كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الشعر ضرورة!
قبل بضع سنوات وأنا مقرر لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة في مصر، جلست مع زملائي أعضاء اللجنة، نضع برنامج العمل في الدورة الثانية لملتقى الشعر العربي الذي ينظمه المجلس كل عامين بالتناوب مع ملتقى الرواية، فاقترحت تخصيص ندوة من ندوات الملتقى للحديث عن الشعر كحاجة من حاجات الإنسان الضرورية. وفي هذه الأيام الأخيرة اجتمعت لجنة الشعر التي أصبح الناقد المصري المعروف محمد عبدالمطلب مقررًا لها؛ لتضع برنامج الدورة القادمة للملتقى، فرأت أن يكون موضوعه الرئيس هو ضرورة الشعر الآن. وقد أحسنت اللجنة بهذا الاختيار الذي يدلّ على إدراك عميق لرسالة الشعر ولحاجتنا إليه، وللظروف الصعبة التي تقف حائلًا بين الشعر وجمهوره في هذه الأيام.
والحقيقة أني لست أول من قال: إن الشعر ضرورة، إنما سبقني إلى هذا شعراء ونقاد لم أحصِ عددهم، لكني أتوقع أن يكونوا كثيرين؛ لأن ضرورة الشعر تبدو لي مسألة بديهية، نصل إليها بأنفسنا دون أن نحتاج لمن يدلنا أو يقنعنا، وهذا ما جرّبته بنفسي، فأنا حين قلت: إن الشعر ضرورة، لم أقلها نقلًا عن أحد، إنما كنت أعبِّر عن حاجتي للشعر التي أعتقد أنها ليست حاجة خاصة أو فردية، إنما هي حاجة إنسانية عامة. والدليل على هذا ما قاله كثيرون عن ضرورة الشعر للحياة.
بول هازار المفكر الفرنسي وعضو الأكاديمية الفرنسية يتحدث في كتابه «أزمة الضمير الأوربي» عن الحرب التي أعلنت على الشعر وعلى كل ما له صلة بالعاطفة والخيال بين أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، وهي المرحلة الانتقالية الفاصلة بين عصر النهضة الذي أحيا التراث اليوناني اللاتيني وعصر الاستنارة الذي انحاز للعقل، وعدّ الشعر صورة من صور الكذب والتعمية والتضليل، تصرف الإنسان عن طلب الحقيقة، وتخدعه بتهاويل الخيال. وقد انساق الأوربيون في تلك المرحلة؛ لتبني هذا الموقف من الشعر، بل لقد انساق إليه الشعراء أنفسهم فنظموا قصائد يهجون فيها فنَّهم ويتبرّؤون منه كما فعل دولامانت، وهو شاعر فرنسي في قصيدة يقول فيها:
يا قافيةً! أيتها القيود الغريبة الظالمة. أتكون أفكاري دائمًا عبيدًا لك؟ حتام تتحكمين فيها مغتصبة حقوق العقل؟ فور ما تأمرين بالتزام العدد والوزن يجب التضحية بالصحة والدقة والوضوح.
مطلب أبدي
لكن بول هازار يعدّ هذا الموقف من الشعر تعبيرًا عن الأزمة التي مرّ بها الضمير الأوربي في تلك المرحلة وتجاوزها؛ لأن الشعر مطلب أبدي كما يقول في الصفحات التي خصصها له في كتابه وسماها «زمن بلا شعر». وهو عنوان يحمل معنى المفارقة؛ لأن الزمن لا يكون زمنًا إنسانيًّا بغير شعر. وقد رأينا كيف ازدهر الشعر في القرنين اللاحقين -التاسع عشر والعشرين- واستعاد مكانته، وتعددت مدارسه واتجاهاته، وأصبح الموضوع المفضل للنقاد والباحثين، يتحدثون عن أشكاله ومضامينه، وعن ماضيه وحاضره، وعما يؤدّيه في الحياة ويعبّر عنه.
الشاعر الفرنسي جان كوكتو يعبر عن حيرته بين شعوره العميق وإيمانه الكامل بأن الشعر ضرورة، وما يراه في هذه المدينة الحديثة من جفاف ووحشة وانصراف عن الشعر وعن الفن بشكل عام. يقول «الشعر ضرورة. وآه لو أعرف لماذا؟»
وسوف أحاول الإجابة عن سؤال كوكتو مبتدئًا من الشطر الأول في عبارته: الشعر ضرورة. والدليل على ذلك وجوده واستمراره في كل اللغات وكل الحضارات وكل العصور. بل الشعر هو الأصل. هو أصل اللغة، ومن ثَمَّ أصل الحضارة؛ لأن اللغة حين بدأت لم تكن نحوًا وصرفًا، ولم تكن فنونًا وعلومًا مختلفة تتميز فيها لغة التعبير من لغة الاتصال، ولغة العلم من لغة الأدب، إنما كانت لغة واحدة تعبر عن كل ما يحسّه الإنسان ويشعر به ويخطر له في اليقظة والحلم وفي الواقع والخيال. وهذا هو الشعر الذي نستطيع أن نسميه لغة كلية؛ لأنه تعبير عن وعي كلي.
وفي هذا يقول الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر: «فالشعر لا يتلقى اللغة قط كأنها معطاة له من قبلُ، بل الشعر هو الذي يبدأ بجعل اللغة ممكنة. الشعر هو اللغة البدائية الأولى للشعوب والأقوام. إذن يجب خلافًا لما قد يتوهم أن نفهم ماهية اللغة من خلال ماهية الشعر». فإذا كان الشعر هو أصل اللغة كما رأينا فهو أصل الحضارة؛ لأن الحضارة بدأت من اللغة التي مكّنت الناس من التواصل والاجتماع ومن التفكير والتعبير. وربما كانت الحضارة العربية خير شاهد على الدور الذي أدَّته اللغة وأدَّاه الشعر في قيامها.
فالشعر هو ديوان العرب. والديوان هنا هو الثقافة والتراث والتاريخ. وبناءً على إدراكنا لهذه الحقائق نعرف أن الشعر ضرورة، ونفهم حاجتنا له؛ لأنه وسيلتنا لأن نعرف أنفسنا ونمثل حاجاتنا ونعبّر عنها بالاسم والصورة والصوت والحركة. فالشعر وعي كلي يسمِّي الأشياء ويصوِّرها ويمثِّلها ويغنِّيها. ومن هنا نستطيع أن نتصدى لتلك التيارات التي تظهر بين حين وحين؛ لتعلن الحرب على الشعر وتعدّه نقيضًا للعقل وخصمًا له. لماذا؟ لأن هذه التيارات تجعل العقل مجرد آلة حاسبة، وتحصر نشاطه في الإحصاء والتحليل والاستنتاج. وكذلك تفعل مع الشعر فتجعله مجرد تخييل وتهويم وانفعال. وهذا تضييق وتعسف لا يتفق مع ما نحسه ونعيشه ونعرفه من تواصل الحواس والطاقات، وتداعي الأفكار والانفعالات والخواطر والذكريات.
نحن ننفعل بعقولنا؛ لأننا نكتشف بها المجهول ونتخيله ونتوقعه ونحلم به. ونحن في المقابل نفكر بأفئدتنا، ونحس بها، ونزن الأشياء، ونمتحنها. ولهذا رأينا القلب في تراثنا مرادفًا للعقل. وباستطاعتنا أن نفهم من هذا أن العقل ليس واحدًا في كل الثقافات، وأن وظيفته تختلف قليلًا أو كثيرًا من ثقافة لأخرى. ولهذا يتحدث الباحثون عن العقل الشرقي والعقل الغربي من دون أن ينكروا بالطبع ما هو مشترك بينهما. ونحن لا نعرف من ناحية أخرى أن الشعر ليس واحدًا في كل اللغات، وليس واحدًا حتى في اللغة الواحدة، فالشعر الغنائي شيء، والشعر الملحمي أو المسرحي شيء آخر. والرومانتيكي غير الكلاسيكي، والجديد غير القديم.
هل نسلم بأن الشعر مات؟
ولأن الشعر للتيارات المعادية له مجرد انفعال وتخييل، فهو صور وإيحاءات تثير الانفعال من دون أن تفصح عن معنى محدد. ولهذا لم يعُدْ له مكان في هذا العصر الذي ازدهر فيه العلم، وأصبح كل شيء موضوعًا للبحث والمناقشة والمنطق، ونحن نرى أن الشعر لم يعُدْ يحتلّ في هذه الأيام المكان الذي كان يحتله من قبلُ. فهل نسلِّم بأن الشعر مات، وبأنه لم يعد ضرورة، ولم يعد مَطْلبًا؟ أم أن تراجع الشعر له أسباب ليس من بينها استغناء الناس عنه، وأنه لا يزال حيًّا قادرًا على مواصلة حياته، ولا يزال ضرورة ومَطْلبًا، وأن علينا أن نبحث عن العقبات التي تمنعه من الوصول للناس، وأن نذلِّل هذه العقبات؛ ليزدهر الشعر من جديد في الحاضر كما ازدهر في الماضي؟
وأنا أرى من خلال اتصالي بالحركة الشعرية المصرية، ومتابعتي للنشاط الشعري في عدد من البلاد أن الشعر لم يفقد خصوبته وقدرته على إنجاب أجيال جديدة من الشعراء الموهوبين. والعقبة التي تواجهها هذه الأجيال تتمثل في انعدام الوسائل التي تمكنها من الاتصال المنتظم بالجمهور، وتحرمها من هذا الحوار الخصب، وهذا التجاوب الذي لا بد أن يتحقق بين الشاعر والجمهور؛ كي يستعيد الشعر طاقته ويملأ مكانه.
ونحن حين نتحدث عن انعدام الوسائل نشير بالطبع إلى ما ترتب على هذه الثورة الإلكترونية التي خلقت أجهزة حلّت محلّ الكتاب، وكان لها أثر سلبي على الكتابة والقراءة، وعلى اللغة التي خسرت كثيرًا بموت الكتاب، ولم تعد لها تلك السلطة المعنوية التي كانت لها من قبل. ونحن نرى أن النقاد الجدد يتحدثون عن موت الأدب وموت المؤلف!
كيف نواجه هذه التطورات التي تعطل حركة الشعر، وتحول بينه وبين الناس؟
الشعر نفسه هو الذي سيجيب عن هذا السؤال؛ لأن الشعر ضرورة، ولأنه كما قال بول هازار: مطلب أبدي، ولأنه بعد كل أزمة يتعرض لها يعود حيًّا من جديد.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق