كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الكشف عن روح الشعب
الأدب المترجم بوصفه ممارسة للدبلوماسية الثقافية
استيراد وتصدير المنتجات الأدبية بوصفها عنصرًا من عناصر سياسة الشؤون الخارجية هو الأساس الذي تقوم عليه هذه المقالة. ومن ثم، فإن هذه الدراسة تتعامل مع جانب متحفظ، نوعًا ما، لنوع من أنواع السياسة الحكومية التي تموّل عادة الأنشطة الأكثر توهجًا ووضوحًا مثل الكراسي البحثية في مجال الأدب في الجامعات الأجنبية، ورحلات فرق الأوركسترا الكبيرة أو فرق الباليه إلى الخارج، والمعارض الفنية، والتبادلات الأكاديمية، وغيرها من الفعاليات الأخرى المتعلقة بالثقافة. وستركّز هذه الدراسة على كندا، لكنها ستتناول أيضًا أمثلة من أجزاء أخرى من العالم، ولا سيما المُتعلِّق بالنظريات الحالية التي تتناول المحاولات الجديدة لأميركا الشمالية لإدراج الثقافة في العمل الدبلوماسي. على الرغم من أن التواريخ الأدبية تأخذ في الحسبان أحيانًا أثر الترجمات في ثقافة ما بوصفها واردات أدبية، فقد ظلت الروابط بين إنتاج الترجمات الأدبية، وتصدير الأدب المترجم بوصفه منتجًا ثقافيًّا، وبين ما يسمى «بالدبلوماسية الثقافية» غير مدروسة على نطاق واسع، ومن الأمثلة على ذلك استقبال وترجمة شكسبير في أوائل القرن التاسع عشر في ألمانيا.
السياسة الثقافية
شهدت التطورات الأخيرة في مجال الترجمة الأدبية والسياسة الثقافية حدثًا جديرًا بالملاحظة. ومن أهم تلك التطورات تقديم المبادرة الثقافية العالمية بوساطة السيدة الأولى لورا بوش، يوم الإثنين 25 سبتمبر 2006م، في احتفال بالبيت الأبيض في واشنطن، وهي مبادرة لتعزيز وتوسيع الدبلوماسية الثقافية للولايات المتحدة. وكان البرنامج الأول الذي أُنجز في إطار هذه المبادرة هو سلسلة من التبادلات الأدبية الدولية، وهو برنامج من شأنه، وفقًا لمايكل جاي فريدمان، الكاتب في قسم الملفات في وزارة الخارجية الأميركية «رعاية الترجمات والمنشورات، وبالتالي تزويد الأميركيين والقراء في الدول الأخرى بترجمات تمكّنهم من الوصول إلى أفضل ما كتبه الآخرون». ومن المقرر أن تشمل المبادرات الأخرى اللاحقة الأفلام وتبادل الخبرات بين صانعي الأفلام وإدارة الفنون الأدائية والتدريب، وبخاصة للمعاقين.
هذا التصريح، بتركيزه على الأدب والترجمة، تطور جديد جدًّا في السياسة الثقافية للولايات المتحدة وعلى نطاق أوسع في أميركا الشمالية. وهو ذو أهمية كبيرة، ليس فقط لأولئك الذين يعملون في الدراسات الأدبية والترجمة على المستوى الجامعي ممن كانوا يعدّون الترجمة وسيلة للوصول إلى الآداب الأخرى، ولكن أيضًا لمترجمي الأدب ممن لم يتوقعوا قط الوصول إلى كتاب ما في دار نشر أميركية. وقد تتغير الأمور الآن!
ولكن ما سبب هذا التركيز المفاجئ على ترجمة الأدب؟ الجواب هو الصورة الحالية للولايات المتحدة المعرضة للخطر إلى حد كبير التي لا تقتصر على ما أعقبته هجمات 11 سبتمبر 2001م. وقد حلَّل العديد من النقاد مشكلة هذه الصورة، وقُدم هذا التحليل بشكل موجز إلى وزارة الخارجية الأميركية في سبتمبر 2005م على هيئة نص يعدّ اللبنة الأساسية لظهور هذه المبادرة. ويحدد هذا النص مشكلة عزلة الولايات المتحدة الثقافية والأدبية والفلسفية والروحية عن شعوب العالم الأخرى، أو ما يسمى بالدبلوماسية الثقافية التي تشكّل محور الدبلوماسية العامة. كما يؤكد أنه في مواجهة الرأي العالمي حول بعض قرارات السياسة الخارجية للولايات المتحدة وآثارها، تحدد الوثيقة الدعم المطلق لإسرائيل ضد فلسطين، وغزو أفغانستان والعراق، وفضائح سجن أبو غريب وغوانتانامو؛ لذا ينبغي تسخير الأدب (والثقافة عامة) ليكون أحد أهم القوى التي تؤثر في نظرة العالم إلى الولايات المتحدة. وعلى وجه التحديد، توضح الوثيقة أن الأدب يكشف «الحقيقة الدائمة للتجربة الأميركية- أننا شعب قادر ليس فقط على تبني وتفعيل ونشر قيمنا النبيلة ولكن أيضًا على تصحيح الذات».
أما مؤلفو هذه الوثيقة، فإن تعزيز الثقافة الأدبية (العليا) ونشرها في الخارج إحدى الطرق المهمة للتصالح مع الصورة السلبية الأخيرة، والاستمرار في التقليد الذي يسعى لبناء هيكل دائم للدبلوماسية الثقافية عبر الأدب. ومع تركيزهم على الدبلوماسية الداخلية، والطريقة التي يمكن بها قراءة الوثيقة داخل وزارة الخارجية التي قُدمت إليها، فهم يكتبون مع التحوط ما يلي: «الترجمة هي لب أي مبادرة دبلوماسية ثقافية. فقد تُحَلُّ بعض حالات سوء التفاهم بين الشعوب عبر التعامل مع التقاليد الأدبية والفكرية لهم؛ وقد يجري في بعض الحالات التوسط لفهم ما يعجز عن فهمه صانعو السياسة والمحللون الأميركيون في رؤيتهم للبلدان الأخرى بوساطة الترجمة والاتصال الفكري مع بعض المثقفين في الخارج».
وإدراكًا منهم أن دُور النشر في الولايات المتحدة تنشر عددًا قليلًا نسبيًّا من الترجمات (3٪ فقط من جميع الكتب المنشورة في السنة)، فقد لاحظوا أنه لذلك «نحن (الأميركيين) لسنا مطّلعين على المحادثات الأدبية والفلسفية والسياسية والروحية التي تحدث في كثير من أنحاء العالم». هذه الفجوة في المعرفة والخبرة ليست تراكمية فحسب، بل انعزالية أيضًا، وهي عامل مهم يؤدي إلى سياسات دولية قصيرة المدى.
السياسة الثقافية والتجارة
التجارة في عصرنا الحالي جانب مهم في السياسة الثقافية للعديد من دول العالم. ففي حين أن مبادرة الولايات المتحدة، وغيرها من المبادرات الأخرى في برلين الشرقية تعدّ مبادرات أيديولوجية إلى حد كبير، وتستخدم الثقافة بوصفها قوّة ناعمة لتعزيز الصورة النمطية وتحقيق الأجندة السياسية، فقد تطور الوضع ليصبح استخدام الثقافة أداة لتحقيق فرص تجارية في كثير من دول العالم الأخرى مثل كندا. ومن الواضح جدًّا أن السياسة الثقافية لكندا مدفوعة وموجهة بشكل أساسي لتعزيز المصالح التجارية. فقد أنشأ وزير كندي مختص في الشؤون الدولية برنامج العلاقات الثقافية الدولية، الذي سيشترك في تنفيذه برنامج حكومي آخر Trade Routes، وهو استثمار بقيمة 500 مليون دولار في الفنون والثقافة الكندية الذي صُمم لدمج الثقافة والتجارة. وينصّ القرار الرسمي للبرنامج على ما يلي: «يدعم برنامج (Trade Routes) أجندة الأعمال التجارية للحكومة الكندية التي تهدف إلى الازدهار ونمو الوظائف في القطاعات القائمة على اقتصاد المعرفة الجديد. وعبر هذا البرنامج، تضمن دائرة التراث الكندي أن رجال الأعمال والمنظمات الفنية والثقافية في كندا لديهم إمكانية الوصول إلى النطاق الكامل لشبكة Team Canada Inc للبرامج والخدمات التجارية الحكومية من أجل توسيع القدرة التصديرية وفرص تطوير السوق».
من هذا المقتطف، ومن الجزء الأكبر منه، يصعب معرفة ما إذا كان من المفترض أن يدعم هذا البرنامج الإنتاج الثقافي في داخل البلد، أو فيما إذا كان يستخدم المنتجات الثقافية الكندية لتعزيز التجارة في الخارج، أو ببساطة مساعدة العاملين في الثقافة الكندية في تصدير أعمالهم. ومهما كان الأمر، فإن النقطة المهمة هي أن التجارة والثقافة مرتبطان بشكل واضح، في الوثائق والإستراتيجيات الحكومية. وعلى مستوى آخر، توجد وثيقة بتكليف من وزارة التجارة والشؤون الخارجية الكندية بمنزلة أساس لهذه السياسة، جمعها جون رالستون ساول، ويوصي بشدة باستخدام وتصدير المنتجات الثقافية الكندية كواحدة من أهم الطرق في جعل كندا معروفة في العالم ومن ثم تعزيز التجارة. يؤكد ساول ذلك بقوله: «إن صورة كندا في الخارج هي، في الأغلب، ثقافتها. هذه صورتنا. هذا ما أصبحت كندا في تصورات الناس حول العالم […] عدم كونها لاعبًا في الاتصالات الدولية اليوم يعني الاختفاء من هذا الكوكب. إنها ليست مجرد فرصة ثقافية ومالية ضائعة. إنها مشكلة رئيسية للسياسة الخارجية. […] تعتمد كل من المبادرات السياسية والتجارية على تلك الصورة».
يرى ساول أن ترجمة الأدب جزء لا يتجزأ من هذه العملية وأنها الوسيلة الأساسية لتصدير الثقافة الكندية. كانت النتيجة الأخرى لهذه الوثيقة هي حصول تغيير في عام 1995م في السياسة الخارجية لحكومة كندا، التي كان هدفها الرئيس الثالث من الآن فصاعدًا «إبراز القيم والثقافة الكندية في الخارج».
في حين أن هذه السياسة يطلق عليها «السياسة الثقافية» من جانب الدبلوماسيين وأولئك الذين يسعون إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع العاملين في مجال الثقافة (أي المؤلفين والمشتغلين في المسرح والملحنين والفنانين)، فإن المصطلح الأقل مراعاة أو الأكثر تشاؤمًا الذي يستخدمه المسوقون هو «العلامة التجارية للدولة». أصبحت العلامة التجارية كلمة رنانة الآن في التسويق وتشير إلى أي نشاط يدعم رغبة الشركة في تحديد منتجاتها وخدماتها بوضوح. وفي عصر الدبلوماسية الثقافية، تحول استخدام المصطلح من منتجات مثل كوكاكولا Coca-Cola، أو خدمات مثل تلك التي تقدمها ماكدونالدز McDonald’s، إلى صادرات ثقافية لبلدان أصحاب تلك المنتجات وترويج سمعة البلد. يلخص بيتر فان هام هذا النهج بأنه «إعطاء المنتجات والخدمات بُعدًا عاطفيًّا يمكن للناس التعرف إليه». في حين أنه قد يكون من الصعب على أولئك الذين يعملون في المجالات الأدبية والثقافية تخيل الأبعاد العاطفية لكوكاكولا أو همبرغر ماكدونالدز، إلا أن المسوقين يحاولون تحقيق مثل هذا التأثير عبر سرد القصص، أي: إشراك عملائهم في قصص ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأدب والثقافة. وهنا يأتي دور الأدب، وعلى أقل تقدير الأدب الذي يروي القصص.
منذ منتصف التسعينيات وما بعدها، ابتعدت إستراتيجيات التسويق الجديدة للمنتجات (ومؤخرًا التسويق للدول) من نشر الصور اللامعة المتكررة في إطار محدد في جميع أنحاء العالم. وبدلًا من بيع المنتجات بالطريقة نفسها لكل ثقافة، تحول المسوقون إلى السرد، وتحديدًا سرد القصص بدقة، وتكييفها بعناية مع الثقافات الفردية، ولجماهير محددة لها خلفيات ومعتقدات ثقافية محددة، وقصص قد ترتبط بالمنتج بشكل غير مباشر. ما يهم هو القصة والعامل المهم هو الحاجة إلى توفير تحديثات مستمرة للقصص القديمة، لإعادة تركيز السرد على الجماهير الشبابية والمستهلكين الجدد.
تتبع مثل هذه الإستراتيجيات المطبقة على الدول، اتجاه ما بعد الحداثة نحو «الأسلوب أولًا ثم الجوهر» (Van Ham 2001: 2)، حيث إن البلدان «تقدم باستمرار وتعيد تقديم إنجازاتها الثقافية السابقة جنبًا إلى جنب مع نظيراتها الحديثة بطرائق حديثة وذات صلة وتستهدف الجماهير الأصغر سنًّا» (Anholt 2002: 6). الفكرة هي أن هذا لن يشجع فقط الإنتاج المستمر وتجديد الثقافة (وهو الأمر الذي يمكن أن يعزز بيع المنتجات) ولكنه سيؤدي أيضًا إلى مقاومة إغراء الانكفاء على أمجادها والعيش في الماضي. يرى أنهولت أن نجاح العلامة التجارية أمر حتمي للبلدان النامية التي تحتاج إلى لفت الانتباه إلى نفسها، وأن تصبح قادرة على المنافسة، وتصر على أن «امتلاك سمعة سيئة أو لا شيء على الإطلاق هو عائق خطير لدولة تسعى إلى أن تظل قادرة على المنافسة في الساحة الدولية». والمبيعات بسبب العلامات التجارية الناجحة ستسمح للبلدان النامية وغيرها بالمنافسة على الصعيد العالمي. وقد قيل: إذا كان بإمكان رجل أعمال كندي إجراء محادثة قصيرة عن مارغريت آتوود مع نظيره الياباني، فإن الرجلين سيكونان قريبين جدًّا من إبرام صفقة؛ لذا فإن اللجوء إلى الدبلوماسية الثقافية يعني المشاركة في التحول المعاصر للتأثير في الجغرافيا السياسية والسلطة عبر صنع الصور (أو إصلاح الصورة، كما هو الحال في الولايات المتحدة اليوم).
قضايا حول ما بعد الاستعمار والاستعمار الجديد
لدى كثير مما سُمي بنظرية ما بعد الاستعمار في السنوات الأخيرة، وطُبق على ترجمة الأدب، نظرة باهتة للترجمة. يجادل الناس بأن الترجمة قد استولي عليها لأغراض معينة، بوصفها مواد أصلية للمتعة الطائشة للسلطة الاستعمارية. ومن الأمثلة الرئيسة على ذلك نسخة فيتزجيرالد من رباعيات عمر الخيام. والمثال الآخر هو «إساءة» هيلين سيكسوس لكلاريس ليسبكتور لنسختها الخاصة من النسوية (Arroyo 1998). اتُّهمت الترجمة بالتضليل المتعمد لأغراض التسويق، وهي قصة تتعقبها تيجاسويني نيرانجانا بكل سخرية في كتابها الصادر عام 1992م بعنوان «ترجمة الموقع». فقد كان يُنظر إلى الترجمة بوصفها ممارسة تفرض النصوص الاستعمارية على أنها القاعدة؛ وذلك من أجل الإقصاء والتشهير والقولبة أو إضفاء الطابع الشرقي على الثقافة المحلية.
في حين أن العمل على الجوانب الاستعمارية للترجمة كان حيويًّا في فهم الاستغلال المتعمد، وأحيانًا العرضي، للترجمة في أوقات مختلفة، فقد كان له أيضًا تأثير إيجابي للغاية في الترجمة؛ فقد تسبب في الاعتراف بالأدب المترجم بوصفه جزءًا لا يتجزأ من صورة أكبر تشمل «المجالات الاقتصادية والسياسية التي تُتَداوَل الأفكار وتُستلَم من خلالها». (سيمون 2000: 17). بعبارة أخرى، لوحظ أن الأدب المترجم نادرًا ما يُتداوَل ببراءة أو مصادفة؛ إذ تتداوله سلطات معينة، في أوقات معينة، لأغراض محددة. وفي الحالة التي أنا مهتم بها، فإن الأسباب دبلوماسية وتجارية كما كانت دائمًا. بينما سيختار بعضٌ، مثل مُنَظِّرُو ما بعد الاستعمار، رؤية الضرر الذي حدث وتسجيله، سيصف بعض آخر الطريقة التي تنتشر بها الأفكار لا محالة، وتتحرك النصوص، وتنقل الترجمة المواد بين الثقافات المختلفة بطرائق رشيقة ومتسلسلة، وبطرائق أخرى سائلة لا يمكن السيطرة عليها في كثير من الأحيان.
ومن المؤكد أن المواطنين الأميركيين الذين أنتجوا الوثيقة التي تقف وراء المبادرة الثقافية العالمية الأميركية الحديثة لا يرون ترجمة الأدب على أنها شكل شنيع من أشكال الاستعمار الجديد. ولكنهم يقولون ببساطة: إن «الثقافة مهمة» وإن «الدبلوماسية الثقافية تكشف روح الأمة». فيرون أن الدبلوماسية الثقافية عبر ترجمة الأدب هي إستراتيجية يمكن أن تعيد الرأي القائل بأن أميركا هي منارة للأمل وليست «قوة خطرة يجب مواجهتها» بينما تعمل في الوقت نفسه على توسيع آفاق جمهور القراء في الولايات المتحدة.
هل هذا موقف بريء؟ هل هو موقفٌ ساذج؟ هل هو مضلل؟ خاصة بالنظر إلى العمل الكبير للباحثين المشتغلين في مجال ما بعد الاستعمار. إلى أي مدى يلعب الاستعمار الجديد في هذا السيناريو؟ وهل تخاطر الترجمة الأدبية فعليًّا بالمشاركة في «السيطرة المستمرة […] للنخب الأصيلة المتوافقة مع القوى الاستعمارية الجديدة» كما يصف أحد الكتاب الاستعمار الجديد؟ هذه أسئلة صعبة ومتكررة، ولا شك أن هناك إجابات كثيرة بقدر ما توجد وجهات نظر. لإلقاء نظرة على إجابة واحدة محتملة، تتعلق بأوربا الشرقية، تُظهر المنحة الدراسية الحديثة حول اتجاهات الترجمة، فيما بعد الحرب الباردة شرق أوروبا الوسطى، أن ترجمة كتب أوربا الغربية وأميركا الشمالية- في العلوم الإنسانية والاجتماعية وكذلك الروايات والسيرة الذاتية والمساعدة الذاتية، إلخ، في اللغات المختلفة للكتلة الشرقية السابقة- شهدت طفرة هائلة بعد عام 1989م، بتمويل من منظمات غربية مختلفة مثل مؤسسة سوروس، ومعهد فيينا للعلوم الإنسانية، وجامعة أوربا الوسطى في بودابست.
إن الاستعمار الجديد أو «الاستعمار الثقافي» لا يطمس ببساطة الثقافة المستهدفة التي لا حول لها ولا قوة. كما أنه يثير الاستجابات ويخلخل الأمور ويحفز خطابًا ثالثًا. وهذا، في اعتقادي، هو أيضًا ما كان يفكر به المؤلفون الأميركيون الذين ألفوا في الدبلوماسية الثقافية عندما صاغوا أفكارهم من حيث «النشر» و «توسيع الآفاق» حتى الكشف عن «روح الأمة». إنهم لا يقولون كثيرًا عن التصدير القوي للقيم والثقافة، لكنهم يحافظون جدًّا على غرضهم عامة. ويَعدُّون ترجمة الأدب مفيدة ومرغوبة من أجل «تحقيق شكل من أشكال التبادل، الذي تظهر ثماره بنشر المعلومات والأفكار، وغرس وجهات النظر الدقيقة للثقافات الأجنبية، وزيادة التعاطف والتفاهم، والاعتراف بإنسانيتنا المشتركة– وستستمر الترجمة الأدبية في لعب هذا الدور الحيوي لمدة طويلة».
الترجمة الأدبية هل هي سياسة أم مصادفة؟
موَّل المجلسُ الكندي للفنون الدبلوماسيةَ الثقافيةَ الكندية عامة على نحو غير منتظم، وهي وكالة فدرالية، ومن جانب وزارة الشؤون الخارجية منذ بداية السبعينيات. أما الترويج لترجمة الأعمال الأدبية بوصفها الوسيلة الأساسية للدبلوماسية الثقافية في كندا فقد بدأ منذ منتصف التسعينيات. ومع ذلك، تُرجم الأدب الكندي إلى الألمانية منذ أكثر من مئة عام. لقد كنت مهتمًّا فقط بالثلاثين سنة الأخيرة- منذ الذكرى المئوية لكندا، وصُغتُ أربعة أسئلة: كيف تُختار النصوص للترجمة، وكيف تُمَوَّل؟ وهل هذا الاختيار تديره الحكومة الكندية (كإستراتيجية للعلامة التجارية، على سبيل المثال)؟ كيف يتخذ الناشرون الألمان قراراتهم بشأن ما ينشرونه ويبيعونه؟ كيف تتعامل الترجمات نفسها مع تفاصيل الثقافة الكندية، السياسة والتاريخ والبيئة الكندية– وغيرها من الخصائص التي تحدد هوية النص الكندي؟ وأخيرًا، كيف يتم تلقي هذه الترجمات وما رأي القراء بهذا الأدب المستورد من ثقافة مختلفة؟
تكشف الدراسة عن أن تقلبات الذوق العام، وعقود النشر، والتمويل الحكومي، والجوائز الأدبية، وأوضاع الثقافة المحلية (المستهدفة) معقدة جدًّا، حتى إن سيطرة حكومة البلد المصدر، في هذه الحالة كندا، على هذه العملية أمر مستبعد تمامًا. ومن غير المحتمل أيضًا فرض عنصر أو موضة أدبية معينة. ففي حالة دولتين من الفئة «ب» مثل كندا وألمانيا، حيث تكون فروق القوة بينهما في ما بعد الاستعمار والاستعمار الجديد أقل وضوحًا، يبرز دور الثقافة المستوردة في اتّخاذ القرارات التي تتعلق باختيار الأعمال المترجمة. يساعد المسؤولون الكنديون في مكاتب التمويل الفيدرالية والإقليمية وفي السفارات والقنصليات في الترويج وتمويل السفر وتحمل تكاليف الترجمة.
من ناحية أخرى، يبدو أن تاريخ الترجمة الألمانية للعمل الكندي يظهر أن جهدًا مشتركًا بين الناشرين الألمان والتمويل الكندي المتواضع قد بدأ في جلب بعض النتائج المعتدلة التي تتوقعها اللجنة الأميركية: نشر بعض الأفكار والمعلومات، وبعض الآراء الدقيقة عن كندا، وربما زيادة التعاطف والتفاهم. ومع ذلك، هناك ثلاثة مواقف معبرة تمامًا في الثلاثين عامًا الماضية من الاتصال الكندي الألماني التي تُظهر أيضًا مدى أهمية اهتمامات الثقافة المستوردة في تحديد أنواع المواد التي ستترجمها. تبدو القضايا المثارة في نظرية ما بعد الاستعمار أو نظرية الاستعمار الجديد غير ذات صلة هنا تقريبًا. أحد هذه المواقف هي «الحياة البرية» في كندا، وخصوصًا في كتب الأطفال المترجمة، التي يبدو أنها تركز على سوء الأحوال الجوية، والغابات الخلفية، والدببة، ولا تعرض سوى رجال حقيقيين يتحدون العناصر في البرية. لم تتغير صور كندا التي أصدرتها مثل هذه الكتب كثيرًا على مدار المئة عام الماضية، وتستمر إعادة طباعة الكتب، مع بقاء كندا معقل الرجل القوي. ويتغير التفسير فقط مع الزمن، ومع تقدّم البلاد.
وفي كتابة البالغين، كانت ممارسات الترجمة الأدبية وآثارها أقل تجانسًا بشكل واضح؛ إذ لم تبدأ أي ترجمة متماسكة ومجوّدة لأعمال الكبار حتى الثمانينيات، وسرعان ما ظهرت الكاتبات في المقدمة. وانبثق كثير من هذا النوع من الترجمة من نجاح شخص واحد- مارغريت آتوود- التي أصبحت موهبة شابة مشرقة في كندا بعد نحو عشر سنوات من ظهور كريستا وولف في ألمانيا الشرقية. ففي حالتها، لعبت سياسة الحكومة الكندية دورًا كبيرًا بدعمها بمنح كتابية، والسماح لها بالسفر على نطاق واسع للترويج لكتبها، وتمويل جميع الترجمات. انتقل نجاحها في ألمانيا إلى العديد من الكاتبات الكنديات الأخريات في ذلك الوقت: أليس مونرو، ومارغريت لورانس، وباربرا جودي، وبوني بيرنارد، ومافيس جالانت، وإليزابيث هاي، وأخريات ممن تُرجمت أعمالهن وحظيت بالتسويق في ألمانيا بعد آتوود.
مرة أخرى، كان هذا العمل جزئيًّا فقط بسبب السياسة الثقافية الكندية؛ وكان له علاقة بالنسوية العالمية والنسوية الألمانية، واحتياجات القراء التي أُنشِئت والتي يجب الآن تلبيتها عبر سلسلة «الكتابة النسائية» التي أنشأها كل ناشر ألماني تقريبًا في ذلك الوقت. وفي حقيقة الأمر، يميل النقاد باستمرار إلى الحكم بأن النساء الكنديات كن يكتبن نصوصًا تتناول حياة النساء واهتماماتهن بأسلوب يبتعد من إثارة الجدل، والأفضل من ذلك كله، أن كتاباتهنّ كانت تروي قصصًا جيدة. وبعبارة أخرى، برزت هذه الكتابات لتسدّ فجوة في الإنتاج المحلي لكتابات النساء -في وقت كانت فيه هذه المواد رائجة- من طريق استيراد الكتب الكندية. ولم يكن لسياسة الحكومة الكندية دور مباشر في هذا الأمر.
وأخيرًا، في التسعينيات أصبح هناك نوع مختلف من الكتابة الكندية المفيدة في ألمانيا. كانت هذه الكتابة متعددة الثقافات، وكان العمل الذي أنتجته يندرج تحت ما يسمى بـ«الأوغاد الدوليين» (Flotow 2003) الذين ولدوا في مكان آخر، وانتهى بهم المطاف في كندا، واستمروا عادة في الكتابة عن ذلك المكان الآخر. ومن أمثلة أولئك الكتّاب: مايكل أونداتجي (من سيلان)، ألبرتو مانغويل (من الأرجنتين)، روهينتون ميستري (من الهند). لقد أصبح مثل هؤلاء الكتاب مثيرين للاهتمام بالنسبة لألمانيا بوصفهم أمثلة لإمكانيات «متعددة الثقافات»، في وقت كانت فيه ألمانيا بعد التوحيد في عام 1991م تواجه صعوبات رهيبة في دمج الأجانب في المجتمع. كان يُنظر إلى القصص التي رواها هؤلاء الكتاب، الذين كانوا أجانب ثم أصبحوا كنديون، على أنها أمثلة على وضع مجتمع أكثر تعددًا للثقافات وأقل تعارضًا.
وفي الختام، يبدو أن موطن الكتابة الكندية في ألمانيا، ربما من دون وعي، هو سرد القصص: تروي الكاتبات قصصًا جيدة، وتحكي كتب الأطفال قصصًا عن الدببة والثلج، ويحكي الكُتاب متعددو الثقافات قصصًا عن بلدانهم الأصلية. هذه هي السرديات الأدبية التي استوردتها ألمانيا من كندا. تمكنت كندا من تصدير القصص، وتركت الكتابة التجريبية والشعر خارج الصورة. ويبدو أن السرديات الأدبية حاضرة في العالم الحالي للتبادل الدولي للثقافة، سواء أكان ذلك موجهًا بالسياسة أو بوساطة خيارات السوق، أو أصبح ممكنًا ببساطة عبر أدوات التمويل الحكومية العرضية. وهكذا نرى أن القصص تسافر، وأن القصص تُباع، وأنها المنتج الذي يرغب الناس في قراءته في كل مكان. وبينما ستتمتع هذه القصص دائمًا بميزة مختلفة في الترجمة، وستعتمد أهميتها إلى حد كبير على الثقافة المستوردة، فقد تكون تأثيرًا للسياسة الثقافية أو قد لا تكون كذلك. وقد تكشف هذه القصص عن «روح الأمة» أو قد تضيف ببساطة شيئًا ما إلى روح الثقافة المستوردة.
رابط المقالة الأصلية:
https://www.academia.edu/1128387/Revealing_the_soul_of_which_nation_Translated_literature_as_cultural_diplomacy
المنشورات ذات الصلة
الرواية السعودية في مهب التحولات الكبرى
منذ نحو قرن من الزمان، وبالتحديد في عام 1930م، صدرت الرواية السعودية الأولى «التوأمان» لعبدالقدوس الأنصاري. وفي عام...
المرجع في الكتابة الروائية السعودية المعاصرة روايات أحمد الدويحي أنموذجًا
التعبير الإنساني في عمومه يعتمد على فعل (الانتقاء)؛ فمن نسيج العالم المحيط بالذات المعبرة والمحتضن لها في الوقت نفسه...
بيروت في روايات ربيع جابر… الخروج من متاهات العنف إلى ذاكرة عادلة
في محبة بيروت كتب ربيع جابر خمس روايات بارزة. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ في بادئ الأمر ثلاثيته «بيروت مدينة العالم»...
0 تعليق