كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
محمود صباغ: «بركة يقابل بركة» عن تحقيق الذات والتحرر من الأوهام
على الرغم من أن فلم المخرج السينمائي السعودي محمود صباغ «بركة يقابل بركة» لم يعرض بعد في السعودية؛ لظروف هذا الفن في المملكة، إلا أن الفلم حصد شهرة كبيرة، وحظي باهتمام ومتابعة في الداخل ربما فاقا معظم الأفلام التي تحققت للسينما في السعودية. ويمكن أن نعزو هذا الاهتمام بالفلم ليس إلى فوزه بجائزة في مهرجان برلين السينمائي في دورته الأخيرة، إنما أيضًا بسبب التوقعات من مخرج مثل صباغ، دارس للسينما ومدرك متطلباتها وقريب من جمالياتها، وأيضًا واعٍ بقضايا المجتمع وإشكالياته، خصوصًا جيل الشباب الذي يتحدث عنه فلمه الذي أصبح ذائعًا، مع أنه الفلم الروائي الطويل الأول له. «الفيصل» التقت محمود صباغ على هامش الاحتفاء الكبير بفلمه، وحاورته حول السينما في السعودية، وتجربته ورأيه في مهرجان أفلام السعودية بالدمام، ومهرجان الفلم السعودي بجدة، إضافة إلى قضايا أخرى.
على الرغم من أن فلم «بركة يقابل بركة» أول فلم روائي لك، إلا أنه قوبل بصدى جيد، ولقي رواجًا على الأقل في مواقع التواصل وفي الصحافة؛ ماذا يعني لك هذا الاهتمام؟
– هذا انتصار؛ انتصار لقيم العمل الجاد والمتقن، وللإبداع الحر المستقل. طريقنا في الفن كان عصاميًّا. لم نعرف أحدًا في دوائر مؤسسات السينما والمهرجانات بالخارج قبل صناعة فلم «بركة يقابل بركة». لكن الفلم تم قبوله بنزاهة بمهرجان برلين من دون أي مؤثرات خارجية، ثم شق طريقه.
تؤكد في أحاديثك الصحافية أن الفلم يحكي قصة جيل الشباب، هذا الجيل الحالم لا أقول بمستقبل إنما بحاضر يرى فيه جميع متطلباته ميسرة، جيل يعاني التعبير عما يخالجه من مشاكل وعواطف في غياب الآخر، هذا الجيل الذي تترصد تحركاته العيون، وتحيط به مواضعات المجتمع، هل تعتقد أن فلمًا واحدًا كافٍ للتعبير عن هموم هذا الجيل وأحلامه، خصوصًا أن ممثليك الرئيسيين، وأنت أيضًا، ينتمون، في شكل أو آخر، إلى هذا الجيل؟
– «بركة يقابل بركة» هو فلم يحكي قصة جيل الشباب، أو جيل الألفية؛ أي من هم أقل من ٣٥ سنة، وهم أغلبية ديموغرافية، لكنها تنال تمثيلًا أقل اجتماعيًّا، وسياسيًّا، وعلى مستوى الفرص الاقتصادية. ليس نشرة تبجيلية للجيل، فالسينما لا تخلع أحكامًا قيمية جاهزة، لا تنزّه، ولا تدين، لكنها تنقل الواقع كما هو ، ربما فقط من الزاوية التي اختارها صانع الفلم.
وكما أن هناك شعورًا عامًّا ضاغطًا، ملامحه العجز والإحباط عند هذا الجيل، إلا أن هناك إيمانًا بحلو الحياة والانطلاق، وتحطيم القيود المفروضة.
فلم «بركة يقابل بركة» عن تحقيق الذات والتحرر من الأوهام، وهو تجربتي السينمائية الطويلة الأولى التي حتمًا ستعقبها تجارب أخرى.
أنت كاتب ومنتج ومخرج الفلم؛ هل لذلك علاقة بطبيعة صناعة السينما في السعودية، وظروف تكونها، أم أنك تميل أصلًا إلى سينما المؤلف التي عادة ما تتميز بأفلام روائية في غاية الأهمية من نواحٍ جمالية، كما لا تتطلب أحيانًا إنتاجًا ضخمًا؟
- نعم في الحالتين؛ في فضاء ما قبل الصناعة عليك أن تصنع فرصتك، وتبني قواعد العمل الإنتاجي والإبداعي كاملة، وأن تكون مخرج العمل، ومنتجه وكاتبه، ومموله، ومسوّقه، وحارس طريقه.
لكنني أيضًا على مستوى الإبداع أنتمي إلى مدارس «سينما المؤلف»، أو امتداداتها المعاصرة مثل: «سينما الإخراج الجديد»، ليس فقط للحريات الإبداعية والتعبيرية التي تمنحني إياها، بل أيضًا، لأنها هي ما يناسب منطقتنا وطبيعة السوق الناشئة التي ننتمي إليها.
الإنتاج الضخم، أو إنتاج الأستوديوهات، يقومان على أساس وجود صناعة وسوق، وهو ما نفتقر إليه. وأي اقتباس لها في بيئتنا سوف يصدر متهافتًا ومُقلدًا وبلا روح.
ترى ما أبرز تحدٍّ واجهته خلال إنجاز الفلم؟
- ربما صناعة الفلم في السعودية هو المرادف الحقيقي لكلمة تحدٍّ. هناك تحدي غياب الصناعة والبيئة الحاضنة؛ لا معاهد سينما، لا أنظمة أو نقابات تحمي العاملين، لا صناديق تمويل، لا صالات عرض أو نموذج لتسييل الاستثمار. ناهيك عن صعوبة استخراج التصاريح، وأحيانًا استحالتها.
لكن دعني أقل لك شيئًا، أنا لا أشكو، لقد كنا على علم بحجم التحديات، وخضناها بحس المغامرة والإيمان بخلق سينما وطنية جيدة، وبروحيات عالية وغير متذمرة.
أعطينا أنفسنا سنة كاملة، ونجحنا في التحدي قبل انقضاء الوقت. ربما الحديث عن النجاح المالي أمر باكر، لكننا في أعماق قلوبنا، كنا نضع مسألة الأرباح المالية في آخر الأولويات. أنا راضٍ عن التجربة، وسوف أعيدها، نعم أتمنى تحسين شروط صناعة الفلم؛ لحفز الأعمال، ورفع حق الإنتاج السنوي، لكن في كل الأحوال نحن مستمرون.
بساطة التناول في سينما السعوديين، تجعلها قريبة من السينما الإيرانية التي عرفت نجومًا كبارًا في الإخراج؛ مثل: عباس كيارستامي، وجعفر بناهي، ومجيد مجيدي، ومحسن مخملباف وابنته سميرة، هؤلاء هم الذين سرقوا الأضواء في مهرجانات عالمية. ترى كم يحتاج السعوديون ليصير لديهم سينما حقيقية؟ وليس مجرد تجارب سينمائية بإمكانيات بسيطة؟
- نحن بعيدون جدًّا عن السينما الإيرانية. السينما الإيرانية تفوقت؛ لأنها مزجت بين البساطة والتعقيد، النهايات غير المتوقعة وغير «الهوليوودية»، الحس الشاعري في مواقع التصوير وفي الرؤية السينمائية، التركيز على القضايا الإنسانية، ومسألة المشاعر البشرية، خصوصًا الأطفال وكبار السن، وأهل القرى والنواحي النائية.
ناهيك عن التراكم الموجود للسينما الإيرانية من قبل الثورة. لكن علينا أن نتذكر أن السينما الإيرانية تحظى بدعم مؤسسي مباشر. هناك مؤسسة فجر، وهناك مؤسسة الفارابي. وهناك نظام أو (سيستم) كامل لصناعة الفلم من مرحلة التأليف إلى التسويق والتوزيع الداخلي والدولي. علينا أن نتواضع كثيرًا، ونتعلم من السينما الإيرانية، لا يعيبنا هذا، فالسينما الإيرانية بدأت أساسًا من تقليدها للسينما المصرية.
هناك خشية عبّر عنها كثير من المتابعين لسينما السعوديين، ألا يشبه الاهتمام بالسينما والإقبال عليها من شريحة واسعة من الشباب، ما حدث للرواية؛ إذ أقبل على كتابتها كثيرون؛ الأمر الذي جعل هذه الروايات تفتقد إلى الجماليات، وتركز فقط على المكبوت، وكسر التابوهات؛ ما تعليقك؟
_ «فتمتع بالصبح ما دمت فيه / لا تخف أن يزول حتى يزولا» كما يقول إيليا أبو ماضي. يا أخي هات السينما أولًا، والإنتاج الهائل، ثم يمكن أن نتحدث عن تصنيف ونقد وخشية.
عمومًا لا خوف على السينما من الأدعياء.
المعايير العالمية الرصينة سوف تصنّف الجاد والمجتهد من المدّعي والاستعراضي.
ما رأيك في مهرجان أفلام السعودية الذي تنظمه جمعية الثقافة والفنون بالدمام، ومهرجان الفلم السعودي في جدة، ولماذا لم تشترك فيهما؟
- مهرجان الأفلام السعودية في الدمام، والجهد الذي يقدمه أحمد الملا عمل رائد ونوعي، وأراه يذهب بعيدًا؛ أولًا لأنه يركز على الفلم السعودي، ولا يتشعب فيما ليس هو قدير عليه. ثانيًا لأنه يتكئ على دعم مالي ولوجستي ومعنوي واضح من مؤسسة وطنية كبرى هي أرامكو. ثالثًا لأنه يعبر عن امتداد -ولو معنوي- لتجارب مؤسساتية رائدة في الخليج مثل: الرابطة التي تجمعه بالأب الروحي لسينما الخليج: مسعود أمر الله.
أما جدة فيبدو أنها ارتضت لنفسها أن تكون مقرًّا لسينما الاستهلاك والاستعراض، فالله يخارجنا من مقاولي المهرجانات الذين يبدو أنهم بجلبتهم الإعلامية سوف يطبعون شكل التظاهرات السينمائية القادمة بجدة بطابعهم التسويقي الفج.
لم أشترك في مهرجان الدمام؛ لأن أول عرض عالمي لفلم «بركة يقابل بركة» كان في فبراير بمهرجان برلين، أما مهرجان الدمام فيقام في يناير، بالتالي فأول فرصة لنا لدخول مهرجان الدمام هي الدورة القادمة، حتمًا سوف نقدم عليها.
ما مشاريعك المقبلة؟
– أكتب فلمي الروائي الثاني، ومن ثم سوف أبدأ كفاح تنفيذه، وهناك مسلسل تلفزيوني كتبته، وأنوي إخراجه، لكنه في ذمة شبكات التلفزة وقرارها.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق