بين داخل وخارج، نلحظ ثيمات جديدة لنصوص مفخخة حملت لعنة الاقتتال الدائر، مثلما حملت وزر أحلامها المنكوبة.
فالشعر السوري المعاصر وجد انحسارًا في السنوات الأخيرة، في رأي الناقد جمال شحيّد الذي يقول: إن «الرواية أخذت حيزًا كبيرًا ومهمًّا في الثقافة العربية؛ إذ إن الانحسار الذي تم للشعر عوضت عنه الرواية ولو كان جزئيًّا؛ لكن موت الشعر في بعض البلدان الأوربية والمجتمع الاستهلاكي لا يعني موته في بلداننا، فالشعر في سوريا ما زال إلى حد ما بخير رغم النكسة التي حصلت لهذا الفن الأدبي العظيم، علمًا بأن شعوب العالم الثالث بشكل عام تهتم بالشعر، فكل شاب في مرحلة حياته وبخاصة مرحلة المراهقة يكتب شعرًا كون القصيدة في النهاية هي تعبير عن الحياة والإنسان، وبحاجة لأن يعبّر عن مشاعره وأحاسيسه فيبدأ بالشعر ويتركه عندما ينضج إذا أراد». ويضيف الناقد شحيّد أنه شخصيًّا بات متأكدًا من أن الحرب التي تمر بها سوريا أنتجت شعرًا جميلًا، «فالشعر يصبح نشيطًا في الأزمات».
لم ينج الشعر السوري بطبيعة الحال مما ألمّ بالوطن برمته من كوارث. وكما انقسم الوطن إلى شظايا انقسم الشعر وشعراؤه إلى شظايا، يقول الشاعر تمام تلاوي المقيم حاليًّا في السعودية ويضيف: «ثمة شعراء وقفوا إلى جانب النظام، وآخرون وقفوا إلى جانب الحراك، وآخرون اختاروا الحياد، وثمة من آثر الصمت. وتبعًا لهذه المواقف جاءت أشعارهم، على أن هنالك من صمت عن قول الشعر ليس لأنه لا موقف له مما يحدث، وإنما لأن الكارثة ألجمت لسانه. ولا ملام عليه، فمن يستطيع النطق أمام كارثة كهذه، سوى أشخاص لديهم قدرات استثنائية على الكلام، فكلما اتسعت الكارثة ضاقت العبارة».
إننا نحتاج زمنًا حتى نستوعب هول الصدمة، نحتاج زمنًا حتى نستطيع أن ننظر بعين شاعرية إلى هذا الخراب العميم وهذا الموت المجاني وهذا التشرد المليوني عبر الحدود والبحار- يستطرد الشاعر تلاوي الحائز على جائزة الشعراء الشباب في دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008م: «على المستوى الشخصي كان موقفي واضحًا منذ البداية مع التغيير السلمي ولاحقًا ضد السلاح وضد الأسلمة؛ لأنني أعتقد أن الموقف الأخلاقي والثقافي والوطني يجب ألا يكون منحازًا إلا لما يخدم مصلحة الوطن والتغيير نحو الأفضل بالوسائل الوطنية والسلمية التي لا تؤدي إلى مزيد من القتل والخراب، فكتبتُ قصائد عدة تتناول في الأساس البعد الإنساني لما آلت إليه حال الإنسان السوري منذ آذار 2011م، كما كتبتُ عن الموت وعن الهدم وعن التشرد وعن الشرخ الإنساني الذي جاء نتيجة للشرخ على المستوى الوطني».
ثمة شعراء كثر تهجّروا في المنافي، وكانوا في معظمهم مؤيدين للحراك، وكتبوا له وغنوا لشهدائه. ومنهم من التحق بالعمل الإعلامي أو الميداني، وهم شعراء مبدعون ومعروفون على نطاق واسع، بينما ظل معظم الشعراء المحايدين أو المؤيدين داخل سوريا- يضيف صاحب ديوان «تفسير جسمكِ في المعاجم»: ثمة شعراء استشهدوا بالقصف كالشاعر محمد وليد المصري، أو استشهدوا بسكين داعش كالشاعر بشير العاني، وشعراء آخرون اعتقلوا كالشاعر وائل سعد الدين الذي أفرج عنه النظام مؤخرًا، وثمة شعراء تهجّروا من بيوتهم ومدنهم أو هربوا، وهؤلاء أسماؤهم لا حصر لها. الشعر السوري في رأيي الشخصي حاليًّا يشبه مصاير هؤلاء الشعراء، فهو إما شاعرٌ مقتول أو أسير أو مهجّر أو هارب».
الشِّعر يقود المرحلة
الشاعر زيد قطريب الذي أدار وأشرف في سنوات الحرب على ملتقى «ثلاثاء شعر» في العاصمة السورية منتجًا عنها أنطولوجيا بعنوان «شعراء تحت القصف» باللغتين العربية والألمانية له رأي أقل تشاؤمًا في هذا السياق؛ إذ يقول: «نحن أمام انعطافة كبيرة على صعيد النص الشعري، سوف تتبلور لاحقًا لكن متى؟ لا أحد يعرف بالضبط! هذا الأمر تؤكده كثير من النصوص المكتوبة من أجيال شعرية مختلفة، فالمسألة لا تتعلق بالشعراء الشباب كما يتخيل البعض. هذه الانعطافة لا يُقصد بها حضور ألفاظ الحرب وأسماء السلاح ومفردات الانفجارات وأصوات الرصاص؛ لأن حضور هذا المعجم أمر طبيعي، ولا يمكن أن يعد انعطافة أو تجديدًا. إنما هناك انعطافة كبيرة على صعيد المعنى والشكل في آن واحد، فهذه الحرب كانت مناسبة لاستيقاظ كل الأسئلة الفكرية والفلسفية المؤجلة منذ أمد بعيد، وهو ما أدى عمليًّا إلى استيقاظ أسئلة الشكل المتعلقة بأسلوب الكتابة الشعرية، ولنقل: إن هناك علاقة جدلية بين الطرفين؛ بحيث لا خلاف على أسبقية المضمون على الشكل أو بالعكس، فكل واحد منهما يتسبب في إيقاظ الآخر . قريبًا، ستودّع كثير من الكتابات الشعرية معجمها المعروف والمستخدم حاليًّا وأقصد به اللغة العربية بشكلها الحالي، في إشارة إلى تشكّل معجم جديد يفكُّ عقد التحالف الذي نشأ تاريخيًّا بين النص الغيبي الديني والنص السياسي الاستبدادي، وكل ذلك بفضل الحرب التي أعادت أسئلة الانتماء والهوية والثقافة والذائقة الجمالية إلى الواجهة».
اليوم كما يخبرنا الشاعر قطريب: «سيتولى الشِّعر قيادة المرحلة الجمالية والثقافية القادمة ليعيد صياغة الذهنية والمخيلة السورية التي رزحت طويلًا تحت الاحتلال العربي، والآن نحن أمام حركة تحرر كبيرة يقودها النص الشعري، وهي تأتي تتمة لما فعله شعراء سوريون عظماء في التاريخ بدءًا من المتنبي والمعري وصولًا إلى السيّاب والملائكة والماغوط وأدونيس»!
جزيرة تنمو وسط المحيط
ويقول الشاعر باسم سليمان الذي أصدر خلال الحرب أكثر من كتاب شعري وروائي كان أهمها «تمامًا قبلة»: «الشعر ليس الهدف منه فنيًّا البتة بل سياسيًّا، فالربيع العربي الذي أراد القطع مع الخطاب الثقافي السائد والمتماهي مع السلطة المثار عليها، ذهب مغتربًا في وصف الجيل الشعري الذي نضج وأثمر خلال سنوات الصراع المستمرة، فوصفه بأنه جزيرة تنمو في وسط المحيط لها جملها واستعاراتها ومجازاتها الخاصة، وكأن اللغة ولدت الآن لكن المدقق والمتابع بشكل فني من دون التأثر بتجاذبات الجهويات السياسية المتبناة؛ يستطيع أن يرى التأثير الواضح للأسماء الكبيرة في الشعر السوري على هذا الجيل واستنساخ تجربته وتطويرها، وهذا ليس عيبًا فأمير الشعراء وقف وبكى كما فعل ابن حذام وبالتمعّن أكثر، يكتشف كيف تشتغل الآلة الثقافية السياسية في تعويم الأسماء وتوجيه الخطاب الشعري نحو سوق العرض للاستهلاك التطهيري وفق رؤية أرسطو»!؟
ليس ما سبق هو التقليل من المنجز الشعري السوري في سنوات الموت، بل دفاعًا عن الجمال وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التلوث الذي أصاب جوانب الحياة السورية كافة- يعقب الشاعر باسم سليمان مضيفًا: «إن كان من ثورة نقدية مضادة تعيد الشعر السوري إلى ريادته لا بد لها من أن تعترف بأن الشعرية السورية قبل الحرب وخلالها، سواء من ناحية الإيجابيات أو السلبيات- كررت إنتاج ذات المناحي السيئة والترويج لها على أنها الخير الوفير في الشعر السوري الآن، فالقطيعة التي أُمل منها أن تحرِّر الشعر من تجاذبات الجهويات السياسية؛ كي ينتصر لقيم الحق والجمال والخير، أكملت بنفس النسق الذي ثارت عليه».
أين الشعر؟ تتساءل الشاعرة السورية سوزان علي مردفةً: «عناوين كثيرة طُبِعت وتطبع منذ بداية المأساة السورية في الداخل والخارج، ومع إيماني العميق بأن الحرب بفوضاها وموتاها تجعلنا لا نرى، فإن النتاجات الشعرية فاقت أي إنتاج أدبي آخر، مع كل الغرق، مع كل الضبابية التي تحيط بالمشهد، هذا بلا شك ما تدل عليه أغلب النصوص الشعرية التي خلصت إليها السنوات الست الأخيرة في سوريا».
وتضيف سوزان علي: «للحظة تشعر فيها أن الشاعر يرقب ما يجري في الشارع، ثم يبدأ بتدوين أحداثه داخل ورقة في جيبه. تأخذ رحى الحرب مفردات الشعر وتطحنها، لتجرّدها من كل ما ألفناه من الشِّعر السوري».
الكارثة حدثت لنا في الموت، ولم يكن هناك من عمل يوازي هذا القتل- تشرح علي وتضيف: «لأننا في إثرهِ نمشي، نحن لم ننشف بعد، وإن نظرنا خلفنا لن نرى سوى ظلال تتكسر، وكما نضع كفًّا فوق جبهتنا أثناء ظهيرة حادة لنرى بصعوبة، الشعر اليوم يكاد لا يُرى؛ بالمقابل هناك عناوين تمسك خيط الألم من بدايته قبل حتى أن تفتح الكتاب لتقرأ».
كلا إن الشعر لا يلفظ أنفاسه الأخيرة، تقول سوزان علي وتضيف: «إنه يعطي الانطباع بأنه متعب حقًّا كما وصّف الشاعر المكسيكي (أوكتافيو باث) يومًا حال الشعر، فالبلاد متعبة أيضًا، حيث القبور مفتوحة سلفًا، والغبار غدًا سيكون سميكًا فوق الكتب، الوقت يترنح في ظلِّه، والشِّعر ينتظر طارقًا جديدًا يقوده إلى العماء الأول، صافيًا عذبًا كما كان».
شوقي بغدادي: شعراء يتشابهون كأنهم يحبون امرأة واحدة
الشاعر شوقي بغدادي له رأي مختلف في شعراء اليوم؛ إذ يقول: «الشاعر الحقيقي هو الذي يموت إن لم يكتب، فالشِّعر نابع أولًا وآخرًا من المعاناة الشخصية للكاتب، وهذا ما لا أراه عمومًا عند شعراء اليوم الذين يتشابهون في كتاباتهم وكأنهم يحبون امرأة واحدة أو كأنهم يكتبون من دون أن يعيشوا ويعايشوا ما يؤلفونه من قصائد».
الشعر العربي قديمًا كان له مكان الصدارة لكنه اليوم للأسف يجلس في الصفوف الخلفية من المشهد الثقافي السوري -يضيف بغدادي- فكون الشعر نابعًا من إصغاء الشاعر لصوته الداخلي هذا لا يعني أن تخلص قصيدة اليوم إلى نوع من الهوامات، بل يجب تكوين المناخ النفسي والعاطفي على أساس الصدق في القول الشعري، لا من باب التزيين والاحتفاء بالأفكار الكبيرة؛ بل بالتعويل على أهمية الشكل الفني وضرورته في إبداع النص الشعري المتوازن والمؤسس لإشراقات جديدة في القصيدة العربية المعاصرة». الشعر إذًا هو لغة الروح لا لغة العقل، فليس مطلوبًا من الشاعر أن يكون واعظًا أو داعيًا أو خطابيًّا، بل المطلوب منه أن يكون صادقًا وجريئًا في طرح الشكل الفني وترسيخه في نصوصه، وهذا لا يعني كما يرى بغدادي أن «الشعر الحر هو الصيغة الوحيدة للتعبير؛ إنما هناك الشعر العمودي الذي يعد أيقونةَ الشِّعر العربي، لكن من يستطيع الكتابة اليوم كبدويّ الجبل أو سليمان العيسى، فهؤلاء قلائل جدًّا، ولا يتقنون التعبير بأدوات قصيدة العمود التي لم تندثر لكن شعراءها يعدون على أصابع اليد الواحدة».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق