كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«ربيع العرب» والمعرفة الاجتماعية
في حوار نشرته مجلة الفيصل في عددها الماضي قال الباحث نبيل عبدالفتاح: «إن علماء الاجتماع العرب لم يقدموا معرفة حول المجتمع العربي لا قبل الربيع العربي ولا بعده». وأرى أن في هذا الرأي تعميمًا يحتاج إلى وقفة. لعل الزميل يرغب في رؤية نظرية اجتماعية متكاملة تفسر الوضع العربي فلا يجدها، إلا أن الاستدراك واجب. لقد أصبح لدينا فيض من الكتابات الاجتماعية، منذ نصف قرن أو يزيد، كما أن بعض الكتابات عملت كجرس إنذار قبل «الربيع العربي»، أي في بداية العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين.
على سبيل المثال، لا الحصر، هناك كتابان لهما قيمة تبشيرية، أو قل إنذارية، لما حدث بعد نشرهما. نُشر الكتابان في نهاية العقد الأول من هذا القرن، في وقت كانت المجتمعات العربية في سبات (المراوحة في المكان)؛ جراء المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة. الكتاب الأول بعنوان «مصر ليست أمي.. دي مرات أبويا» لأسامة غريب عبدالعاطي، وهو تجميع لعدد من المقالات نشرها الكاتب في الصحف. أما الكتاب الثاني فهو «وجع المصريين» لخليل فاضل.
اللافت أن المؤلفين لم يجدا ناشرًا ينشر كتابيهما، فنشرا على نفقتهما الشخصية. وقد طبع من الكتاب الأول خمس عشرة طبعة، دليل على إقدام القارئ على قراءة ذلك الشكل من النقد الساخن وتشريح المجتمع دون كثير من الكلام المنمق. فإن أضفنا إلى ما سبق عددًا من الكُتاب الذين سبقوا ولحقوا تلك الفترة فسوف نجد عددًا معقولًا من الكتابات الاجتماعية/ الاقتصادية التي تتناول الوضع العربي في دوله المختلفة من المغرب إلى المشرق. هناك كُتاب مغاربة وتونسيون وعراقيون ولبنانيون كتبوا، باجتهاد لافت، عن أحول المجتمع العربي بشكل شامل أو محلي (وطني).
ومنذ فجر ما يعرف بالنهضة العربية، منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، قدَّم كتاب عرب قراءة مختلفة للسائد من معرفة مجتمعاتهم، أمثال طه حسين وأحمد أمين وعلي الوردي. وجاء بعدهم كُتاب حاولوا تقديم تفسيرات متعددة أو (شبه نظريات) لتطور المجتمع، مثل: جلال أمين وفؤاد زكريا وغازي القصيبي، وهشام جعيط وحيدر إبراهيم وسيد عويس والمختار الهراس وخلدون النقيب. قدم هؤلاء أعمالًا وأفكارًا تدعو إلى التطور الاجتماعي والانفتاح الثقافي، ربما لم يأت الوقت لدراسة أعمال تلك النخب الحداثية ونقدها وتقديم تحليل لها للقراء. وهناك مؤسسات بحثية مدنية (غير رسمية)، قدمت جهدًا في محاولة فهم المجتمع العربي. منها، على سيبل المثال، مركز دراسات الوحدة العربية، بقيادة المرحوم خير الدين حسيب (عراقي)، وقد أنتج المركز كمًّا معقولًا من الدارسات الاجتماعية التي تستحق التنويه.
نظريات تفسير الواقع
ما نعانيه هو غياب مؤسسات (رسمية) تقرأ الوضع السائد وتقدم النصيحة للسياسيين كي يتخذوا سياسات مناسبة للمتغيرات الحادثة. لعل ما هو موجع ما سمع علنًا من القيادات التي مر عليها (الربيع) ودخلت مجتمعاتها في أنفاق ضيقة، كقول السيد زين الدين بن علي: «الآن فهمتكم»! وقول السيد معمر القذافي: «من أنتم؟» وقول السيد حسني مبارك: «خليهم يتسلوا»! رحمهم الله جميعًا، فقد كانوا في وادٍ مختلف عما يتكون من ضغوط في بلدانهم؛ لغياب القراءة الحقيقية للواقع الذي تعيش فيه شعوبهم، إما بسبب معلومات خاطئة مصدرها الأجهزة غير المدربة إلا على السمع والطاعة، أو بسبب إنكار أو رفض ما يدور على أرض الواقع.
النظريات الاجتماعية متغيرة مع تغير ظروف المجتمع الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية. فعدد من الاجتماعيين العرب، حتى اليوم، عندما يفكرون في نظرية اجتماعية شاملة لتفسير الواقع العربي يرجعون إلى نظرية ابن خلدون في تبدل الأمم وتغير الأنظمة. وهي نظرية معروفة في تبادل السلطة كما سماها ابن خلدون بين «أهل المدر وأهل الوبر». وقد تنطبق تلك النظرية على عصور سابقة، أما بعد القرن الثامن عشر، فإن نظرية ابن خلدون لم يعد لها مكان في تفسير الواقع، أي أن قيام الممالك لم يعد تبادلًا بين (المدر والوبر). لقد دخل عامل ثالث مهم جدًّا تحكم لسنوات طويلة في تلك المعادلة (أي تغير السلطة) وهو عامل الاستعمار الغربي، الذي عطل ميكانيزمات التفاعل الحر بين مكونات المجتمع، وفرض نوعًا من القسر على شكل (الدول) يناسبه، تحت شعارات (القيم الكبرى) التي فرضها في أشكال الحكم والإدارة، لمدة طويلة. فرض الاستعمار على بقاع كثيرة في العالم، ومنها مناطق واسعة من العالم العربي، نوعًا من الحكم (الجامد) الذي يحقق مصالح الاستعمار نفسه، من دون فرصة لعمل الميكانيزمات السابقة بحرية كما كانت تفعل.
من هنا فإن تغيير السلط السياسية في عالمنا أصبح له مفتاح آخر غير التفاعلات الداخلية وهو التدخل الخارجي؛ لذلك نجد كتابات كثيرة اليوم تتحدث عن تدخل الولايات المتحدة في أحداث الربيع العربي، وقد يكون ذلك الحديث مبالغًا فيه، إلا أن جانبًا منه لا يمكن استبعاده أو إنكاره.
لم تعد التفاعلات الداخلية الحرة بين مكونات المجتمع العربي المعني هي فقط المحركة للتغيرات الكبرى التي تحدث في مجتمعاتنا. هناك عوامل داخلية وخارجية، متفاعلة بين بعضها، تحرك بوصلة التطور في المجتمع. وأصبح للعالم اليوم هوامش مشتركة بسبب السرعة الهائلة في تطور وسائل المواصلات وتطور وسائل الاتصال؛ لذلك لم يعد العالم كما قيل «قرية صغيرة» فقط، بل أصبح بناية واحدة يتأثر سكانها بأي خلل يصيب أحد الطوابق فيها.
محاولات للفهم
لعل المثال الذي نعيشه اليوم هو أفضل شاهد، وأعني به الحرب الروسية/ الأوكرانية. مثل هذه الحرب في الزمن القديم ستبدو بعيدة ومعزولة عن العالم. أما اليوم فقد أثَّرت الحرب سلبيًّا في العالم أجمع، كنقص الطاقة ونقص الغذاء. فهي لا تؤثر في المشتركين فيها ومناصريهم فحسب، بل في مجتمعات بعيدة قد تصاب بالمجاعة والاضطرابات السياسية والاجتماعية الكبيرة، وتتغير أيضًا العلاقات الدولية: البطالة والتضخم وما تفرزه من حركات اجتماعية في الغرب نتيجة مباشرة لحرب تكاد تكون عالمية.
جزء من تعويق بناء نظرية اجتماعية عربية، أو مساهمة في جزء من بنائها، هو سقف الحريات المتدني الذي صاحب حكم العسكر والأحزاب الشمولية في عالمنا العربي. تدني هذا السقف يجعل من الإنتاج الفكري مقيدًا بقيود رسمية، إلى جانب القيود الاجتماعية القائمة، فيصبح المثقف منبوذًا وملاحقًا عند الجهر برأيه الذي تعدّه السلطة خارجًا أو يعدّه المجتمع خارجيًّا! وبالضرورة لا يمكن أن يتطور الفكر الإنساني في ظروف القهر والمطاردة. من جانب آخر فإن التعليم والإعلام لهام دور سلبي في إمكانية وجود اجتهادات نظرية اجتماعية، بسب سطوة القيم التقليدية في هذين المجالين، وهو ما يؤدي إلى تفريخ بشر متشابهين يحملون نظرة ضيقة للعالم ولمجتمعاتهم.
وعلينا أيضًا أن نقبل فكرة أن دراسة العلوم الاجتماعية هي (علوم صعبة)؛ لأن العلوم البحتة والتطبيقية تجري في معامل معزولة، أما الاجتماعية فإن المجتمع هو مجالها، وفيه من العقبات الثقافية ما يمنع انطلاق العاملين في هذا المجال إلى مناطق قد تكون محفوفة بالمحرمات أو محاصرة بالقوانيين!
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق