كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
خطيب بدلة.. ثراءُ الحيز والدلالة
خطيب بدلة كاتبٌ متعدد المواهب، بدأ حياته الأدبية قاصًّا ساخرًا، ثم انصرف إلى الدراما الإذاعية والتلفزيونية، وأنتج فيهما أعمالًا معروفة وناجحة، وأصدر خلال حياته الأدبية، المستمرة منذ ثلاثة عقود ونيف، خمسة عشر كتابًا في فن القصة القصيرة، والمقال الصحفي، والدراما الإذاعية والتلفزيونية، وهو، إلى ذلك، كاتبٌ مرِحٌ، وخفيفُ الظل، وقريبٌ إلى قلب القارئ وروحه، ويمتلك القدرة على مراقبة الواقع، والنفاذ إلى جوهره وأعماقه، كما يستطيع إضحاكَ مُتلقيه من التصرفات الغريبة لشخصياته، والسخرية من سلوكها الشاذ والمفارق للمألوف، وهجاءِ ما تواضعَتْ عليه هذه الشخصيات من ولعٍ بالنفاق والوصولية والانتهازية، والركض وراء كل ما يساعد على التسلق إلى سطح الحياة الاجتماعية، واهتبال الفرص للفوز بالشهرة، والرغبة في اجتناء المتعة، وتكديس الثروات الطائلة، وتحقيق النفوذ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
يتميز عالمه بتعدد الأنماط والشخصيات والدلالات، وتكاد شخصياته تعبر عن الفسيفساء الاجتماعية لوطنه الصغير سوريا، بكل ما تحمله من تنوع وخصوبة وثراء على المستويين الاجتماعي والدلالي، مع إمكانية تعميم ما يكتبه ليطول بلدانًا عربية أخرى لها الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نفسها، مثل: العراق ومصر والجزائر وتونس والمغرب ولبنان وغيرها.
أبطال في زمن التفاهة
يرصد خطيب بدلة التشوهات التي أصِيبَتْ بها شخصياتُه، ويضع يدَيْ قارئِه على الزيف الذي غدا سمة جوهرية لها، والمآلِ الذي وصلتْ إليه من خلال تسفلها، وقَبُولِها بأنْ تكونَ منحطةً ومُتحللة، وسعيدةً بما وصلت إليه من تفسخ وتعفن، أو جنونٍ وتهميش، فضلًا عن أنه يتابع بدأب وتقصٍّ ما لحِق بها من ندوب اجتماعية، وانحرافات أخلاقية، ويُلاحِق انعكاسَ ذلك على تصرفاتها وتقويماتها الجمالية للواقع، وكيف أفضى بها ذلك إلى أن تقبل بالتلون والنفاق و«تمسيح الجوخ» على أنه شكل من أشكال تكيفها مع واقعها، وآلية لتماهيها معه، ولو أفضى بها ذلك إلى إحداث تبدلات جوهرية في سماتها، وهُويتها، وآلية استجابتها لواقعها.
وقد عرَّى أبطالَه، وهجَا حبهم للتفاهة والنذالة والاسِتزْلام، وسلط الضوءَ على خوائهم الروحي والوجداني، وكشف ما أصابهم من انحطاط وتسفل، وسخِر من ميلهم إلى الخلاص الفردي، وعده شكلًا من أشكال الهروب من الواقع، وانتقد ميلَهم إلى العيشة الراضية القانعة بالحصول على لقمة العيش، وسلط الضوءَ على نمط حياة مقيتٍ لديه، وعده خطرًا اجتماعيًّا وقانونًا أخلاقيًّا مُهيمِنًا ينبغي الحذرُ منه ومواجهتُه بلا هوادة كما في قصته «وقت لطلاق الزوجة» التي يقبل فيها المتشرد (زياد) بأن يكون زوجًا شكليًّا لامرأة عاهر لقاء حصوله على مسكن دافئ، ولقمة طيبة («وقت لطلاق الزوجة»، دمشق، 1998م، ص163)، وكما في قصتيه «برتقان» و«زهرة التفتا» تلجأ فيهما الشخصية المحورية إلى السرقة لمواجهة واقعها الصعب («عودة قاسم ناصيف الحق»، وزارة الثقافة بدمشق، 1989م، ص91)، مسوغة ذلك بأن ذلك أمسى الوسيلة الممكنةَ الوحيدة للعيش في واقع مأزوم ابتلع مُهمشيه، ورمى بهم إلى هوة القاع الاجتماعي بعد أن كانوا يحظون بحياة كريمة وشريفة.
لا شك في أن التفاهة التي يدِينُها خطيب في بعض قصصه، تتعلق بفقر الحياة الوجدانية والروحية التي تعيشها شخصياتُه، وهي التفاهة الناجمة عن هيمنة حياة استهلاكية أرختْ بثقلها على مجتمعه المُتخيل، ولذلك وجدتْ شخصياتُهُ ذواتَها في الإقبال على الحياة التافهة أو الرتيبة، والانغماس في شؤونِ الحياة اليومية، والاستجابةِ لها بوصف ذلك شكلًا من أشكال تحقيق حاجاتها الحيوية، وبناء ذواتها، وقبول استمراء العيش في حياة خالية من المثل العليا، أو مفتقرة إليها؛ ففي قصته «الكرسي البرام» تجد الشخصيةُ المحوريةُ ذاتَها، وتحقق كينونَتها من خلال الحصول على كرسي برام، مما يدلل على ما تعانيه من خواء روحي وفقر وجداني في سياق يحثها على الاستجابة لذلك. (وقت لطلاق الزوجة، ص 113).
سردية المهمشين
الشخصية المحورية عند خطيب لا تجترح أفعالًا عجيبة، أو خارقةً للمألوف في حياتها اليومية، بل تستنيم إلى حياة رتيبة ككل الناس من حولها، وقد تقبل البقاء في حياة أدنى من ذلك بكثير، وتتأتى موهبته من قدرته على جعل حياتها صالحةً لأن تُنمذِج آلية حياة الإنسان المُهمش والمُقصَى إلى هوة القاع وظلمته الأبدية، وهذه الشخصية تُكرر، في الأغلب الأعم، ما يجترِحُه الإنسانُ البسيطُ من أعمال مألوفة، ولا تنهض بأفعالٍ مغايرةٍ لما يقوم به من نمطِ حياةٍ مُسئِمٍ، وباعِثٍ على القرف والضجر، ومع ذلك فقد ارتقى خطيب بهذا النمط من العيش الذي اعتادتْهُ شخصياته، وبـ(نثر الحياة اليومية) الذي يُغلفه، ويتلفع به، ويُلمعه… إلى مستوى فني جديرٍ بأن يُقرَأ، ويُنصَت إليه بمتعة ورهافة.
وفي ظني أن التفاهة التي يدِينُها في بعض قصصه تتعلق بفقر الحياة الوجدانية والروحية الذي تعيشه شخصياتُه، وهي التفاهة الناجمة عن هيمنة حياة استهلاكية على المجتمع المُتخيل الذي تُحِيل إليه هذه القصص، ولذلك وجدتْ هذه الشخصياتُ ذواتَها في الإقبال على الحياة التافهة أو الرتيبة، والانغماسِ في الحياة اليومية الباعثة على الملل، وقبلتْ بأنْ تعيش حياةً خاليةً من المُثل العليا، أو مفتقرةً إليها إلى حد كبير، فهو يدِين في قصته «الكاتب والشرطي» تعهيرَ الثقافة والكتابة، وعدمَ احترامِ العلم ورجاله، ويقدم متنًا حكائيًّا ينهض على المفارقة، ويرثي تسفل الثقافة، وما آل إليه حالُها في بنية اجتماعية تنهض على تعميم التفاهة والجهل، وإشاعة الفكر الخرافي الذي يُعزز الإيمان بالغيبيات، ويحتقر التفكير العلمي ورجاله. (نفسه، ص 91).
الشخصية المعطوبة
تُعاني شخصياتُ خطيب بدلة عطبًا يمنعها من العيش كما تتمنى وتحلم، وهذا العطبُ قد يكون بيولوجيًّا أو نفسيًّا كامنًا داخل الشخصية نفسها، وقد يرجع إلى الظروف الموضوعية التي تواجهها، أو إلى السياق الذي يحتضنها، وفي الحالتين: تبقى عاجزةً عن تحقيق أحلامها، ويبقى هناك بَونٌ شاسعٌ بين ما تحلم به وتسعى إليه، وبين ما تستطيع تحقيقه على أرض الواقع من إنجازاتٍ أو أحلامٍ تعدها مثلًا أعلى لها، وسبيلًا لتحقيق ذاتها على الوجه الأمثل؛ لذلك نجد هناك مفارقة ومسافة بين واقعها المعِيش وما تملكه من إمكانيات، وبين ما تستطيع إنجازه وتحقيقه على أرض الواقع من أفعال جديرة بأن ترتقي بها إلى مستوى ما هو إنساني وسامٍ؛ ولذلك تستثمر تقنية الحلم كوسيلة ممكنة للخلاص مما تواجهه في الواقع، ثم تكتشف استحالة ذلك فتقرر مواجهة مشكلته في الواقع لا في الحلم.
والشخصية عنده تسعى إلى التحرر من النقائص التي تحول بينها وبين الحياة، كما تسعى إلى التحرر من الظروف الموضوعية التي تمنعها من تحقيق ذاتها، ولذلك تندغم في حياتها بشكل كامل، وتتماهى مع ظروفها وفق الآلية التي تُملى عليها، لا التي تطمح إليها، وتحاول أن تجد سبيلًا مغايرًا لما هو سائد ومألوف بغية تحقيق النجاح وتجاوز المُنغصات، واكتشاف الوسائل والأساليب التي تسمح لها بالاستمرار في العيش، والتسامي فوق الآلام، وتحمل الظروف الصعبة التي تواجهها.
التهكم في مواجهة الابتذال
يرصد خطيب بدأبٍ ووعيٍ التشوهَ الأخلاقي الذي أصاب شخصياتِه، ويتقصى النتائجَ التي أفضى إليها في حياتهم، ويضع يديه على الظروف الموضوعية التي شكلت هذا التشوهَ، وجعلته سمةً قارة لهم، ومُسوغًا لعثورهم على ذواتهم في بحر من التفاهة والتلذذ بصغائر الأمور، ففي قصته «عودة قاسم ناصيف الحق» يتابع صعود شخصيته من القاع، وكيف استطاعت تبوؤ مكانةٍ مرموقةٍ في مجتمعها بعد أن كانت موضع سخرية واستهجان فيه، وكيف ارتقتْ إلى شخصية ذات مرتبة دينية واجتماعية سامقة بعد أن كانت تحوز لقبًا يدل على وضاعة مرتبتها الاجتماعية واستصغار الآخرين لشأنها، وقد عبر العتال (مسطرين) في القصة عن ذلك متعجبًا: «شوفوا (مطيط) الصرماي، صار له بيت في ضبيط، وصار الحاج قاسم ناصيف الحق، ومتعهدًا يلعب بالمصاري لعبًا. تفوه عليك يا زمان».
يستقي خطيب شخصياته ممن عاشوا في القاع، ويلاحق حياتهم اليومية، ويرصد صراعهم في سبيل حياة كريمة، مُتِيحًا لنا الفرصةَ لنستمع إليهم، وهم يتكلمون بلغتهم الشعبية الحارة الطازجة، راصدًا من خلال ذلك أنماط سلوكهم، وآلية مواجهتهم للحياة، والسبل التي انتهجوها في سبيل ذلك، كما أنه يُحسِن تسليط الضوء على الحياة المُبتَذلة لهذه الشخصيات، وعلى ما تعانيه من فقر روحي ومعرفي، وخواء وجداني وعاطفي، ويدفع بالقارئ إلى الضحك منها، والتهكم عليها، كما في قصته «الشيخ شادي» التي يُضطر فيها البطلُ إلى أن يكون قارئَ رملٍ ومنجمًا لكي يستطيع العيش في مجتمعٍ قاهرٍ لا يترك لشرفائه مجالًا لحياة كريمة تنهض على الصدق والعمل النزيه، ويجعلهم يسلكون سبلًا ملتوية لفعل ذلك. (وقت لطلاق الزوجة/ 207-212)
وهو يدين التصورات المُتحجرة لهذه الشخصيات، وكيف منعها ذلك من أن تتفاعل مع الحياة والناس بشكل تلقائي، وكيف أمسَتْ أسيرة قوالب فكرية وتنميطات أيديولوجية حالت بينها وبين التصرف بشكل صائب، وغدت بسبب ذلك أضحوكةً بين الناس، ومُضغةً في أفواههم، وشخصيات كاريكاتيرية جوالة، لا تُحسِن التواصُل مع الآخرين بشكل عفوي، أو تنظر إلى الحياة من منظور السلطة المهيمِنة فحسب.
وقد اعتاد كثيرٌ من أبطاله عيشَ حياتهم الرتيبة من دون أمل بإصلاحها، وهم يسعون لإحداث تغيير فيها أحيانًا لكن أحلامهم تتحطم على صخرة الواقع الصلبة، فإما أن يستسلموا لها مُكرَهين، أو يتابعوا المحاولة من دون أمل بإحداث ما ينشدونه من تغيير. وفي كثير من الأحيان يتخبط كثيرٌ منهم في محاولتهم للخلاص مما يعانونه، وحين يُخفِقون تجدهم قد عثروا على طريقة للتأقلم مع ظروفهم؛ إذ يحتضنون آلامهم، ويتحملون معاناتهم، ويقبلون بحياتهم الرتيبة بعد أن أخفقوا في تبديلها نحو الأحسن.
ثمة سخط على الواقع عند بعض هؤلاء الأبطال، وثمة احتجاج على ما يُبقيهم قانعين بظروفهم، واجدين أنفسَهم في محدودية الحياة المتوافرة بين أيديهم، كما نلحظ أن ثمة ضجرًا ورغبة عارمة في التفلت من الظروف التي تحيط بهم، ولكن كل ذلك يبقى في طور الممكن، ولا يتحول إلى واقع مُتحقق بسبب افتقار السياق الذي يحتضنهم إلى الظروف التي تساعد على ذلك.
مفهوم البطل
من الملحوظ أن البطل يكتسب في تجربة خطيب القصصية مفهومًا مُحددًا؛ إذ لم يعد البطل عنده هو البرجوازي الصغير، أو المتوسط، أو ما اصطُلِح على تسميته في الأدبيات الكلاسيكية بـ«الفرد الصغير»، بل غدا البطلُ هو المجنون، أو العاطل عن العمل، أو البائع، أو المزارع الجائع، أو الأجير، أو السائق، أو الوصولي، أو الانتهازي، أو الفهلوي، وبكلمةٍ مختصَرة أصبح المُهمش هو المحور في هذه التجربة، وشرع هذا البطلُ ينغمس في الحياة، ويتكيف مع الظروف الموضوعية مضطرًّا، ولم يعد صاحبَ أحلام عظيمة أو مثلٍ عليا، وإنما أصبح مجردَ شخصٍ مُحبَط، قانعٍ بواقعه، مندمجٍ مع محيطه، يُحسِن التكيف مع الظروف، ويعيش حياته يومًا بيوم، يرضى بالقليل، ويقبل ما هو مُتوافِر، يسعى وراء اللقمة فلا يجدها، ويرمح خلف السعادة فتهرب منه، يلازمه الشقاء أنى تحرك، أو حل، ويغرق في وحل الرتابة، والتفاهة، والنفاق، والكذب، والدناءة، والفجور، ويجد متعةً في الانصياع لما هو مطلوب منه؛ فيُنفذه وهو صامتٌ من دون أن يُعارِضه، أو يُبدِي رأيًا مُغايِرًا للآخرين فيه. حتى عندما يهجو خطيب البطل لقبوله بالتكيف مع الحياة، ولغرقه في بحر التفاهة والكذب والخسة والدناءة فإنه يُحسِن تحويله إلى نموذج محبوب، وهنا مكمنُ الخطر في ذلك؛ لأن الكذب يصبح عندئذٍ صفة جمالية مُستحسنَة لا مُستَقبَحة لدى القارئ كما هو الحال في مجمل القصص التي سردها في مجموعته القصصية «سيرة الحب».
في شعرية السرد
ما يُميز (خطيب) من غيره من كتاب القصة الساخرة في سوريا، أنه لا يجثم على صدور شخصياته، أو يقولها ما لا ينبغي لها قوله، ولا يُحركها كيفما يشاء إلا نادرًا، بل يُطلِقها في الحيز القصصي الذي يُشكله، ويُتِيح لها أن تتفوه بما لديها من منطوق لغوي طازَج وحار، من دون أن يُهيمِن عليها، أو يكتُم أنفاسها، بل يُتِيح لها أن تتكلم على سجيتها، كما في هذا المقبوس الذي يتحدث فيه زوج مع زوجته: «معك حق يا تقبشي عظامي، ولكن ماذا أعمل؟» (وقت لطلاق الزوجة، ص162)؛ أو هذا المقبوس الذي يستخدم فيه السارد كناية تشيع في الأحياء الشعبية: «كل واحدة فمها مثل دلو الطاحون». (عودة قاسم/72)؛ وهو لذلك ينتقي العبارات التي ترد على ألسنة شخصياته من الوسط الذي يتفاعل معه، ويتحرك فيه، ثم يُرخِي لها العِنان كي تتكلم بما تشاء، وتختار العبارات التي تريدها من دون افتعال أو إكراه، كما في هذا المشهد الحواري الذي يدور بين مجموعة من العمال حول ابن حيهم (قاسم ناصيف الحق) الذي أثرى، وتحول إلى متعهد، وصار يعاملهم باحتقار:
– شوفوا الكلب!
– العمى، ولا كاس شاي؟
– لك تفوه عليه، وعلى مصاريه معه!
ويلحظ المتلقي، في هذه القصة، أن ثمة هجاءً لاذعًا في قصص خطيب، وسخرية مُرة من كل ما يحول بين الإنسان والحياة، وتهكمًا مُبطنًا من كل ما طفا على سطح الحياة الاجتماعية، وفشَا، وهيمَن، وتسيد.
قد يعتمد خطيب في بناء قصصه على تراكم اللوحات والمقاطع، كما في مجموعته «سيرة الحب»، أو في قصص أخرى، «خالي بوفريد» نموذجًا، فضلًا عن أنه يستخدم العتبة النصية وسيلة استباقية في تشييد الدلالة التي يريد بثها في نسيج سرده، ومن أمثلتها استعارتُه بعضَ الأقوال المأثورة لـ(الأحنف بن قيس) و(أكثم بن صيفي) و(عمر بن الخطاب) في بناء المستوى الدلالي لقصتيه «عودة قاسم ناصيف الحق» و«زهرة التفتا».
كما يستثمر الألقاب في تشكيل قصته «عودة قاسم ناصيف الحق»، ويعمد إلى اللعب بأسماء الشخصيات وتحويرها كوسيلة من وسائل بنائها، وتشكيل دلالتها؛ إذ يُمسِي اسمُ الحاج قاسم ناصيف الحق (مطيط) على سبيل السخرية والاستهجان، كما يغدو اسم تابعه (رمضان الهز)، أما العتال البسيط والفقير فيُطلق عليه في المتن الحكائي اسمُ (مسطرين) للإيحاء بدونيته وتسفله الاجتماعي. كما أن لقب (اللزقة)، الذي عُرِف به سمير عبدالحكيم في قصة «الأوراق مكشوفة»، ليس سوى دليل على أنه بقي عضوًا غير متناسِج في حزبه، وأنه لم يستطع أن يكون فاعلًا فيه، أو إيجابيًّا في أسرته شأنه في ذلك شأن (اللزقة) التي تبقى على سطح الجسد المريض أيامًا، ولكنها تبقى غريبة عنه، ولا تستطيع أن تكون جزءًا منه بسبب اختلاف نسيجها ومادتها عن نسيجه ومادته.
وفضلًا عن ذلك فـ(خطيب) يمتح لغته من معجم الناس اليومي، ويبتعد في ما يكتبه من الكليشيهات الممجوجة، والجمل الجاهزة المألوفة التي استُهلِكتْ من قبل غيره، وفقدت ألقَها وقدرتها على هز القارئ، وشحنه بالانفعالات الجمالية المطلوبة، كما في هذا المقبوس: «طز عليكِ يا حارة الشيخ منصور، طز على الفسفس والبق والنمل، طز على حوش الدواب المجاور لكل بيت سكن… طز على أفكارك التقدمية يا مصطفى العناد… أكنتَ تريدني أن أبقى هناك إلى الأبد؟ فشرْتَ». (عودة قاسم/58).
وهو يستقي تشبيهاته واستعاراته وكناياته ومجازاته من معجم الناس الحي، ومما يضج به الشارع والحياة من لغة طازجة حارة، ومن ذلك أيضًا هذا التشبيه الوارد على لسان الشخصية الرئيسة في قصة «الأنفاس الأخيرة»: «أخي سلطان حكى لي أن زوجته جعلته يُمضي ليلة مثل قفا الدست». (المصدر نفسه/69).
وينهج خطيب، في بناء سرده القصصي، نهجًا تقليديًّا في الأعم الأغلب، ولا يعمد إلى تكسير زمنه الحكائي، أو الخروج على عموده السردي إلا نادرًا، ولذلك لا يحدث أي انزياحٍ بين متن القصة ومبناها عنده إلا قليلًا، كما أنه يُحِيل أحيانًا في المبنى المتخيل إلى المرجع الخارجي مباشرة مما يخفف من قدرته على الأسطرة وإضفاء العجائبية على الحدث المسرود، كما يعمد، أحيانًا، إلى توشية السرد المباشر ببعض العبارات أو الكلمات العامية التي لا يجد في العربية الفصيحة ما يقابلها، أو ما يُفضي إلى التعبير عن دلالتها المقصودة بدقة، ومن ذلك هذه العبارة التي ترد على لسان إحدى شخصياته في قصته «شماتة»: «مستاهل! خرجه! الله لا يقيمه». (وقت لطلاق الزوجة/45).
ويستعين خطيب، في حواره وسرده، بكثير من الأمثال والحكم والأقوال المأثورة وأبيات الشعر والحوادث التاريخية من دون أن يُجري فيها أي تغيير، وتبقى هذه المقبوسات مجرد نصوص خارجية وعكازات دلالية يُستعان بها لتحديد المستوى الدلالي في المبنى الحكائي أو تأكيده؛ ولذلك تستعصي هذه المقبوسات على الذوبان في المبنى الحكائي للقصص، ولا تُصبِح جزءًا منه، وتبقى نافرةً في بنيته، وعصية على الامحاء في هيكليته، كما أنه يستثمر أحيانًا بعض النكات الشعبية المعروفة، أو يجعل قصصه تتعالق مع بعض حكايات جحا، إلا أن هذا التعالُق يبقى تعالُقًا شكليًّا، ولا يُفضِي إلى تغيير في بنية النكتة أو الحكاية، أو منحها دلالة جديدة تسوغ آلية التعالق التي نهضت عليها في المتن الحكائي، في حين أنه في قصة «صاحب الكشرة» أقام خطيب نوعًا من التناص مع «ألف ليلة وليلة»، واستلهمها في افتتاحيته السردية، وفي القالب السردي الذي اعتمده لصياغة قصته، واستطاع منحَ مبناه الحكائي دلالةً مغايرة للدلالة القارة في «ألف ليلة وليلة»؛ بحيث غدا تدجين المهر في قصته موازيًا لتدجين المواطن، وارتقى بالقصة إلى مصاف القصة الناجحة التي تنهض على المخاتلة والرمز.
مستويات اللغة
ومن الملحوظ أن خطيب ينهل من كنوز اللغة العامية، ويُطعم سرده بالاستعارات والكنايات والمجازات بأنواعها، ويُعِيد الاعتبار في أثناء ذلك لما أُهمِل منها أو هُجِرَ، ويُكسِبُه ألقًا ودلالة جديدة، ويحتفي بكثير مما يدور على ألسنة العامة من حِكم وأقوال مأثورة وعبارات مُغرِقة في العامية، ويجعلها تتماهى في نسيج سرده وتذوب فيه.
وعلى الرغم من أن التأمل في المشهد الحواري في قصصه يكشف عن أن اللغة التي تتكلم بها شخصياته مُوازِية للغة التي تتكلم بها في الواقع المرجعي الذي تُوهِم به القصصُ نفسُها، فإن كل ما في القصص مبني بناءً مُتعمدًا بقصد أن تكون القصصُ نفسُها مستقلة عن الواقع الذي تُوهِم به، وتُحِيل إليه، وبهدف أن تغدو قادرةً على أن تقف على قدميها من دون أن يحتاج القارئ للعودة إلى هذا الواقع نفسه بوصفه مُتخيلًا ومصنوعًا من الكلمات وليس حقيقيًّا. وهذا يعني أن الشخصيات المُصورة في قصصه تتكلم بهذه اللغة؛ لأن حياتها الفنية والسياق الذي تتحرك فيه والحافز الذي يُحركها هما اللذان أمليا عليها ذلك، وإنْ كان الكاتب قد جعلها تتكلم بلغة طازجة حارة تُنبِئ عن مستواها الاجتماعي، وتتناسب مع مستوى وعيها وفكرها، إلا أن ما تفوهتْ به ليس مُنبثِقًا من رغبة الكاتب في إنطاقها بطريقة مُعينة ووفق آلية محددة، بل إن وجودها الفني وتفاعُلها مع السياق الذي تحركت فيه هما اللذان أفضَيا بها إلى استخدام هذه اللغة دون غيرها، وهما اللذان أمليَا على الكاتب الآلية التي استعان بها لاستدعاء هذه المفردات دون غيرها أيضًا، ولا علاقة لرغبة الكاتب في الأمر؛ إذ إن عمله يتلخص في الاستجابة لما أملاه المنطق الفني وضرورة التشكيل الأدبي لا غير.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق