كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أسباب انحسار الشعر في مصر
حين تدعى إلى أمسية شعرية في القاهرة فإنك تتخيل أن كل الذين يجاهرون بحبهم للشعر سيكونون في انتظارك، لكنك حين تذهب لا تجد جمهورًا غير المشاركين في الأمسية، وبعض هؤلاء يفضل أن يدخن سجائره خارج المكان إلى أن يأتي دوره. من ناحية أخرى، حين تكتمل لديك قصائد ديوان فإنك تبحث عن ناشر يقبل نشره، وإن قبله فلابد أن تتحمل كلفة الطباعة، وحين يطبعه تبدأ مهمتك في الترويج له وتوزيعه على الأصدقاء، وتصبح حفلات توقيع الشعر إن وجدت نوعًا من تبادل المجاملات.
هكذا أصبح واقع الشعر، فلا جمهور ولا جوائز ولا اهتمام إعلامي، ولا شيء سوى صراعات الشعراء بعضهم مع بعض على أيهم الأشعر، أو أي الأنواع الشعرية أكثر حياة من غيرها. فالتقليديون لا يؤمنون بقصيدة النثر، ويكفرون من يكتبها فنيًّا، والنثريون يؤمنون بالشعر العمودي وقصيدة التفعيلة لكنهم يرون أن الريادة الآن للنثر، ومن يكتب سواه فقد أصابته الردة، هكذا يتصارع الشعراء في حارة لا يكاد يراها أحد، والأضواء مسلطة على الرواية والسينما وربما المسرح..
فما الذي حدث لديوان العرب وفنهم الأول؟
يقول أستاذ الأدب العربي في جامعة عين شمس الدكتور محمد عبدالمطلب: إن الشعر الآن أصبح له منافسون لم يشهدهم طوال تاريخه، وإن هؤلاء المنافسين أنتجتهم الحضارة الحديثة من خلال المسلسلات والبرامج التليفزيونية والعروض السينمائية، «منافسين استحوذوا على بعض من تقنيات الشعر الروحية والجمالية؛ لذا فقد انحسر الواقع العام عن تلقي الشعر، لكن ذلك لم يحدث في الواقع الأدبي، يدلنا على ذلك أن الشعراء يتزايدون، ولو قمنا بإحصاء عدد شعراء الحداثة في زمن السبعينيات وشعراء الحداثة الآن لوجدنا العدد أكبر بكثير».
وأوضح عبدالمطلب أن المشكلة في الفهم الخاطئ عن أن الشعر فن شعبي، «وهذا غير صحيح؛ فالشعر منذ ظهر وهو فن الخاصة، وللرسول- صلى الله عليه وسلم – حديث يقول فيه: «إنما الشعر كلام من كلام العرب جزل، تتكلم به في بواديها، وتُسَلّ به الضغائن من بينها»، أي أن الشعر جنس خاص من الكلام وليس كل كلام شعر، والأمر الثاني أنه ليس فنًّا شعبيًّا عامًّا، والأمر الثالث أن له جمالياته الخاصة وله وظائفه الاجتماعية، كما أنه ليس فناً شعبياً كما يتصور الكثيرون حين يقولون بانحسار دور الشعر، وربما كان في مراحل معينة من مراحله أقرب إلى الفن الشعبي؛ من بينها مرحلة جرير والفرزدق، ومرحلة شوقي وناجي، وربما آخر هذه المراحل هي مرحلة نزار قباني، لكن فيما عدا ذلك فالشعر في كل مراحله فن خاص، وهو الآن على ما هو عليه طوال مساره ومراحله التاريخية، فن خاص، لكنه على الرغم من ذلك يظل هو الفن الأكثر قدرة على اختراق جوهر الإنسان». ويلفت إلى أنه في الرواية يمكننا أن نجد تقابلات الحياة، ونجد صراعات الشخوص، وتفصيلات الوقائع، «لكن حين يخترق الكاتب جوهر الشخصية ومكنوناتها الداخلية يتحول إلى شاعر، نجد ذلك عند نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وكل كتاب السرد، ويبدو أن ذلك قديم قدم الشعر ذاته، فلطرفة بن العبد بيت يقول فيه:
«رأيت القوافي يتَّلجن موالجًا
يضيق عنها أن تولجها الإبر».
ويذهب عبدالمطلب إلى أن المشكلة الحقيقية تكمن في أن الشعر هو فن اللغة العربية الأول، ولا يمكن تذوق إبداعاته وجمالياته من دون الإلمام باللغة العربية، «نحن في زمن تضيع فيه اللغة ضياعًا شبه كامل في مختلف مستويات التعليم، وهذا سبب عدم رواج الشعر، فهناك مدارس وجامعات الآن لغتها الأولى هي اللغات الأجنبية، فكيف ستخرج طلابًا يمكنهم تذوق الشعر أو معرفة جمالياته، نحن مقبلون على مرحلة ينفصل فيها المواطن عن لغته، وهو ما يعني انفصاله عن ثقافته ودينه ووطنه أيضًا؛ فاللغة هي المواطنة».
عصر الشاشة
ويرى الشاعر محمد سليمان أننا نعيش في عصر الشاشة، «وعلينا أن نتذكر بيان الحركة المستقبلية الصادر عام 1916م، الذي حمل عنوان «السينما المستقبلية» وجاء في صدارته: «انتهى عصر الكتاب كمصدر وحيد للمعرفة، وبدأ عصر الشاشة»، وهو ما يعني إزاحة لبعض الفنون، وإنعاشًا لفنون، أخرى كالرواية التي يمكنها أن تتحول إلى فلم سينمائي». ويشير إلى أن السينما هي التي أدخلت نجيب محفوظ إلى النجوع والقرى، وأن كبار الكتاب في العالم العربي راجت أعمالهم؛ بسبب الأفلام والشاشة البيضاء، «ويمكن القول: إن التصوير وأدوات الميديا الجديدة أفادت فنونًا كالمسرح وغيره، لكن الشعر لم يستفد من هذا العصر؛ لأنه من الصعب تحويل قصيدة إلى عمل فني يعرض على المسرح».
ويؤكد سليمان أن الجوائز ليست العامل الحاسم في انحسار الأضواء عن الشعر والشعراء، «لكن الميديا وآلياتها هي التي سحبت السجادة من أسفل أقدام الشعر الذي ظل مهيمنًا طوال النصف الأول من القرن العشرين».
من جانب آخر يذهب أستاذ الأدب العربي في جامعة القاهرة الدكتور سامي سليمان إلى أنه من الصعوبة الحديث عن الشعر على إطلاقه في دوائر التلقي العربية. ويقول: إنه يمكن التمييز بين ثلاثة أنماط رئيسة وعامة، وهي: الشعر الحر وقصيدة النثر والشعر التقليدي المتطور كالشعر الكلاسيكي والشعر الرومانسي، ثم شعر العامية. ويضيف قائلًا: «في شكل عام نحن نحيا في العقود التالية لمرحلة الحرب العالمية الثانية في عصر السرد وعصر الصورة، وكلا التعبيرين دال على مرحلة حضارية تتقدم فيها أنواع أدبية وفنية كالسينما والمسلسل التليفزيوني والرواية والقصة القصيرة على حساب الشعر. ونلحظ أن نمط الشعر الحر وقصيدة النثر يتلقيان في دوائر محدودة. أما نمط الشعر التقليدي المتطور فيتحرك في دوائر تلقي أكثر اتساعًا، وهي دوائر تسودها أنواع من الجماليات ذات الصلة بالموروث من مسيرة الشعر العربي. ويبقى النمط الأخير ممثلًا في شعر العامية الذي اكتسب -في العقود الأخيرة- مساحات كبيرة من دوائر التلقي العام، على الرغم من أن الحركة النقدية المعاصرة له لم تمنحه ما يستحق من اهتمام».
ويوضح أن هذه الوضعية هي التي تفسر علاقة وسائل الإعلام بأنماط الشعر العربي؛ «فرغم محدودية المساحات المخصصة للشعر في تلك الوسائل فإن شعر العامية والشعر التقليدي المتطور لهما حضور أقوى في مساراتهما من الشعر الحر وقصيدة النثر. ولكن في العقد الأخير أخذت تتاح للشعر إمكانيات جديدة للتلقي عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. وليس ممكنًا التنبؤ بإمكانيات تغير هذه الوضعية في المستقبل القريب؛ لأن أشكال التطور في وسائل الاتصال تؤدي دائمًا إلى تقليص المساحات المتاحة للكلمة التي أخذت الصورة تحل محلها وتتحول إلى بديل عنها».
أزمة كبيرة تعرقل مسيرة الشعر
من جانب آخر يقول الشاعر والمترجم عاطف عبدالمجيد: لا نختلف كثيرًا حين نقول: إن الشعر يمر في اللحظة الراهنة بأزمة كبيرة تتشابك أسبابها معًا للوقوف في طريق الشعر وعرقلة مسيرته، ويتفق بعض الشعراء مع كثير من النقاد، مع عدد من أصحاب دور النشر، في هدم آخر لَبِنات جدار الشعر. ويوضح أن الشعراء باتجاههم إلى نوع من الكتابات التي غالبًا ما تُنفر المتلقي من الشعر، والنقاد بتلميعهم للنماذج الشعرية المتواضعة والرديئة أحيانًا، وأصحاب دور النشر بمساندتهم لكُتَّابِ النثر وتحمسهم للرواية ورفضهم –إلا نادرًا– طباعة دواوين الشعر لأنها –من وجهة نظرهم– لا تباع، كل ذلك يُفاقم من أزمة الشعر.
ويرى أن تأثير الشعر تناقص «بعد أن ظهر من يروجون لمقولة: إن الرواية هي ديوان العرب، وبعد أن تنافست دور النشر في نشر السرد، وظهرت جوائز جرى تخصيصها للرواية والقصة القصيرة. لقد شارك الجميع في الهجوم على الشعر: شعراء، ونقاد، وقراء، وناشرون، ومخصصو جوائز، وهذا ضيق الخناق على الشعر، وجعل الجماهير تبتعد منه ولا تتفاعل معه. الآن يمر الشعر بأزمة حقيقية، غير أن بعض الشعراء لا يزالون يكابرون وهم جالسون في أبراجهم العاجية التي لن يعود للشعر دوره وتأثيره إلا بعد أن يغادروها، ويمتزجوا بجماهير القراء، معبّرين عن أحاسيسهم ومشكلاتهم وقضاياهم».
لا أحد يرحب بشاعر ينتصر للعدالة
ويذهب مدرس الأدب العربي بجامعة أسيوط الدكتور أحمد الصغير إلى أن القصيدة بدأت في التراجع مع التقدم المعرفي، لأسباب متعددة، منها، أولًا: تهميش دور الشعر، فلم تعد المؤسسات السياسية والإعلامية ترحب بوجود الشعر؛ لأن الشعر ينتصر للعدالة والحقيقة والمساواة، رغبة من الشعر في وجود حياة إنسانية مناسبة يجد الإنسان فيها روحه المعذبة. ثانيًا: تشجيع الفنون الأخرى على حساب الشعر مثل فن (الرواية والقصة والمسرح)، وإن كانت الرواية هي التي سحبت البساط من تحت أقدام الشعر ليصبح الشعر كالفارس الوحيد الذي يقف في ميدان المعارك معزولًا ومهمشًا، حزينًا على نفسه لما ألم به من غياب. ثالثًا: سياسة الجوائز العربية التي أصبحت تفرد مساحات واسعة للرواية والقصة على حساب الشعر، فتحول كثير من الشعراء إلى روائيين أو كتاب سيناريو، رغبة في تحقيق مكاسب مادية سريعة أو شهرة واسعة. رابعًا: لم يعد الإعلام يحتفي بدور الشعر المجدد، بل يرتكن إلى استدعاء الشعراء التقليديين الذين ينفذون المطلوب منهم. فجاءت صورة الشاعر في السينما مشوهة ورديئة. وفي النهاية رغم تراجع الشعر المدوي فإنه ما زال يلملم جراحاته في وجدانات الإنسانية من خلال روحه التي تضيء من حين إلى آخر».
وقال الصغير: إنه لن تقوم للشعر قائمة، «إلا إذا تبنت الدولة المصرية أفكار الشعراء، وبدأت وزارة التربية والتعليم في تجديد مناهجها العقيمة التي تقف عند أحمد شوقي فقط، لتطرح نصوصًا جديدة للشاعر الحي الذي يعيش بيننا الآن، وأن يفرد الأساتذة في الجامعة مساحات لتدريس الشعر الجديد أو شعر الحداثة العربية، واستضافة الشعراء الأحياء؛ لأنهم هم وحدهم الأكثر قدرة على إحياء الشعر وممارسة دوره الحقيقي».
الشعر أضحى ضيقًا على التعبير والتواصل
يرى الشاعر علاء خالد (مؤسس مجلة أمكنة) أن تحول الشعراء إلى الرواية «يعود إلى أن مجال الشعر أصبح ضيقًا على التعبير والتواصل مع الناس؛ فالمجال الرمزي بين الشعراء والناس أصبح مقطوعًا، ومن ثم توصيل المعنى لا يتم. والرواية لها مجال رمزي واسع ومشترك مع الناس، لذا ينُتقَل إليها كوسيط له تقاليده، وسهولته فى التواصل والتوصيل».
ويضيف قائلًا: في لحظات الأزمة فى التوصيل كما نعيشها الآن داخل الشعر، وعدم وجود مشترك عام، يجب أن يتحرك طرفا الأزمة، الشاعر والناس، لشق طريق جديد داخل هذا النوع الأدبي وطريقة القراءة. أقصد المهم فى هذه اللحظات ألا ينصرف الشعراء عن الشعر، بل يحاولون أن يطوروه ويكسبوه رمزية أوسع، وهو ما حدث بالفعل في تغير شكل القصيدة واتجاهها نحو القص والسرد والسيناريو. ولكن على الرغم من هذا التحول يحدث الانتقال إلى الرواية؛ لأنه انتقال وتطوير شكلي للقصيدة، وربما كذلك أفقد الشعر شعريته. انتقال مشوه وشكلي، أو بمعنى ما انفتاح شكلي على الأنواع الأخرى. في الوقت نفسه أصبحت الرواية مخزنًا للحس الشعري، الذي امتصته من الشعر، ولهذا أصبح المجال الشعري نشطًا داخل الرواية وليس داخل الشعر».
وأضاف خالد أن الجمهور العريق اختفى منذ نزار قباني ومحمود درويش، الذين كانوا يمثلون «لحظة جماعية على كل المستويات، أو كانوا الضوء الأخير من لحظة جماعية سياسية، كانت لها رموزها المشتركة، وكان الشعر يمثل الحياة فيها حتى لو كان كاذبًا أو مبالغًا فيه، مثل أشعار نزار قباني مثلًا. الآن لحظة «الحقيقة» وكسر نموذجها الإيهامي، الذي له أسباب كثيرة، إذ لم ينتج بعد شعره أو أبطاله القوميين، أو جمهوره، بل أنتج جماعات صغيرة من الجمهور. مصطلح الجمهور تفتت من تلقاء نفسه مع تفتت النمودج الإيهامي».
وخلص إلى أن الجوائز «فكرة سياسية تريد أن تصل لمن له تمثيل اجتماعي واسع، وإلى من يحقق لها الاستمرار والانتشار؛ لذا فإنها تتجنب الشعر الذي يدور في مساحات ضيقة من المجتمع».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
موضوع جميل جدا يصف بكل واقعية حالة الشعر وما يمر به من تأثيرات سلبية .