كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
إيران واللادولة العربية
هذا الزمن العربي الذي وصلنا إليه رغم كل مآسيه وإحباطاته يتميز بالوضوح والتجلّي، فخلال السنوات الخمس الأخيرة سقطت مع الأنظمة شعاراتها، ومع النخب ريادتها، وصار المشهد الذي أمامنا أكثر انكشافًا؛ ذلك لأننا نرقبه اليوم صافيًا من دون رتوش.. ما عاد يشوّش المشهد شعار للبعث والقومية، ولا شعار للمقاومة، ولا شعار للأحزاب السياسية الإسلامية، ولا شعار لمكافحة الإرهاب، ولا شعار لحقوق الإنسان.
مشهد واحد مهم ومعبر، نلناه عربًا باستحقاق ضمن هذه الامتيازات المؤلمة التي حصلنا عليها؛ هو أننا صرنا نعرف ما الدولة العربية المناسبة، بل المثالية لجارتنا إيران، لقد ظلت الجارة غير الودودة تعمل في دولنا منذ ثورتها عام 1979م، وتفرغت لنا منذ توقفت حربها مع العراق عام 1988م، وكنا وقت عملها نكتفي بنداءات حسن الجوار والأمنيات الدبلوماسية الطيبة؛ حتى تكشّف لنا المشهد اليوم عن «اللادولة العربية» المرغوبة إيرانيًّا.
أولى مواصفات اللادولة العربية الإيرانية هي أن تكون بلا جيش وطني. فالعدو الأول لهذه اللادولة هو الجيش الوطني الموحد؛ لذا فاللادولة تستعيض عنه بميليشيات طائفية، يديرها «مستشارون» من الحرس الثوري الإيراني. لبنان تحول جيشه إلى متفرج على ميليشيات طائفية تحتل بيروت عام 2008 وهو يراقبها الآن تعبر الحدود في مهام لا نهائية؛ من أرياف دمشق إلى سواحل المندب. الجيش العراقي الذي حلّه بريمر وأعاد تركيبه المالكي بصفقات مليارية؛ صار أضعف من الميليشيات التي لا تحصى أسماؤها، وهو أيضًا يفسح لها الطريق؛ لتحقق مع الأهالي وتعتقل وتصفّي. الجيش اليمني حلّت محلّه «لجان ثورية» تقيم نقاط التفتيش، وتشرف على توزيع صفائح البنزين. أما في سوريا فما تبقى من الجيش النظامي، ورغم كل ما أثبته ضباطه من ولاء للنظام؛ جرى تعويضه «بالمتطوعين» من أصقاع الأرض «لحماية المراقد»، ومحاربة «التكفيريين»، فالجيش العربي مهما كان حليفًا؛ فسيظل خطرًا على اللادولة العربية الإيرانية، فقد ينبت له رأي مستقل، وقد يطرح على نفسه سؤالًا.
وثانية مواصفات اللادولة العربية الإيرانية هي زعامة محلية موالية، تأخذ شكلًا دينيًّا وسياسيًّا معًا.. وفي الطريق إلى صناعة هذه الزعامة يجري طحن كل مرجعية عربية مستقلة؛ حسن نصرالله هو المثال الأبرز لها في لبنان، وجرى استنساخه بشكل متواضع في اليمن.. أما في العراق، ولأنه هدف إيران الأول، فالزعامات الدينية والسياسية لا يجري ترشيدها في شخص واحد، بل توزع المهام؛ فبدلًا من الميليشيا الواحدة هناك مئة، وبدلًا من الزعيم هناك عشرات يتقاسمون الأدوار بما يبقي البلاد محتاجة أبدًا لرأفة المرشد الأعلى.
ثالثة مواصفات اللادولة العربية الإيرانية إيجاد شعار تعمل تحته هذه الميليشيات، ويبتز به الخصوم، على ألا يكون مذهبيًّا ضيّقًا، بل لائقًا بثقافة البلد، فقد جرى حلب ضرع المقاومة والصهيونية في لبنان حتى جفّ تمامًا، وفي اليمن نزلت المدفعية من جبال صعدة؛ لتحارب الفساد وتسقط «الجرعة» إلى أن وصلت القصر الرئاسي في صنعاء، فظهر شيء يسمى «الدواعش» الذين هم أعداء اليمن، واندرج تحت هذا التدعيش يساريون وليبراليون وناصريون، أما في العراق فكان اجتثاث البعث حتى صار نصف أبناء وبنات الأنبار مهجرين ومسجونين وملاحقين.. ثم جاءت داعش فابتلعت حربها كل شعار آخر.
رابعة هذه المواصفات للادولة العربية الإيرانية تتمثل في عقد الصفقات الداخلية والخارجية لإبقاء اللادولة لادولة؛ ففي لبنان كانت الصفقة مع التيار الوطني الحر ممثلًا في ميشيل عون؛ أحلام الزعامة مقابل صوتك وصمتك، وفي اليمن صفقة مع علي عبدالله صالح؛ الرئاسة مقابل البلاد، وفي العراق مع زعامات قبلية ومدنية مقابل مواقع برلمانية وبلدية، أما الصفقات الكبرى فهي مع الدول الغربية؛ محاربة القاعدة في اليمن، وحماية السفارات والدبلوماسيين في لبنان من التفجيرات الغامضة، ثم الامتناع عن مهاجمة الجنود الأميركيين في العراق..
والواقع أن الصفقة في العراق بين إيران والولايات المتحدة يجب أن تدوّن، وألّا ينساها التاريخ. لن يغيب عن الذاكرة أبدًا كيف أسكتت الإدارة الأميركية الجنرال بترايوس بعد أن اتهم السفير الإيراني السابق في العراق حسن كاظمي قمي بالتخريب وتمويل الميليشيات وتسليحها، وكيف صمتت الولايات المتحدة وتفرّجت على إبادة اللاجئين الإيرانيين في معسكر أشرف في ديالى حتى أغلقته الميليشيات تحت سمع وبصر الأمم المتحدة؛ كل هذا تم لأجل أن تغادر الإدارة الأميركية تركة بوش الثقيلة.
إذا غاب الجيش وازدهرت الميليشيا وزعاماتها وساد الهوس الديني والشعاراتي؛ جاءت اللادولة العربية الإيرانية بمقترحات الحوار وحكومات الشراكة والوحدة الوطنية التي ليس لها من اسم الوحدة والوطن نصيب؛ حكومة تعمل طبقتها السياسية تحت تهديد بالاغتيال، أو ترغيب بالمناصب والأموال.
هذا مشهد مختصر للادولة التي يمكن أن تقبل بها إيران، جارتنا التي يدعونا الرئيس الأميركي بارك أوباما في حواره مع مجلة (أتلانتك) للتعايش معها، وبناء «سلام بارد» في المنطقة، والواقع المرّ اليوم يؤكد أن التعايش المطلوب يشبه تعايش المريض مع ورمه السرطاني، وأن السلام البارد بالمواصفات الإيرانية هو سلام الخرائب والمقابر.
المنشورات ذات الصلة
تطور الخط العربي
كشف كثير من الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة، وكذلك عمليات التنقيب المستمرة في تراث الجزيرة العربية ومخزونها الثقافي،...
مستقبل الأمن الغذائي في الوطن العربي
يرتبط الأمن الغذائي ارتباطًا جذريًّا بتوفير الشروط الأمنية الأساسية التي تضمن سلامة التبادل التجاري، وتيسير عملية...
أسئلة الرواية التاريخية
الرجال مواقف وكلمات، والتاريخ يصنعه الرجال وتخلده المواقف والكلمات، وتتناقله الأجيال جيلًا بعد جيل حتى يصبح جزءًا...
0 تعليق