كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«تي شيرت واسع بكل الألوان» لأمجد ريان.. عالم واسع بكل الألوان
يشكل جيل السبعينيات سؤالًا في الشعر وهو الجيل الذي قارب على اكتمال منجزه، بل تَحَدَّدَ كثيرٌ من سماته وانحيازاته الجمالية، وإن تنوعت الأصوات والخطابات الشعرية. ويعد الشاعر «أمجد ريان» من أبرز أصوات هذا الجيل، ويمكن القول بتجاوزه مفهوم المجايلة من خلال نص ما بعد حداثي يحمل انحرافات جمالية وتجربة لها خصوصيتها. وفي ديوانه الجديد «تي شيرت واسع بكل الألوان» يقدم نصًّا يحمل سمات خاصة، واقتراحًا شعريًّا مغايرًا للسائد والمألوف من خلال توظيف لغة الحياة اليومية، والتفاصيل الصغيرة، وتوظيف الحكي، والصور البصرية، ومساءلة الذات والتاريخ.
الاحتفاء بالعادي والهامشي
في العنوان، عتبة النص الأولى، يعلن عن موقف جمالي وإنساني، ويحتفي بالعادي واليومي ويعلن موقفه التاريخي، حيث التاريخ خارج قلعته الحصينة يكمن في الهامش، والبطل ليس الفارس والنبيل، بل الإنسان العادي في أحواله وصراعاته وارتباكاته. الحذف في العنوان واضح، يمكن أن يكون (أرتدي) تي شيرت أو (اشتريت) أو (أريد)، كما يمكن أن يكون الحذف (طفل) يرتدي أو (فتاة) ترتدي، فالاحتمالات عديدة والتأويل مفتوح. فالفعل المسند إليه هذا الرداء حُذِفَ، كما ابتعد من اللغة المتسامية للشعر، فالـ«تي شيرت» هو العلامة السيميائية الأولى داخل النص التي تفتح آفاقًا دلالية غير محدودة.
هذه السمات ليست في العتبة الأولى للنص فحسب، فعتبات النص الداخلية تحمل التوجه ذاته، مثل: «أكياس البلاستيك السوداء تطير» و«أتأرجح على الكرسي الهزاز» و«أضغط أزرار المحمول منفعلًا». فتوظيف الهامشي والعادي والمألوف يتواصل داخل الشبكة المعقدة للنص، ويسعى إلى تشكيل علاقات جديدة بين الموجودات من دون السعي إلى تقديم مجاز غرائبي أو كسر غير المتوقع عبر الفانتازيا أو السوريالية. فمن الجمل النثرية البادية، البسيطة والعادية، يتشكل نص يحمل إيقاعًا عامًّا ساحرًا ومجازًا كليًّا يقدم الألم والدهشة. فالتراكيب اللغوية الأقرب إلى لغة السرد، وأكثرها يرتبط باليومي والعادي، تحتل المساحة الكبرى داخل النص، مثل: «معظم ما يحيط بنا لا لزوم له»، «فنحن فاشلون في تحديد الأهداف»، «بل لأننا لا نعرف أصلًا»، «لقد أنفقت اليوم بطوله أبحث عن حل»، «ولكن مهما يكن من أمر»، «في وقت ما»، «على العموم ليس هذا موضوعنا».
إن مثل هذه العبارات البادية بعيدًا مما اعتدناه في السرد الشعري حققت وظائف اللغة خاصة التأثيرية والجمالية، كما سعت إلى الانتقال من الزمن التاريخي «الخارجي» إلى زمن مطلق وهو الزمن الداخلي، أي زمن المبدع، كما أكد من خلالها على الاتساع غير المحدود لقصيدة النثر، وقدرتها على الاحتواء والكشف عن طاقات جديدة للغة، بل تفجير هذه الطاقات، فضلًا عن الصراع الديالكتيكي مع العالم عبر التفاعل مع الموجودات في تناصّ مع مفردات الحياة اليومية؛ ليتشكل نسيج النص من الأشياء الصغيرة والمشاعر الإنسانية المألوفة والأحلام البسيطة التي يبدو بعضها عبثيًّا بالمفهوم العام للعبثية والأسئلة العادية من خلال آلية الحكي، وتداخل الحكايات الصغيرة، والانتقال من حكاية إلى أخرى، وبعضها يأتي من الذاكرة الاستعادية وبعضها يصنع حلمًا بسيطًا حميميًّا ومألوفًا:
«ماذا سيحدث لو جلسنا في مقهى صغير/ واحتسينا فنجانين من القهوة وابتسمنا/ كما لا يستطيع اثنان أن يبتسما؟/ وماذا لو استرسل كل منا في الكلام/ ليحكي قصته الأليمة» (ص 5).
دلالة السرد الشعري
إن هذا السرد الشعري يقدم حكاية صغيرة تقول: جلسنا في مقهى صغير واحتسينا فنجانين من القهوة واسترسل كل منا في الكلام ليحكي قصته الأليمة. والقصة هنا متكررة ومألوفة ليس بها من جديد ولكن تحول هذه الحكاية البسيطة إلى حلم يفجر شاعرية غير محدودة. لقد انتقلت من العالم المعيش إلى الحلم عبر صيغة استفهامية: «ماذا لو»، والحكاية السابقة المتخيلة التي يحتل الحلم فيها مساحة هائلة نجد الضدّ تمامًا حيث الكابوسية: «كان عازف الأكورديون مقتولًا/ بسكين في بطنه/ والأكورديون على الأرض إلى جواره/ مفتوح على آخره/ بينما تغطي الورود البلاستيكية/ جدران القاعة».
إن الحكي في هذا المقطع أقرب إلى السيناريو حيث الذات الشاعرة تلتقط المشهد بتفاصيله، وتعيد الحدث وكأنها عدسة تسجل ما يحدث أمامها. وبالطبع فالحكاية داخل النص ليست كما حدثت، بل ما قادت إليه التراكيب اللغوية، ومن هذا الحدث بكابوسيته، حيث مقتل العازف بما يحمله من دلالة، ينتقل إلى حكاية تالية في النص ذاته: «أكياس البلاستيك السوداء تطير»: «في قلب القاعة بالضبط/ كان هناك صندوق زجاجي/ تسبح فيه الأسماك الملونة/ والقاعة صامتة تمامًا،/ وعلى شاشة التلفاز جمل بسنامين/ يجتاز الصحراء» (ص47) وعقب ذلك يعلن عن قلقه واغترابه: «أنا الحائر/ أتساءل إلى أي مدى ستظل هذه الأحزان تزداد».
فالحكي ليس مجانيًّا والتحول من حكاية إلى ما يليها ثم الانتقال من زمن الحكاية، قصيدة النثر، غير (الحدث)، وهو زمن خارجي، إلى زمن المبدع، وهو زمن داخلي، وتأمل العالم بأحزانه وقسوته والبوح الذي ينطلق من الذات الشاعرة ليواجه أزمات متعددة حيث الغياب للصوت في القاعة ولعازف الأكورديون ولرحيق الزهور؛ فهي صناعية من البلاستيك، والجمل يغيب أيضًا في الصحراء، هو الافتراضي القادم من شاشة التلفاز، ومن الغياب يأتي الحضور.
ويحضر المكان بتفاصيله من خلال نصوص المجموعة عبر موجوداته (مقهى صغير، شاشة اللاب توب، مسرح مفتوح، الأطباق والطاسات والفناجين، دائرة الكراسي، الشارع العريض المزدحم، ميدان المحطة)، تتحرك من داخلها إلى خارجها بلا توقف، والعلاقة مع المكان لا تقتصر على التفاعل مع العناصر الكامنة في الحيز، بل المسافة أيضًا، مثل: «وهناك لحظة رجلين في الشيخوخة/ يلبسان ملابس رياضية/ ويجريان بامتداد الشارع»، أو «وأنا أضع النظارة أمام فمي وأنفخ».
في المقطع الأول هناك المسافة التي يقطعها الرجلين والمسافة بينهما وبين من يشاهدهما ومسافة امتداد الشارع، وفي السطر الأخير المسافة بين الأنا والذات وبين «النظارة» والفم الذي ينفخ.
إن حضور المكان بأشكاله المتعددة كفضاء وحيز ومسافة يمنح النص حيوية غير محدودة، فالمدينة الحاضرة بقوة هي أسطورة في ذاتها ومواجهتها هي البديل لمواجهة الوحوش في الميثولوجيا. لكن الصراع هنا يمثل إشكالية؛ فثمة متناقضات وارتباك في مواجهة المجهول والغامض وغير المتوقع، أو بالأدق شبكة العلاقات المعقدة التي نعيش داخلها، فلا يقين ثابتًا بالرفض أو القبول. والسؤال الكامن بعيدًا من التأويل: كيف نعيش وسط هذه الفوضى داخل عالم واسع يحمل كل الألوان؟ ومن خلال هذا السؤال ينطلق خطاب شعري باذخ، شديد الخصوصية، ويمثل إضافة ثرية إلى المشهد الشعري المصري والعربي ويحتاج إلى كثير من الدراسات.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق