كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الفراشة
لحظات وجاءت عربة، نزل منها رجال ثلاثة بحذر شديد، اتجهوا ناحيتي، دنوا مني، انقضوا عليّ، قيدوا حركتي، ألبسوني القميص، ساقوني إلى العربة وسط همسات العيال المتشفية:
ـ مجنون… مجنون…
كنتُ قد أتيت إلى الحديقة، أحمل شِبَاكي، عازمًا على صيد الفراشات، صغيرة كانت بالقرب مني، تلهو مع الصغار، تنط الحبل، تتسلق الشجيرات، يعصبون عينيها، يصيح كل منهم:
ـ ها أنا ذا… أمسكيني…
خَطَتْ في خطوط متعرجة، ممدودة اليدين، يمينًا أسرعتِ الخُطى، تعثرتْ، سقطتْ العصابة من فوق عينيها، رمقتني وأنا أهمُّ بالصيد.
جميلة كانت الفراشة التي وقفت على إحدى الزهور، بهرتني بألوانها المتداخلة في تناسق غريب، شدتني بتحويمها الفريد.
رأيتُني أخطو صوبها على أطراف أصابعي، صنعتُ من نفسي رحيقًا، طارت وحطت بالقرب مني، وقبل أن تكتشف حقيقة رحيقي، كنتُ قد ألقيتُ بشِبَاكي عليها، بفرحة جثوت أتأمل الفراشة، وهي تحاول الخلاص من شباكي، ولكن دون جدوى.
على مقربة مني نادتني الصغيرة، التفتُّ، حاول العيال منعها، دفعتْهم، أشارت إليّ، ترددتُ، ألحتْ في براءة، لَبَّيتُ:
ـ أريدني مثلك.
داعبتُها: تقصدين رجلًا؟
ضحكتْ: بل صائدة.
وضعتُ ذراعي على كتفيها، سرنا. على دكة رخامية جلسنا. حولنا كانت عيون العيال ترقبنا.
ـ أتريدين -حقًّا – تعلم الصيد؟
أومأت مبتسمة: يا ليت.
ـ وماذا ستفعلين بالفراشات؟
ـ أُقبِّلها، ثم أتركها تطير.
ـ غلط… غلط…
بجانبنا سقطت عصفورة من فوق شجرة، لم تقوَ على الطير، ترتفع قليلًا ثم تحطّ، صاحت:
ـ انظر.. لنعدها إلى عشها، إلى أمها.
ـ اسكتي…
تقلَّبتِ العصفورة في ألم، دمعت عينا الصغيرة، نظرتْ إليّ، وجدتْني أبتسم، قامت تحاول إعادتها، جذبتُها، وقعتْ.
هرولتُ إلى العصفورة، حاولتِ الهرب، عجزتْ، بين يدي كانت تنتفض، ربطتُ طرف شبكتي برجلها، بوهن زقزقت، بكت الصغيرة:
ـ أعِدْها!
أمسكتُ بالطرف الآخر للشبكة، شرعتُ أديرها في الهواء كمروحة، صرختْ:
ـ دعها.. أرجوك دعها..
حبت نحوي، تعلقت بساقي:
ـ حرام عليك… دعها…
أشار العيال إليها، أنشدت العصفورة نشيد الاحتضار، علت قهقهاتي، ملأت المكان، اقترب العيال منَّا، عضتْ ساقي:
ـ كلبة..
تمرغتْ فوق نجيل الحديقة، نادى العيال عليها…
ـ ربنا يعذبك يوم القيامة…
ـ غبية… عودي إلى لعبك.
ـ إذا كنت عصفورة، هل ترضى أن يحدث لك هذا؟
ـ قلتُ لكِ عودي إلى لعبك…
ـ اتركها أولًا.
ـ لا تعكري صفوي.
ـ ربنا يعذبك يوم القيامة، يا رب تدخل النار، يا رب تدخل النار.
ركلتُها، خربشتني، همَّتْ بعضّ يدي، رأيتُني أُمسك بها، أهزها، أطبق بيدي على رقبتها، اندفع العيال إليها، خلصوها من بين يدي، لكن جسدي لم يسكن، وهديري لم ينقطع:
ـ مجرمة… مجرمة…
لحظات وجاءت عربة، نزل منها رجال ثلاثة، بحذر شديد اتجهوا ناحيتي، دنوا مني، انقضوا عليّ، قيدوا حركتي، ألبسوني القميص، ساقوني إلى العربة وسط همسات العيال المتشفية:
ـ مجنون… مجنون…
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق