كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«لا يذكرون في مجاز» لهدى حمد.. الواقعية السحرية بتجذير ثقافي عربي
تمثل رواية «لا يذكرون في مجاز» للروائية العمانية هدى حمد الصادرة مؤخرًا عن دار الآداب، بيروت 2022م، تجربة روائية مهمة وثرية ودالة على خصوصية مشروع هدى حمد الروائي وقدر ما فيه من المغايرة والاختلاف. فهي تلج إلى الفن الروائي، وبخاصة تخييله، من باب خاص، وتستشعر طاقات بعينها في الخطاب الروائي، وترى فيها مساحة مناسبة للاشتغال التخييلي وإنتاج دلالة الخطاب أو تشكيل رسالته.
تنتمي هذه الرواية إلى الواقعية السحرية، ولكنها من نوع مختلف؛ فهي لا تنفصل تمامًا عن الواقع بمحدداته المنطقية والعلمية والإدراكية الفيزيقية، ولا تلتزم بقوانين هذا العالم وتفتح نوافذ جديدة وإضافية تمدد حدود هذا العالم أو تجعلها حدودًا سائلة. وهذه ربما تكون القيمة الجمالية البارزة والمهمة؛ فالخصوصية التخييلية أو التشكيل التخييلي لهذا السرد الروائي هو ما يمثل أبرز جمالياته ومنبع مغايرته للسائد في الرواية العربية. الرواية بهذا التخييل الغرائبي- المتصل بالعجائبية السردية العربية القديمة، الشفاهية والمكتوبة، من حكايات وقصص الجان والعفاريت والعوالم السفلية والأساطير وميراث الشرق ومنطقتنا من هذا التخييل الغرائبي- تحدد منطقتها ومساحة اشتغالها وشواغلها كذلك.
لا تبدو هذه الفانتازيا أو السحرية والسرد العجائبي مؤسسًا على الفراغ أو لأجل اللعب والتسلية ولمجرد الانفلات من رتابة الواقع وجموده وتكراراته، بل يبدو هذا السرد اختيارًا ونزوعًا واعيًا مشغولًا بطرح ومقاربة قيم دلالية وإنسانية ممتدة وراسخة وذات طبيعة إنسانية ثابتة تناسب كل العصور والبشر كافة، ولكن عبر طريقة مختلفة، وفيها كسر للرتابة والجمود وتجاوز، وفيها نزوع إلى إشباع طاقات تخييلية أكبر لدى منشئ الخطاب السردي ومتلقيه كذلك.
إلغاء حدود الزمن
تبدأ الرواية من الأرضة، التي تأكل الكتب، في زمننا ولحظتنا الراهنة بكل محدداتها وسماتها الحضارية، ولكنها سريعًا تعثر على سبيلها ونوافذها نحو عالم مغاير تمامًا وزمن مختلف؛ عالم السحر والعجائبية والأساطير والخرافات، عالم قوى سحرية يتسلط بعضها على بعض في قرية مجاز التي تشكل مملكة قديمة لها قوانينها الخاصة. وهكذا فإن مبررات هذا الانفتاح على أزمنة وعوالم مختلفة حاضرة تحت مظلة المرض والغيبوبة والحادثة التي تدخل الحفيدة إلى مملكة جدتها، وهو ما يمثل مظهرًا من مظاهر التجديد والاستجابة لمتطلبات اللحظة الراهنة من طابع علمي، وهكذا تصبح هذه العجائبية جديدة ومختلفة عن الواقعية السحرية التي كتبها كافكا أو ماركيز.
والحقيقة أن هناك أسبابًا أخرى تؤكد هذه الخصوصية، ولكن هذا التبرير الطبي ربما يكون هو الأهم؛ لأنه كاشف عن توظيف جيد واستثمار مثالي للغيبوبة أو المرض والرؤية الحلمية أو عالم المرض والنوم وعمل العقل تحت وطأتهما، وأن ما يمكن رؤيته أو الإحساس به في هذه الأحلام أو الكوابيس أو الرؤى المنامية والغيبوبة عن عالمنا كله مما يمكن أن يستند إليه الفن الروائي ويدونه. ولهذا فإن البدء بشخصية الروائية التي تبحث عن موضوع جديد أو حكاية مختلفة تجدد بها تكلسها وروحها الإبداعية هو من نقاط التوفيق وتمثل خطًّا مهمًّا في البناء الدرامي لهذه الرواية، وبخاصة حين ربطت بين هذه الشخصية/ الكاتبة داخل الرواية وبين كنبتها الصفراء الغريبة، وهي نفسها النقطة التي انتهت بها الرواية في إشارة إلى العودة إلى تدوين ما رأت في الغيبوبة وفي إشارة إلى سيرورة تخييلية مفترضة لتكوين العمل الأدبي نفسه، وكأن الرواية تلمح إلى طريقة كتابتها، أو تحكي قصة تكوينها وولادتها هي الأخرى على هامش ما تحكي من قصص كثيرة وعوالم أخرى كثيفة.
في الرواية توظيف مهم للأحلام والرؤى الحلمية أو غير الفيزيقية، وجعل الأزمان عبر هذه التقنية منفتح بعضها على بعض. ولكن من المهم الإشارة إلى نقطتين أخريين هما جوهر هذه التجربة السردية؛ الأولى ما يرتبط بما ينتج هذا الخطاب الروائي من القيم الدلالية، وما يتصل بالقضايا أو الأسئلة التي يقاربها، فهي في الأساس تشتغل على مكونات ترتبط بالعلم والسياسة والدين أو المعتقدات الإنسانية بانفتاحها، وكذلك تقارب علاقة النخبة بالعامة، ووسائل التحكم في الجماهير وأشكال التنازع بين البشر وتحولات الحياة وتقلباتها بين الفقر والغنى وبين الشبع والجوع أو الازدهار والرخاء والقحط والجفاف، وتقارب حالات من النبل الإنساني والصفاء في مقابل المؤامرات والطمع، حالات من المرض والصحة، وتفاوت أشكال القوة والقدرة بين البشر، بين فائقين ومتجاوزين للقدرات الطبيعية وآخرين محبوسين في أسوار الضعف البشري وعجز الجسد وأمراضه.
تقارب الرواية حالات ووضعيات إنسانية معقدة من الرغبة في العلم والمعرفة والفن والقصص والحكايات والتسلية والتزين والمتعة الجنسية والمال والطعام، وحالات أخرى من القمع والظلم والتلفيق والقتل أو النفي. هي قصة هؤلاء المنسيين أو المنفيين أو الغائبين وراء جبل الغائب وغيومه وسحرته الذين يأكلون ولا يشبعون، وبشبعهم يشبع أهل الوادي ويزداد المطر والرخاء في حالة من الدوران الكوني العجيب الذي يبدو أنه مؤسس في جوهره وأصله على فكرة التوازن بين الخير والشر، وما يضمن له البقاء هو هذه الحال من التنوع ودفع قوى الكون بعضها ببعض. هذا فيما يتصل بالقيم الدلالية والمعاني التي يطرحها أو ينتجها هذا الخطاب الروائي، ولكن فيما يتصل ببنيته وتركيبته السردية أو إستراتيجية تشكيله وإمكانياته أو قدراته على إنتاج القيم الجمالية وبخاصة ما يتصل بالتشويق واستمرارية الدوافع وترابط الحكايات وانسلال بعضها من بعض فهذا ما يحتاج إلى مقاربة أكثر عمقًا وأكثر تدقيقًا وفيها أكثر من ملاحظة.
حكايات متداخلة
تبدو الملاحظة الأقرب على البناء السردي والتشكيل الجمالي لهذا الخطاب السردي هي توالد الحكايات بعضها من بعض، فهي على قدر من الاتصال أو الالتحام المدهش، فكأن كل حكاية تطوي بداخلها حكاية أخرى، أو كأنها لفافات من الحكايات المتداخل بعضها ببعض، وفتح أو فض سرّ واحدة منها يقود إلى الأخرى بشكل حتمي. والطريف والجميل في تقديرنا هو أن يكون هناك متلقٍّ خارجي لهذه الحكايات من داخل الرواية نفسها. فالبطلة القارئة في كتاب الجدة والعائدة إلى تاريخ بثنة الثائبة هي إسقاط على القارئ أو متلقي الرواية نفسها، فهي مجرد مطلعة على لغة أخرى وزمن آخر ومتلصصة على هذا العالم الغرائبي، وهذه التقنية تجعل هذه الشخصية العصرية موازية ومساوية للقارئ الذي يتابعها ويعايش حالتها في غيبوبتها، ويراقب دخولها إلى هذا العالم الغرائبي وخروجها منه مرة أخرى، تصل إلى الجدة وتقرأ في الكتاب القديم الذي لا يفك طلاسمه غيرها، فتتشكل الحكاية أو يعاد تمثيلها أمام المتلقي، فيما يبدو قريبًا بدرجة ما من فكرة حلول الأرواح أو تناسخها واستمرار تدفقها بصور وتجليات مختلفة عبر العصور.
وهكذا بشكل تدريجي نجد أن حكاية حويضر تقود إلى حكاية شنان أو الغاشي أو الأم حارسة العين المرة التي هي نفسها لها حكاية، أو حكاية الخيول العجائبية والبنت التي يقودها سياقها لأن تكون ذكورية وتعيش صراعًا جندريًّا داخليًّا، إلى قصة المقايضين أو قصة مدرب الوشق ومروضها أو قصة صراع الثيران وتبادل الثقافات بين مجتمع وآخر، وفكرة الاختراقات الثقافية والمعرفية بين الشعوب والأمم. في حكايات هي في الأساس ذات طابع رمزي واضح وكثير من ثرائها جماليًّا ودلاليًّا يتصل بهذا الطابع الرمزي، وهكذا تكون هناك حتمية للاشتغال التأويلي، فتقريبًا كل مكونات العالم الحالي من وزارات وقوى وأطراف صراع من علم وسياسة ودين وتعليم وعلاقات خارجية واحتلال أو غزو وسحر وفن كلها حاضرة أو مرموز لها في خطاب هذه الرواية.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق