المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

عبدالله المطيري: أحلم بأكاديمية فلسفية سعودية

تعوّض الغياب الأكاديمي للفلسفة.. وتتجاوزه في الخروج من البيروقراطية

بواسطة | نوفمبر 1, 2022 | حوار

الدكتور عبدالله المطيري، أستاذ الأصول الفلسفية للتربية بجامعة الملك سعود، ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة في السعودية، في حوار مع «الفيصل» عن كتابه الأخير «فلسفة الآخرية: الآخر بين سارتر وليفيناس وبهجة الضيافة»، الذي ترشّح إلى القائمة الطويلة لفرع التنمية وبناء الدولة في الدورة السادسة عشرة من جائزة الشيخ زايد لعام (2021- 2022م). في هذا الحوار يتحدث عن الحراك الفلسفي في السعودية والتطلعات المستقبلية له، وعن مفاهيم القوة والضعف والاحتياج من منظور أخلاقي، والعنف والرعاية في العلاقات التربوية والاجتماعية، وحل المشكلات من منظور الضيافة بوصفها عناية أخلاقية بالآخر. كما يتطرق إلى المعنى الأخلاقي للأمومة ومفهوم الضيافة ودور الحوار في التواصل مع الآخر، وعلاقة السخرية بالانتماء والارتباط بالعالم المحيط، وعن اللامبالاة كشكل من أشكال العزلة والانسحاب من العالم، وكموقف من الأشياء التي تهمنا وتعنينا، وعن العلاقات الثقافية الحقيقية التي يديرها الشغف والصدق في التعامل والتواصل.

إلى نص الحوار:

الحوار وأخلاق الضيافة

  يتحدث كتابك «فلسفة الآخرية» عن مكانة الآخر وعلاقته بالذات وكيفية النظر إليه فلسفيًّا، ما الذي دفعك لبحث هذا الموضوع؟

  دوافع الكتابة معقدة جدًّا وتحتاج إلى معرفةٍ الذات، والعوامل التي تؤثر فيها نادرًا ما تتوافر. لكن يمكن القول: إنّ أحد عوامل الاهتمام بعلاقة الذات بالآخر عندي نابع من كوني معلّمًا. المعلم بطبيعته في علاقة مع الآخر، وهذه العلاقة هي صلب عمله وهويته الأساسيّة. كمعلم تأتي بسُلطات كثيرة تقابلها ثقة مدهشة من قِبل الطلاب وهذا ما يجعلك أمام مسؤولية لا حدود لها. يأتي المعلم بسلطة المعرفة وسلطة السنّ وقبل ذلك سلطة المؤسسة والخطاب العام الذي يمثّله. هذا كله يقابله حالة من الاستقبال والتلقّي عند الطالب داخل حالة من الثقة العميقة. في هذا السياق كنت أسأل نفسي ماذا يجب عليّ أن أفعل؟ كيف أجعل هذه العلاقة، بمعادلة القوى هذه، علاقة أخلاقية. كان الجواب لمدة طويلة هو الحوار. أي أن العلاقة الحوارية مع الطالب هي العلاقة الأخلاقية القائمة على التوازن والمساواة وتعديل التفاوت السابق في المعادلة؛ لهذا السبب كانت رسالتي في الماجستير عن الحوار في علاقة المعلم بالطالب.

لكن بعد ذلك أدركت أن الحوار وحده لا يكفي. أعني أن الخبرة الأخلاقية الإنسانية تتسع لعلاقات لا تقوم على المساواة والتكافؤ ولكن تقوم على الخضوع للضعف، على الخشوع أمام الاحتياج الإنساني أو الدهشة أمام آخرية الآخر. كل هذه علاقات وخبرات من واقع الإنسان. تأمل فقط مشهد أن تحمل طفلًا رضيعًا في يدك وكيف أنك تجد نفسك أمام المسؤولية الكبرى ربما في حياتك لأنك تقف أمام سلطة عليا، سلطة الضعف. بكل المعايير أنت أقوى من هذا الرضيع لكنه أقوى منك في معيار الأخلاق. في هذا المشهد أنت لست كفؤًا ولا مساويًا له ولكن خادمًا وراعيًا. هذا ينسحب على علاقات كثيرة مثل الأمومة والضيافة والرعاية والتربية الحقيقية.

لكن على الرغم من أن هذه الخبرات جزء من حياتنا اليومية فإننا ننساها، خصوصًا في السياقات الرسمية النظامية؛ لذا حاولت في رسالة الدكتوراه أن أعيد التفكير في علاقة المعلم بالطالب من خلال أخلاق الضيافة. كان هذا جزءًا من تفكيرنا في المدرسة خصوصًا حين نبحث عن حلول للمشكلات التي تنشب بين المعلمين والطلاب. كانت الزيارات المنزلية، التي تخلق معها علاقة من ضيافة، كفيلة بحل كثير من المشكلات بشكل مدهش ولكن كنّا ننظر للعملية على أنها خارج التربية أو على الأقل خارج مؤسسة التربية.

حاولت في الدكتوراه استعادة الضيافة داخل المدرسة من خلال دراسة فلسفية تكشف عن التحوّل الجذري في مفاهيم العنف والرعاية والاكتفاء الذاتي، متى ما نظرنا للعلاقات التربويّة من منظور الضيافة. بعد هذه المحاولة على المستوى التربوي كان لا بد أن أنقل البحث للفضاء العام، لعلاقة الإنسان بالإنسان خصوصًا مع تصاعد الشعور بالعزلة والاغتراب والتحولات الكبيرة في العلاقات الاجتماعية واتساع روح النرجسية وذاتيّة الاستهلاك المعاصرة. وهذا ما أنتج كتاب «فلسفة الآخرية» الذي بدأ كسيمنار فلسفي عن الفلسفة الوجودية في حلقة الرياض الفلسفية وتطوّرت عنه أسئلة كبيرة كان لا بد من التعاطي معها في «فلسفة الآخرية».

  يعتمد الكتاب على التأمل والتحليل كأداة لمناقشة أطروحته، وشبه غياب للتجربة العملية وليس المدرسة التجريبية، هل أداة التحليل هي المثلى لمناقشة الفلسفة؟ ولمناقشة هذا الموضوع بالتحديد؟

  الخطاب الفلسفي خطاب نظري عامة، لكن هذا لا يعني أنه غير متصل بالواقع. «فلسفة الآخرية» كتاب فينومينولوجي «ظاهراتي» مهمته الأساسية التوجّه للظواهر ودراستها، لا كما تفعل العلوم التجريبية لكونها تسعى لوضع الظواهر في علاقات سببية تجعلها متسقة مع القوانين العامة، ولكن من أجل الإنصات للظواهر ومحاولة الاقتراب من معانيها ودلالاتها الأساسية. بهذا المعنى فالكتاب كله محاولة للاقتراب والابتعاد من علاقة الإنسان بالإنسان، التي جميعنا جزء منها، هذه العلاقة المباشرة التي تشكّل عالمنا بالكامل. لم يكن الهدف وضع تعريفات لهذه العلاقة ولا دراستها من منظور معايير مسبقة، ولا حتى نقدها لأجل استخلاص معايير لاحقة. الهدف كان الوصف قدر الإمكان، الوصف الفينومينولوجي يأتي هنا بمعنى الإنصات أكثر وأكثر. الظواهر معقدة جدًّا وتحيط بها عوامل مؤثرة كثيرة ومهمة الإنصات تتمثل في تجاوز هذه الضوضاء للصوت الأول هناك، في حالتي «صوت العلاقة المباشرة بين الذات والآخر».

ثمرة هذه الرحلة أن نصل للصوت الأول، الصوت القديم الجديد. بهذا المعنى يكون التأمل كما ذكرت في سؤالك هو محاولة لتجاوز المعتاد والدارج ليس إلى عالم متخيل ولكن إلى القديم الجديد الكامن خلف كل ذلك. مثلًا مشهد الرضيع بين يديك، هذا المشهد وحده، الاقتراب منه وتأمله يعني تجاوز كل ما قيل عن الإنسان والإنسان والإنصات إليه. هذه العملية تكاد تكون سحرية في استعادة جدّة الأشياء وانتعاشها الأول. جرّبت هذا كثيرًا في تأمل الكلمات والأشياء والأماكن وفي كل مرة كانت الرحلة مدهشة. محاولة الوصول للأشياء ليس للقبض والاستحواذ عليها ولا حتى لفهمها، ولكن للإنصات إليها. لاحظ أن الإنصات لا يعني أولوية الفهم بل أولوية التواصل والتعالق وفي أحيان كثيرة بما يتجاوز قدرتنا على الفهم والاستيعاب. هذه الجزئية الأخيرة مهمة جدًّا من حيث إن «فلسفة الآخرية» محاولة للتعبير عن ميل الإنسان ورغبته في الاتصال بما يتجاوز حدود فهمه وحدود عالمه الخاص. بتعبير ليفيناس يكون هذا اتصالًا باللاتناهي. اللاتناهي هنا في وجه الآخر أمامي.

  الآخر سياسيًّا شبه غائب في الكتاب، لماذا؟

الغياب شكل من أشكال الوجود. لا يمكن احتكار الوجود في الحضور. تأمل تأثير الآخرين فينا بعد غيابهم، وكيف يكون في كثير من الأحيان أكثر اتساعًا وانتشارًا، ولكنه يشبه اتساع الليل وانتشار الظلام في المكان، وليس مواجهة الشمس في النهار. الكتاب خطوة للخلف. خطوة لما قبل العدالة والسياسة، وبهذا يكون خطوة باتجاهها كذلك.

الخطوة للخلف هذه خطوة أنطولوجية كما عند سارتر، وبالتالي فهو معنيٌّ بالمكونات الأساسية الأولى للوجود الإنساني، وهي خطوة أخلاقية عند ليفيناس بمعنى أنها عودة للقاء الأول بين الذات والآخر وهي عندي، في الضيافة، عودة لعناية الإنسان بمن لا يعرف. السياسة والعدالة في المقابل هي فضاءات الوعي الإنساني والحرية والاختيار والمعادلات التي تحاول أن تنظّم حياة الإنسان وفق معايير معينة. الخطوة للخلف التي يخطوها الكتاب مهمة جدًّا من حيث إنها تعمل تذكيرًا بمحدوديّة السياسة والعدالة. أي باحتياجها الدائم لانفتاح أوسع على آخريّة أكثر جذريّة. من المهم للفضاءات السياسية أن تنصت دائمًا للأصوات التي تقع خارج حدودها. يمكن عدّ هذا الإنصات الأمل الأكبر في أن تكون تصورات للعدالة والسياسة أكثر مرونة وقدرة على أن تكون أكثر أخلاقية باستمرار. السياسة والعدالة تتحرك ضمن معادلة المساواة، ولكننا نعرف جيّدًا أن المساواة ليست كافية لبعض الفئات الاجتماعية، أو لبعض الأفراد الذين تعوقهم السياقات المحيطة عن الوجود العادل مع الآخرين. الخبرة الأخلاقية الإنسانية تخبرنا دائمًا أن فينا استجابة لمثل تلك الحالات، استجابة للضعف والحاجة والعجز، استجابة تجعل من الأقوى خادمًا للأضعف. العودة لهذه الخبرة هي الهدف الأساسي للكتاب، وهي المساهمة الأساسية كذلك في الجدل السياسي.

الذات المحبوسة في الآخر

  خوف الإنسان من صورته المرسومة في أذهان الآخرين نتيجة رفضه لحدوده أم خشية رسم وجهه بملامح لا تشبهه؟

  يبدو أننا أمام خوفين من شيء واحد، وهو استلاب الإنسان من نفسه، ووضعه هناك في الخارج بحيث يكون محدودًا وفي الوقت ذاته أمام خطر أن يكون شيئًا آخر. هذا الإنسان المحبوس في ذاته كما عند سارتر. الإنسان الذي لا يرى إلا ذاته حتى حين يلتقي الآخرين. هذا الإنسان أمام محاولة مستحيلة؛ فهو من جهة يسعى للاكتفاء الذاتي ولكنه لن يعرف ذلك إلا من خلال الآخرين. هذا المشهد يدعونا للتأمل في الحالات التي يتوقف فيها الإنسان عن رؤيته نفسه وينخرط في علاقة لا تتأسس على خبرة النظر. علاقة تقوم على الإنصات للخارج. هنا يتحوّل الإنسان إلى مستجيب لنداء سابق عليه. تأمل كيف يتحرّك الأطباء والممرضون في غرفة الطوارئ في حالة الإسعاف. في تلك اللحظات يغادرون عوالمهم الخاصة استجابة لنداء هناك. هنا يتوقفون عن النظر لأنفسهم، وبالتالي يغادرون الخوف الذي وصفته في سؤالك، وهذا ربما يفسّر الشجاعة والعطاء غير المحدود في سلوكهم. هذا يعني أن عملهم قائم على «نسيان» الذات.

النسيان مثل الغياب شكل من أشكال الوجود، ولكنه يختلف عن الحضور المباشر الذي يحبس الإنسان. النسيان يعني الحركة في الزمن بأريحية أكبر؛ لذا يبدو أن الخوف الذي وصفته في سؤالك هو في الحقيقة خوف أصيل كامن في مطاردة الإنسان لنفسه في العالم، في أذهان الآخرين وفي الصور التي يرسمونها لوجهه. قد يعتقد بعضهم أن التوقف عن هذه المطاردة يتحقق في إغلاق الذات تجاه الآخرين أو احتقار رؤاهم والاكتفاء بما يراه الإنسان في نفسه. هذا مشهد من الغربة والعزلة الحادة يُفرغ الحياة من المعنى والقيمة مع الوقت. هناك ربما لقاء آخر يختلف عن كل هذا. لقاء بالآخر لا يبدأ بالنظر في عينيه بحثًا عن صورة الذات ولكنه يبدأ باستقبال يده ومصافحتها. لقاء ينطلق مباشرة للعناية بهذا الآخر، بدعوته للجلوس ومباشرته بكأس من الماء.

  الضيافة أمومة، كما تقول. أليس في هذا حصر لمفهوم الضيافة وتضييق له بدل عدّه فطريًّا للإنسان عامة؟

  يبدو أن السؤال مبني على فرضية الأمومة بالمعنى البيولوجي للكلمة، ولكن ليس هذا ما أعنيه بالأمومة. هناك معنى أخلاقي للأمومة يجعلها متاحة للذكر والأنثى والكبير والصغير. الأمومة بهذا المعنى تعني رعاية الآخر لدرجة أن تكون له الأولويّة على الذات. هذا المعنى للأمومة هو ما يجعل من الممكن للأنثى التي لم تلد أن تكون أمًّا بالتبني وهو ما يجعل من الممكن للمعلم أن يكون أمًّا لطلابه. هذا هو المعنى المشترك مع الضيافة. المضيف يعتني بضيفه لدرجة أن تكون الأولويّة لهذا الضيف عليه.

هذه العناية تظهر في صور مختلفة، لكن لاحظ معي مثلًا موقف المضيف من ضيوفه عند الأكل وكيف يكون كل اهتمامه وحرصه أن يستمتعوا بالطعام في حين لا يستطيع ذلك هو، عينه على أياديهم وصحونهم ووجوههم. هل يأكلون أم لا؟ هل يستمتعون؟ ماذا لو عرضت عليهم الطبق الفلاني؟ ماذا لو حكيت لهم حكاية مسلّية تساعدهم على الاسترخاء والاستمتاع بالطعام؟ والعملية تبدأ مبكرًا في اختيار الطعام المناسب والعناية بإعداده. بهذا المعنى تكون الضيافة عناية أخلاقية بالآخر تجعل له الأولوية على الذات، وهذا هو تحديدًا المعنى الأخلاقي لا البيولوجي للأمومة.

دلالة اللامبالاة والسخرية

  اللامبالاة أو السخرية متى تكون خيار عيش في مواجهة الصرامة الحياتية؟

  يبدو لي أن اللامبالاة والسخرية موقفان مختلفان جدًّا. السخرية شكل من أشكال الانتماء والارتباط بالعالم المحيط عن طريق كسر حواجز معيّنة من خلال تقييمها بشكل مختلف. بهذا المعنى تكون السخرية محاولة لإعادة التقييم، وبهذا تكون شكلًا من أشكال استعادة مساحة الذات للاتصال بالأشياء. على سبيل المثال أحيانًا تمرّ علينا مواقف عصيبة تجعلنا نفكّر داخلها بحيث تسيطر على وجودنا. لكن في لحظة معينة نستعيد حريتنا أمامها من خلال السخرية منها، وهذا يشمل أحيانًا السخرية من الذات. هذا في رأيي سبب الانطلاق وخفّة الوجود التي نشعر بها عند السخرية.

اللامبالاة في المقابل شكل من أشكال الانسحاب من العالم، وبالتالي شكل من أشكال العزلة. اللامبالاة تقليص لانتماء الانسان وحدّ له والمشكلة العميقة أن هذه العملية لا تنجح. أعني أن الإنسان حين يقرر اللامبالاة فهو يعلن عن مبالاته في الوقت ذاته. اللامبالاة هي موقف من الأشياء التي تهمنا وتعنينا ولا معنى أصلًا ألا تبالي بشيء لا يدخل سلفًا ضمن اهتماماتك. لاحظ أن اللامبالاة ليست قرارًا واحدًا في لحظة معيّنة ويختفي العالم بسببه. اللامبالاة محاولة يومية مستمرة وهذا سبب الإرهاق الكامن فيها. اللامبالاة بهذا المعنى شكل من أشكال الصراع بين قدرة الإنسان وعجزه، بين رغبته في الوجود والتلاشي. لهذا السبب فإنها في رأيي لا تنجح، والدليل على ذلك حرص «اللامبالين» على إظهار اللامبالاة وكأنهم هم أنفسهم يبحثون عن دليل.

العلاقات الثقافية الحقيقية

  فلسفة الآخر تفتح باب الحوار بدل الانغلاق، كيف يمكن تفعيلها في تكوين العلاقات في المشروعات الثقافية؟

  يبدو لي أن التحوّل الأكبر في فهم المشروعات الثقافية انطلاقًا من فلسفة الآخرية هو أن تكون فعلًا مشروعات ثقافية للآخر أولًا. الآخر هنا، كما أوضحت في الفصل الأول من الكتاب، ليس الآخر الأيديولوجي المختلف أي ليس الحزب الآخر الذي أختلف معه، ولكنه الآخر المحتاج للمشروعات الثقافية. هذا يعني ألّا تهدف المشروعات الثقافية، أولًا وقبل أي شيء، لتحقيق ذوات المشرفين عليها، بل أن تكون بابًا مفتوحًا لمن يحتاج لتلك المشروعات. أعني هنا أن تكون المشروعات الثقافية بابًا مفتوحًا للأسماء الجديدة والمحاولات الأولى، وأن تكون رهانًا على كل هذا. الهياط الثقافي يعني أن تبحث عن ضيف تفاخر به، والعمل الثقافي الحقيقي يعني أن تفتح الباب أمام الضيف الذي يحتاج للمساحة الثقافية. مع هذا التحوّل تصبح المشروعات الثقافية مساحات للإنصات بدلًا من أن تكون مساحات للكلام.

هذا في رأيي يسحب المشهد الثقافي من كونه منصّة لتسجيل المواقف إلى كونه امتدادًا للشغف بالجمال والحقيقة. داخل هذا الفضاء تنشأ في رأيي العلاقات الثقافية الحقيقية بين أهل الشغف المشترك، لا من خلال المحاصصة التي تسعى لتصميم موازنة مكشوفة بين المختلفين، ولكن من خلال الصدق في التعامل والتواصل. مع الوقت في رأيي تتشكل علاقات متينة ليست بين رموز التيارات المختلفة، ولكن بين أولئك الذين يقودهم شغف أكبر من التيارات ذاتها.

في السنوات الأخيرة، بدأت الساحة الثقافية السعودية تستقطب أفرادًا لديهم اهتمام بالثقافة مختلف عن الاهتمام التقليدي الذي غالبًا كان يأتي من الاهتمامات العقائدية والأدبية. لدينا أفراد لديهم تأهيل في العلوم الطبيعية والإنسانية والتقنية والفنون المختلفة، وينظرون للقضايا من منظور مختلف ربما علامته الأولى أنه غير منحاز بشكل مسبق. هنا برودة لطيفة تسمح بالتجاور والاقتراب بدلًا من السخونة التي تعبّر عن المواقف العقائدية أيًّا كانت تلك العقائد. شخصيًّا أراهن على وسط ثقافي بارد بالمعنى الجذّاب للبرودة في صيف الرياض.

التجربة الفلسفية السعودية

  بصفتك رئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة بالسعودية، بعد سنة من تدشين الجمعية ما مدى الرضا عن جهودها؟

  في مراحل التأسيس الأولى تعتمد الجمعيات بشكل أساسي على جهود التطوّع من أهل الاهتمام والشغف، وبهذا المعنى تكون جمعية الفلسفة في سنتها الأولى تجربة ملهمة لمبادرة الناس للعمل التطوّعي لخدمة مجتمعهم في هذا المجال المعرفي الذي اختاروه. تعمل الجمعية على خطين متوازيين: الأول إداري تنظيمي يتمثّل في بناء مؤسسة ثقافية فاعلة ضمن قوانين القطاع غير الربحي التي تشهد تحولات كبيرة في السنوات الماضية، وفي الخط الثاني عمل ثقافي يتمثّل فيما يُقدم للناس من فعاليات وبرامج وأنشطة. أعتقد أننا نسير في طريق الهدف الأساسي، وهو أن تكون هناك مؤسسة فلسفية مجتمعية غير ربحية يتوجه لها أهل الاهتمام للتواصل بعضهم مع بعض، وتقديم ما لديهم من أفكار وأطروحات.

تعتمد الجمعية أسلوب الإعلان عن فتح باب المشاركات في برامجها، وهذه دعوة للجميع وأمل في أن تعكس الجمعية تنوع الاهتمام الفلسفي في المجتمع السعودي. من حسن حظ الجمعية أن هناك مؤسسات ثقافية كبرى، كما هو الحال في وزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة، لديها وعي ثقافي عميق يدفع باتجاه أن تشارك الفلسفة مع المجالات المعرفية الأخرى في إثراء التجربة الثقافية السعودية.

أشعر حقيقة برضى عميق لسبب مهم وهو الشغف والعطاء الواضح في المجتمع الفلسفي المحلي. هذا الأمر ينطبق على مجلس إدارة الجمعية الذي يعمل تطوعيًّا وبشكل يومي لخدمة الجمعية، ويشمل كذلك أعضاء الجمعية وجمعيتها العمومية بما فيه من خبرات وتجارب ومشورات لا يستغني عنها مجلس الإدارة، ورأس المال كله يكمن في حضور الناس وإقبالهم على الفعاليات. الجمعية بخير ما دام مجلسها عامرًا بمحبي الحكمة.

  أين ترى الجمعية في السنوات الخمس القادمة؟

  المجتمع السعودي متنوع وحيوي، ولدى أفراده علاقات متنوعة مع الثقافة. هذا الأمر ينعكس على المجتمع الفلسفي السعودي الذي تتنوع اهتمامات أفراده بالفلسفة، فهناك من يريد الاحتراف والإنتاج الفلسفي، وهناك من يريد التدريب في مهارات معينة، وهناك من يريد الحوارات والأنشطة التفاعلية، وهناك من يريد المحتوى المكتوب والصوتي. أرى الجمعية في السنوات الخمس وقد وفرت مجالات حيوية وفاعلة في كل هذه الاتجاهات من خلال العمل المؤسسي والشراكات الصحيّة مع مؤسسات الثقافة والدعم الاجتماعي المختلفة، وكذلك من خلال تزايد أعداد العضوية وانضمام أفراد أكثر مع مرور الوقت. أحلم شخصيًّا بأكاديمية فلسفية سعودية تعوّض الغياب الأكاديمي للفلسفة في الجامعات السعودية، وتتجاوزه في الخروج من البيروقراطية الأكاديمية. أحلم بأكاديمية يافعة يتدارس فيها أهل الاختصاص والشغف القضايا الفلسفية، ويقدمون من خلالها مددًا جديدًا من العبقرية والإبداع الإنساني. أحلم بتراكم خبرات واتصال عميق بين الأجيال.

  نرى حراكًا كبيرًا في النشر الفلسفي مع غلبة الترجمة عليه، كيف ترى مشهد النشر المحلي في مجالات الفلسفة؟

  الترجمة عمل عظيم وأنا شخصيًّا أترجم وأعي أهمية الترجمة، ولكن أعتقد أن هناك خللًا في موازنة الاهتمام بالترجمة مقارنة بالتأليف. هناك دعم كبير للترجمة في النشر الفلسفي ولا يوجد دعم للتأليف. في البداية لا بد أن نقول: إنه من الطبيعي أن تكون كمّية المنتج الفلسفي المتاح للترجمة أكبر من المنتج الفلسفي المؤلّف. الترجمة أمامها كل التاريخ الفلسفي لنقله للعربية، بينما التأليف تجربة فردية معقدة لكن هذا لا يعني إهمال العناية بالتأليف الذي يمثّل مغامرات التفلسف، وهي لب التجربة الفلسفية. من المهم تجاوز المواقف النظرية حول إمكانية التفلسف المحلي وتحويلها إلى مواقف عملية. أعني هنا أن يكون الحكم عمليًّا من خلال تقييم الأعمال المقدمة وليس تقييمًا أوليًّا يغلق الأبواب. لإيضاح فكرة الفرق بين النظرة النظرية والعملية في التعاطي مع إمكان التفلسف المحلي، كان أحد الأساتذة الكبار يطرح عدم إمكانية أن يكون حمزة شحاتة فيلسوفًا؛ لأنه لم يكن لديه حاضنة فلسفية يُنتج ضمنها. في المقابل قمت بمحاولة عملية فتوجهت لكتاب شحاتة «الرجولة عماد الخلق الفاضل» وقدمت رؤيتي أن شحاتة قدّم أطروحة فلسفية أخلاقية في ذلك الكتاب. قدمت هذه الورقة ضمن مشروع قراءات فلسفية في الفكر السعودي، وستصدر قريبًا في كتاب بالعنوان ذاته من إصدار جمعية الفلسفة؛ لذا أتمنى أن يكون هناك دعم للتأليف الفلسفي من دون الإخلال بالمعايير المعرفية.

خارج هذا الدعم لدينا أعمال تعكس الحراك الفلسفي ككتاب الدكتور شايع الوقيان «الوجود والوعي» وكتاب الأستاذ حمد الراشد «فلسفة الأخلاق» والدكتور عبدالله البريدي «كينونة ناقصة» ومجلة «مقابسات»، العدد الأول يحمل عددًا من الأعمال الفلسفية لكتاب محليين.

رئيس نادي الجوف الأدبي يكرم المطيري

  مضت سنة على مؤتمر الفلسفة الأول في السعودية وستقام النسخة الثانية قريبًا، هل تراه حقق أهدافه في تبيئة الفلسفة وإنزالها من أبراجها العاجية إلى الشعب؟

  لا أعلم حقيقة إذا كان «تبيئة الفلسفة وإنزالها من أبراجها العاجيّة إلى الشعب» هو هدف مؤتمر الرياض للفلسفة. المؤتمر كان ملتقى عالميًّا شهد تواصلًا كبيرًا بين عدد كبير من الفلاسفة في العالم مع المجتمع الفلسفي والثقافي السعودي، كما شهد المؤتمر كذلك تقديم أطروحات فلسفية من مشاركين سعوديين. في رأيي أن هذا هو الهدف الأكبر للمؤتمر حيث يحقق اللقاء والتواصل بين المجتمع المحلي والعالمي في مجال الفلسفة. في الجهة الأخرى كانت الأطروحات الفلسفية متنوعة منها ما كان تجريديًّا نظريًّا، ومنها ما كان متصلًا أكثر بالحياة اليومية للناس.

الذي أريد أن أقوله هنا: إن الفلسفة المتصلة بالواقع الإنساني اليومي وبخبراته المعيشية مهمة جدًّا وأساسية، ولكننا كذلك نحب الفلسفة التجريدية والنظرية. أعني أن كل هذه المجالات ذات قيمة وأهمية، ومن المهم الوعي بهذا التنوع باستمرار. لدي أمل كبير في النسخة الثانية من المؤتمر أن يتعمّق التواصل بين المجتمع المحلي والعالمي في مجال الفلسفة، وأن يكون أمام الحضور المحلي فرصة للاطلاع على المنتج الفلسفي العالمي، وأبرز قضاياه، وأن يتوّج ذلك كله بمشاركة سعودية، فلدينا الرغبة الكبيرة والقدرة على القول والإنتاج والمشاركة الإيجابية في الحوار الفلسفي المعاصر.

  الفعاليات الفلسفية متعددة ولكن يغلب عليها التوعية والنقاش الأولي للمفاهيم الفلسفية، ألا ترى احتياج الساحة السعودية لبرامج تأهيلية نوعية أكثر تخصصية؟

  من جهة أولى لهذا الأمر ما يبرره، فالبيئة المحلية لم تكن تتسع لمساحة لقاء مباشرة بين الناس والفلسفة؛ بسبب مواقف ثقافية متراكمة لديها خصومة حادة مع الفلسفة. لهذا السبب كان من الطبيعي طرح القضايا المتعلقة بأهمية الفلسفة وضرورتها. كذلك البيئة المحلية لم تتوافر فيها الدراسة الأكاديمية للفلسفة، وهو ما جعل من الطبيعي نقل المساحة الأكاديمية التي تبدأ من الأوليّات والأساسيات واستعراض المناهج والمذاهب للساحة الثقافية العامة. أعتقد أن هذا يعبّر عن أن التجربة الفلسفية في السعودية حقيقية وصادقة ومستعدة لاتخاذ أشكال مختلفة من التحقق للاستجابة للاحتياج الفعلي على أرض الواقع.

من جهة أخرى هناك خط موازٍ يسعى لإتاحة مساحة مضيافة للتفلسف الإبداعي. بدأ هذا الأمر من أنشطة فتحت أبوابها لأصحاب المشروعات الجديدة للمحاولة والمغامرة كما هو الحال على سبيل المثال مع حلقة الرياض الفلسفية وإيوان الفلسفة في جدة وملتقى السلام في نجران. مع جمعية الفلسفة أصبحنا أمام فرصة لبرامج تأهيلية أكثر نوعية أكثر تخصصية، كما تفضلت في سؤالك، كما هو الحال مع برنامج دعم الكتابة الفلسفية وبرنامج فلسفة الأمومة والفيلسوف الصغير وقراءات فلسفية في الفكر السعودي، والأيام القريبة القادمة حُبلى بمشروعات فلسفية تخصصية تستهدف رفع جودة الإنتاج الفلسفي المحلّي. الأمل أن يكون لدينا أقسام فلسفة في الجامعات السعودية أو معاهد عليا للفلسفة؛ لتأسيس تقاليد أكاديمية أعمق، ونحن اليوم أقرب بكثير مما كنّا عليه لتحقيق هذا الأمل.

من المهم أن نتذكّر في الختام أن التجربة الفلسفية السعودية تجربة اجتماعية تتحرك خارج الخطوط الأكاديمية، وبالتالي فهي تستجيب وتستقبّل تنوّعًا هائلًا في التواصل مع الفلسفة. هناك من يريد أن يكون فيلسوفًا محترفًا وله احتياجه، وهناك من يريد أن يعمّق خبرته الحياتية بالتواصل مع الآخرين فلسفيًّا، وهناك من يحمل أسئلته ويريد من يجيب عنها، وهناك من يريد أن يتعلّم الكلمات الأولى في هذا المجال. كل هذه التجارب حقيقية، وأهدافها مشروعة، ويجب أن تجد لها مساحة ترحّب بها. هذا التنوّع ثراء كبير ومن المهم الحفاظ عليه والاعتناء به.

المنشورات ذات الصلة

بمناسبة صدور كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء» خوسيه ميغيل بويرتا: نحن أمام مسؤولية إبراز التعايش مع الإرث الأندلسي بمفاهيم عصرية

بمناسبة صدور كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء»

خوسيه ميغيل بويرتا: نحن أمام مسؤولية إبراز التعايش مع الإرث الأندلسي بمفاهيم عصرية

بمناسبة صدور كتابه باللغة العربية «رياض الشعراء في قصور الحمراء» بالاشتراك مع الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع،...

زياد الدريس: مركز عبدالله بن إدريس يهدف إلى تشجيع الابتكار وجائزة ابن إدريس أكثر من كونها شعرية أو أدبية

زياد الدريس: مركز عبدالله بن إدريس يهدف إلى تشجيع الابتكار

وجائزة ابن إدريس أكثر من كونها شعرية أو أدبية

يتطرق الدكتور زياد بن عبدالله الدريس، أمين عام مركز عبدالله بن إدريس الثقافي، في هذا الحوار، إلى دور المركز في تنشيط...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *