كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
تشكيلات اللغة ومراوغات المعنى في التجربة الشعرية لعلي بافقيه
لذة الشكل اللغوي ولذة الإحساس الشعري المتوتر والقلق، لذتان تمضيان بنا إلى لذة الرؤية الممتنعة عن الظهور من القراءة الأولى، ما تجعلك تخوض في أرخبيلات لغته الطافحة بماء صافٍ من المعاني وتشربها بكفيك بحيث تحرص على ألا تنسرب من بين أصابعك.
مذاق الشكل الفني متجددًا في لغته وفي تشكيله الفني وشكل الرؤى الحسية والرؤى التعبيرية منصهرة كلها في صياغات التخييل والمجاز غير المؤتلف والمختلف في الآن ذاته. التخييل المختلف والمؤتلف في لحظته الشعرية هو جوهر قوله الشعري، كالمجاز الذي يتخطى تشكيله اللغوي إلى تشكيله الرؤيوي والصوري ويصنع جمالياته الفنية والتعبيرية.
كيف يبدو لنا الشكل الشعري مكتوبًا في شعر علي بافقيه؟ وهو الشكل الذي يبدو في ملامحه الأولى تفعيليًّا لكي يتجاوز ما هو فني لغوي مغاير إلى ما هو ذاتي منحوتًا من أضلعه شقائق من كائنات حية لها دم وروح. شعرية ظمأى لما هو غير موجود وحاضر في اللحظة الشعرية ذاتها. بعض قصائده نجدها قصيرة موجزة رقيقة ومتمردة على مفهومها التفعيلي مقتربة كثيرًا من نثريتها لكنها النثرية التي تكاد تكون هي الشعر كله.
حساسيته الملتحمة بموسيقا شعره، تنبع من داخل النص ذاته رغم أن التشكيل اللغوي موسيقا رهيفة صامتة حتى النخاع. موسيقا تنبع من أدغال بعيدة في أشجارها وغصونها، في عتمتها وضيائها الوجداني.. هو الشعر الباسق في معناه وتشكيلاته حين يقول: «كدت/ ألمس القاع/ هناك حيث الحجارة تقطر لدانة وبهجةً/ …../ صلبة تملأ الكف». وحين نمضي معه في رحلته الشاقّة نحو (النجمة)، تطربنا هذه الموسيقا الكامنة في التشكيل الشعري المتقطّع وفي البوح المتهدّج يتوقف لكي ينهي عزفه اللغوي: «هويت طباقًا عشرًا/ كانت ملونة/ وكان الهواء يهزج/ والشوق يخفر الطريق/…/ الرمل يضاجع الهواء».
السهولة والوضوح الشكلي الممتنع متبديًا في شعر علي ليست بمستوى الغموض الواضح نفسه في اقتفاء المعنى الشعري المنسرب في تضاعيف التشكيل.. في تضاعيف المعاني. المعنى الصعب في نص «النجمة» يتفتت ويتشظى في البوح الصامت حين واقعت الذات الشعرية فوهة البئر في إيماءة حسية كمعادل شعوري عند صعوده للنجمة حيث يزاوج الشاعر بين حالتي الصعود والسقوط في جدلية تشكيلية باهرة تذكرنا بالحالة السيزيفية؛ فكل ما كاد يلمس نجمته سقط عند فوهة البئر ممارسًا عندها فعل الديمومة فتسيل منه غابة من الشجر والطيور. وحين يبدأ الكلام تحضر الدهشة وهنا في نظري يصبح للتشكيل والمعنى سهولة ممتنعة ومضاعفة وتحل الإشارة كدرجة أدنى للبوح: «كدتُ/ أبدأ الكلام/ لكن يديّ أشارتا/ وفمي أطبق على الدهشة/ …/ للحلم/ أن يلمس كالحجر». نظام وبنية القصيدة عنده يعتني كثيرًا بالإيقاع وكما يعتني بالتفعيلة في كثير من نصوصه، وبخاصة في ديوانه الأول «جلال الأشجار»، إلا أنه في ديوانه الثاني «رقيّات» الذي يشفّ بغنائية عالية النغم كان في جُلّه محتفيًا بمركزية المرأة في وجدانه وفكره ومعتمدًا على بنيات نصيّة قصيرة: «سلام عليهنّ/ يهوى الهواء الرشيق عباءاتهن/ فيهفو ويصفو ويعتلّ/ ينضج/ يؤكل بين أناملهنّ/ سلام عليهنّ».
اتسمت قصائد ديوانه الأول «جلال الأشجار» بالطول النسبي وفي بعضٍ منها تمردت على تفعيلاتها، واحتفظت بإيقاعها الداخلي وموسيقاها الكامنة، وكاد أن يقترب من أجواء قصيدة النثر كما في قصيدته المتميزة «أشجار: أوراق الحلاج»، فاختفت التفعيلة وتباطأ الإيقاع وإن ظلّت غنائية البوح مستترة على الرغم من أنه لا يعدّ من شعراء قصيدة النثر: «طالعًا من وجع الخلوة/ مخلوعًا من الجثّةِ/ منزوعًا من الأصوافِ/ مبتلًّا بماء الخلق والألوان/ أندقّ على الساحة/ ظُهْرَ المسجد الأول نصف الليل/ هذا رطب الصبحِ إذًا مفتاحُ هذا الكون». لكنني ومع هذا أعدّه شاعرًا تفعيليًّا بامتياز، وتفعيلاته مبتكرة متجددة في أفقها التجريبي المرهَف.. وتبتكر غنائيتها وشجنها.
نحن أمام شاعر نسيج وحده.. موسيقاه كامنة، تأتي مثل انثيال ماءٍ باردٍ مثلج تترامى نبراتها وأنغامها بمكعبات ثلجها بين الأحجار السوداء الملساء. لكنه «الثلج مشتعلًا» بالمعنى من الداخل، على حد قول الفرنسي ريجيس دوبريه.. مشتعلًا في لحظة شعرية مباغتة وذائبًا في لحظةٍ أخرى. إن قصائد علي بافقيه في ديوانه الأول «جلال الأشجار» -الذي أُعدّه أحد أهم الدواوين الشعرية التي صدرت في ثمانينيات القرن الماضي- من نوع النصوص الشعرية التي قال عنها ت. س. إليوت: «يثيرنا معناها أولًا وتصلنا موسيقاها بطريقة لا شعورية».
خصوصية علي بافقيه التعبيرية
على الرغم من تميّز وخصوصية التشكيل الشعري وخصوبة الرؤية الفنية وحداثتها عند بافقيه فإنه يعدّ من رموز الجيل الشعري المحوريين في تجربتنا الشعرية الذين لم يحظوا كثيرًا بالالتفاتات النقدية اللامعة كما حظي علي الدميني مثلًا أو محمد الثبيتي وعبدالله الصيخان وآخرين. فلكل جيل من الشعراء في ظني ضحايا نالها الإهمال النقدي واختفت ملامحها التجريبية خلف وجوهٍ شعرية بارزة نالت حظوظًا مسغبة من الدرس النقدي رغم أن منجزها الشعري لا يتفوق كثيرًا عنهم.. لأسبابٍ معلومة وغير معلومة، ولعلّ أبرزها دور العلاقات الشخصية البينية، والمحاباة الظرفية بل القدرة المذهلة على تسويق الذات واختراق الأوساط الاجتماعية والإعلامية.
فشاعرنا علي بافقيه من المبدعين الحقيقيين، وأعرفه شخصيًّا زميل دراسة وصديقًا حميميًّا هادئًا في سمته، عازفًا في خلقه عن الأضواء والمباهاة الزائفة، وادعًا حييًّا، وليس عنده ادعاءات كبيرة في تجربته الشعرية الأصيلة، بل كان صاحب تجربة حياتية غنية ومعنية بعذاباتها الخاصة والفردية وتصدّعاتها الروحية والعاطفية التي تركت أثرها الواضح في شعره بخصوصيتها التعبيرية وتوهّجاتها الذاتية. إن المعادل الشعوري الذي تحدث عنه إليوت في نقده لـ«هملت» شكسبير نجده في تجربة علي بافقيه يتحوّل إلى سلسلة من معادلات شعورية يجري تمثيلها في كثير من الرموز والإيماءات والاستعارات والصور.
حين نقرأ قصيدة بافقيه الفذّة «غصن أسود» -التي أُعدّها من عيون نصوص تجربتنا الشعرية الحداثية وقد كتبها الشاعر في الثمانينيات، ذروة النهوض الكتابي الحداثي- نقف عندها بجلال الأشجار ذاته؛ لأن لها وجودًا ذاتيًّا شجريًّا خاصًّا استطاع شاعرنا أن يضعنا بها في قلب العملية الشعرية الثرية بكل تمثيلاتها الواقعية والشعورية والحلمية.. وبكل تدفقاتها اللغوية الجمالية.
يبني علي بافقيه في قصيدته المائزة هذه عمارة شعورية خاصة لها إيقاعاتها المتلاحقة واستعاراتها ودلالاتها البنائية ويعيد فيها تركيب منطق القول الشعري ومنطق المجاز ومنطق التأويل، فيما يتعدى الذاتي الحلمي إلى التاريخي والصيروري والكوني. إنه محتشد بالمرأة/ الأشجار في جلالها وجمالها وغموضها في معادلاتٍ شعورية ناطقة، وإيماءاتها الكثيفة، وصورها الاستعارية المتتابعة تؤول إلى حدّة انفصال الغصن الأسود وعمق اغترابه عن جذعه الرئيس.
«أرى حشدًا/ حشدًا من النحل/ أرى حشدًا من الطلحِ على الحلم/ أرى حافلة الصبح/ أرى أرصفةً بيضاء مثل الكحل/ حشدًا من نساءِ النحل».
والمرأة تبدو هنا كوجود فيزيقي وروحي شديد المحورية لدى علي بافقيه في هذه القصيدة/ اللوحة المتعددة المستويات، وفي غالبية قصائد الديوانين، هي كل الأشجار الواقفة، وهي كل الحشود القادمة، وهي النسغ اللوني والمائي الجذري والشجري.. و(وقت القصيدة)، تسيل في دمه في جلالها وعمق ظلالها، يلتجئ إليها الغصن الأسود ثانيةً بعد أن انفصل عن جذعها فتيبس واسودّ لونه:
«مقطوع من جسدها/ مثل غصنٍ من جذعه/ ونظل/ نقطرُ».
ولهًا يتمنى أن تضحك في مائه المحبوس كي تستعيده من جديد برقًا من بروقها، ومطرًا من أمطارها، يبتهل لها ويخاطبها ويذكرها أنها لم تبرح تسير في جسده.. ولم تزل تتوسد حفافي قلبه:
«تسيرين في جسدي كالمياه السحيقة/ تبنين متكأً في الهواجس/ أو تنصبين بقارعة القلب خيمتك الشجرية». إن الشاعر وهو ينتقل من معادل شعوري إلى آخر لا يعني أنه خرج من حصار اللحظة التعبيرية ذاتها بل يتمادى في استيلاد اللحظات الشعورية الطاغية المنسابة في لغتها الجمالية واستعاراتها القلقة، فبين:
«أرى في المسيل الحصى يتضاحك/ أبيض/ أبيض». وآخر المقطع الشعري: «يقض الهوى مضجعه/ ويرقى معه/ إلى موجةٍ تتلوى/ وتشهق حتى التلاشي/ فيزجي الحصى أدمعه». يختفي الفرح الجمعي بالحياة، ويختزل في فرديته، والماء الذي ينعس على أجساد القرويات تستدعي اللحظة فعل الهوى والأنثى التي تتلوى كموجةٍ حتى التلاشي. إن عمق ودلالة الاستعارة الشعرية وحدوساتها، والصورة الفنية المتخيّلة المذهلة التي جاءت كمعادل شعوري تمثّلت في هذه الجملة الشعرية الباهرة: «فيزجي الحصى أدمعه».
أنسنت الحصى والماء ينحسر عنه، وأدخلته مشاركًا فيزيقيًّا في الحالة الحزينة التي انتابت الذات الشاعرة وهي تبحث بين القرويات الضاحكات عن أنثاها. لنتمعن مرةً أخرى هذا الدفق اللغوي الصافي في المقطع الثامن من النص لنكتشف كيف أن المعنى يراوغ الشكل، كأن النخلة الأنثى تداعب سعفة بنداها فتنتفض من إغفاءتها: «عرِقت نخلة / فاستدارت نداة على عرفها/ أنتفض السعف/ ها إنها تتنفس/ ……/ تكبو على الماء».
الأنثى والحبيبة مهيمنة في شعر علي، إنها لُحْمة النص الشعري في لغته الجمالية وسَدَاهُ في مراوغات المعنى وتموجاته المائية، وهذا ما نلحظه أيضًا في جُلّ قصائد ديوانه الثاني «رقيات». تكتسب غنائية قصائده في هذا الديوان من قِصَر النص وتكثيف الحالة العشقية ومن الموجات الشعرية المتقطعة لهذه القصيدة البارعة.
في مرآة عروة بن الورد
يتحرك نص «عروة بن الورد» لعلي بافقيه طليقًا بين أبعاد وخلفيات مختزلة تُلمح إلى صورٍ أولى لحكايا وسيرة عروة بن الورد/ الشاعر الجاهلي الصعلوك. يستدعي نص بافقيه الزمن في لحظة باهرة من ألف عامٍ متمثلة في حركة عروة القلقة والنائسة بين «القصيدة والسيف».
ما كتبه علي بافقيه هنا ليس نصًّا واحدًا بل نصين كما أرى، النص البكر في معناه وفعله وتاريخيته الموروثة، والنص المتخيّل زمن الشاعر أو ذاتها كما في حضور معناه ولغته ومؤثراته المعاصرة.
وتنويهًا بتجربة علي بافقيه الشعرية تتميز لغته جماليًّا بالتأنق والغموض الشفاف، والرقة التعبيرية-إذا جاز التعبير- بعيدًا من البلاغات المفخّمة، والاستعارات المقحمة، أو المراوغات اللغوية والمفردات المتداخلة، وهو ما انعكس على باقي نصوصه الشعرية في ديوانه الأول: «جلال الأشجار» بل وسمت تجربته الشعرية برمتها حتى اللحظة وهو المُقِلّ في إنتاجه للقول الشعري.
وعلى الرغم من أن هذا النص القصير يعد من بواكير نصوص عليٍّ الشعرية فإن بداياته تشفّ عن حلمه في الكتابة الشعرية الأولى، بما انبثق عنه من دلالة على وعي قَلِقٍ وبِكْرٍ بالمعنى الشعري الحلمي، وموقع الشاعر وفعله المنحاز للفقراء والإنسان بشكل عام. فكان عروة «مثالًا» له في صعلكته ونبله. فعروة لم يكُ صعلوكًا ذاتيًّا وفرديًّا ومنعزلًا يغترف من ملذات الحياة ويقترح الحيلة والمراوغة والمباغتة القولية من أجل تكسبٍ آني. عروة بن الورد في نص علي بافقيه «يسكن بين القصيدة والسيف»، و«يلقي قصائده للنجوم البعيدة» عَلَّها تسمعه، وحين تناديه سلمى امرأته «يسمع خيلًا» و«نخلًا» ويصغي مليًّا لنبض البرّية الشاسعة.
هو عروة بن الورد مجازيًّا في وجهه المعاصر: علي بافقيه، كلاهما في المسافة الزمنية المختزلة بين المعنى والفعل. كأن بافقيه يقول متصاديًا مع مثاله عروة: لا معنى للمعنى الشعري، إلا بمعادله/ الفعل. ولا معنى للفعل إلا بمعادله النظري، اللغة الشاعرة.. حيث يروّض القول والفعل من أجل الإنسان.
كأن النص يُلمح في دلالاته اللغوية ومضامينه كيف كان المثال الشعري معنًى ومبنًى وموقعًا في إهاب شاعرنا المبدع علي بافقيه منذ البدايات مؤتلقًا ومنحازًا للمثال عروة بن الورد، وكيف يبدو الشاعر/ المثال في راهنه قادرًا في آنٍ على فلسفة المعنى والفعل بشفافية ورقة باذخة في تجلياتها الجمالية.
النص:
(١) «كان عروة يسكن بين القصيدة والسيف/ يهجع في لحظة ألف عام/ وألفاظه تتناسل بين الرموش/ وبين المقيمين في الخسف/ عروة يرحل مع خاطف البرق/ يهجع في وهجه ألف عام/…./ وسلمى تناديه يسمع خيلًا/ وسلمى تناديه يسمع نخلًا/ وسلمى تناديه يسمع برية شاسعة».
(٢) «كان عروة يرمي مقاطعه للرياح الطليقة/ عبس تنام وعروة يلقي قصائده/ للنجوم البعيدة/ والليل أطول».
(٣) «عروة يرسم برية/ ويلملمها».
(٤) «رسول الخليفة يهمس في أذن عروة: شيخنا يطلب اليوم سيفك/ حرفك/ هيا معي/ فالجفان/ ممرعة/ والدنان/مترعة/
وعروة حدّق في وجهه ألف عام».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق