كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«الشر والوجود» لفيصل دراج.. نص على نصوص نجيب محفوظ
على كثرة ما كتب عن أعمال نجيب محفوظ من كتابات نقدية متنوعة، نشرت في عقود ممتدة، لا تزال هذه الأعمال مطروحة للتأمل والدرس. أُنجز عن هذه الأعمال عددٌ هائلٌ من المقالات (منذ أربعينيات القرن الماضي حتى الآن)، وصدرت عنها عشرات من الكتب، منذ كتاب الأب جاك جومييه المبكر «ثلاثية نجيب محفوظ» الذي صدر بالفرنسية في نهايات الخمسينيات وتناول فيه رواية «الثلاثية»، بعد نشرها بسنوات قليلة، كما قدّمت هذه الأعمال موضوعات لعدد كبير جدًّا من الأطروحات الجامعية. ومع ذلك كله، لا تزال هذه الأعمال تمثّل غواية للنقاد والدارسين؛ وذلك بسبب تعدد إمكانيات قراءاتها من زوايا مختلفة، وصياغاتها الغنية متعددة الطبقات والأغوار التي تسمح بمقاربات متنوعة لها.
ويقدم كتاب الدكتور فيصل دراج «الشر والوجودـ فلسفة نجيب محفوظ الروائية»، الذي صدر مؤخرًا في القاهرة (عن الدار المصرية اللبنانية)، إضافة نوعية كبيرة القيمة لكل القراءات النقدية السابقة حول عالم محفوظ، على كثرتها. هو كتاب من «الكتب الخلاصات»، ليس فقط لأنه تتويج وبلورة لرحلة طويلة من انشغال الدكتور فيصل دراج بعالم محفوظ، كتب فيها الكثير عن أعماله، وإنما أيضًا لأن هذا الكتاب يتأمل، في بناء متكامل، تلك الأعمال من منظور يرنو إلى أعماقها الموصولة بأبعاد فلسفية انطلق منها محفوظ، وأسّس على التحاور معها رؤاه الخاصة. يطل فيصل دراج على نصوص محفوظ، في امتدادها عبر مسيرة طويلة، ويلتقط منها ملامح جوهرية، كما يحلل هذه النصوص في علاقتها بما تتصادى معه، على مستويات أدبية وفكرية متنوعة، من كتابات سبقتها، وأخرى زامَنتها، في الثقافة العربية والإنسانية.
في تقديمه للكتاب، تحت عنوان «المتعدد الذي لا يكفّ عن التجدد»، يشير الدكتور فيصل دراج إلى معالم بلورتها رحلة محفوظ فيما بين روايته الأولى «عبث الأقدار» وروايته الأخيرة «قشتمر» وبعدها نصوصه القصيرة «أصداء السيرة الذاتية». أنجز محفوظ في هذه الرحلة، بتعبير دراج، «علم جمال الحقيقة وملحمة الشغف الكتابي النبيل». وبعد التقديم يتناول أعمال محفوظ في أقسام عدة، منظّمة ومعنونة بعناوين رئيسة: «مدخل إلى قراءة نجيب محفوظ»، «الثلاثية: الزمن والشر وعتمة الوجود.. العالم الإنساني بين الزمن والموت»، «التداعي بين محفوظ وغيره»، «معنى الوجود بين روايتين»، «رواية الفرد المغترب»، «الشر والرواية والفلسفة»، «الشر والفلسفة».
التصورات الفلسفية، المشار إليها في العنوان الفرعي للكتاب، مبثوثة في الكتاب على امتداد صفحاته، مقرونة بطيف واسع من أفكار فلاسفة يشملهم تاريخ طويل: سقراط وأرسطو وأفلاطون وسبينوزا وكيركيغارد وهيغل وشليجل ونيتشه… إلخ. ولكن الكتاب لا يقف عند حدود تقصّي حضور أفكار هؤلاء في نصوص كاتب تصادتْ تصوراته وتحاورت مع هذه الأفكار، بل يقدم قراءة نقدية جميلة بامتياز، تقارب تلك النصوص مقاربة متعددة الأبعاد، وتستكشف فيها فلسفتها الخاصة. البعد الفلسفي يقدم لهذه القراءة عمقًا واضحًا من حيث الوقوف عند قضايا مراودة، لم تتوقف قط معالجاتها في تاريخ الأدب والفلسفة معًا: الوجود، الشر، السلطة، الزمن، الموت.. إلى آخره، لكن القراءة تتدفق أيضًا في وجهات حرّة لا تقل أهمية.
ضد المنهج التقليدي
تتأسس القراءة على إلمام واسع بالمناهج النقدية الحديثة، وتقف من بعضها موقف المساءلة، وفي هذه الوجهة يطيح الدكتور دراج بالتعليمات الصماء التي يمليها بعض المناهج. من ذلك، مثلًا، وصله بين نصوص محفوظ الأدبية من جهة، وما قاله من جهة أخرى في بعض أحاديثه، وبخاصة ما ورد في كتابين لجمال الغيطاني: «نجيب محفوظ يتذكر» و«المجالس المحفوظية»، وربما كان من الممكن أن يضاف إليهما كتاب رجاء النقاش المهم «نجيب محفوظ- صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته». وبذلك يجاوز الدكتور فيصل دراج ما يحيط، تقليديًّا، بالتعليمات الآمنة المبذولة حول ضرورة الفصل بين ما يكتبه الكاتب من نصوص أدبية وما يقوله خارجها، أو ما يحيط، مدرسيًّا، بضرورة الفصل بين «المقاصد الواعية» والمقاصد غير الواعية للكاتب.
أيضًا، في منحى التحرر المنهجي، يستند الكتاب إلى توثيق لمراجع ومصادر كثيرة، كتبت في أصولها بلغات عدة، وتُرجم بعضها إلى الفرنسية والإنجليزية والعربية، وقد قرأها دراج بهذه اللغات جميعًا، ووضع ثبتًا لها في نهاية كل قسم من أقسام الكتاب، وهو ما يخايل بنزعة «أكاديمية» ما. ولكن الكتاب، مع هذا، بعيد تمامًا من الكتابات الأكاديمية التقليدية المقيدة التي تتحرك غالبًا في مساحات محدودة.
تمثيلات محفوظ
تمثيلات أعمال محفوظ في الكتاب مختارة وموظّفة بعناية في مسارات محكمة يستدعيها تحليل القضايا المطروحة بهذه الأعمال. والتقسيم الأساسي والفرعي، في بناء الكتاب، ينطلقان من هذه القضايا أيضًا. في القسم الأول، حول عالم محفوظ، بعناوينه الفرعية حول «السلطة» و«المصادفة» و«المفارقة» و«القناع»، يتحقق الحضور الأكبر لأعمال مثل «عبث الأقدار» و«القاهرة الجديدة» و«يوم قتل الزعيم» و«حكايات حارتنا» و«حضرة المحترم» ومجموعة «الشيطان يعظ»، وهي أعمال كتبت في تواريخ مختلفة، واختيارها مرتبط بمدى حضور القضايا التي تعدّ محاور للاهتمام فيها.
والأمر نفسه قائم في أقسام الكتاب الأخرى: في القسم الثاني، حول الزمن والشرّ وعتمة الوجود، تشغل «الثلاثية» مركز التحليل. وفي القسم الثالث، حول التداعي بين محفوظ وغيره، يتوجه التحليل وجهة مقارنة، بين نصوص لمحفوظ وأخرى لديستويفسكي وتوماس مان وبلزاك، وفي القسم الرابع، حول معنى الوجود، يتركز التحليل على روايتي محفوظ «أولاد حارتنا» و«الحرافيش»، وفي القسم الخامس، حول الفرد المغترب، تمثيلات من روايات محفوظ التي كتبها في الستينيات، والتفّت حول شخصيات محورية تواجه ألوانًا من الاغتراب: «اللص والكلاب» و«الطريق» و«ثرثرة فوق النيل».. أما القسمان الأخيران، حول الشرّ والرواية والفلسفة، ثم الشر والوجود، فتغلب عليهما العناية بالأبعاد والتصورات الإجمالية أكثر من الاهتمام بتفاصيل النص الأدبي التي توقف عندها من قبل، في الأقسام السابقة.
عن قضايا الوجود
من بين القضايا التي يحللها الكتاب في أعمال محفوظ تلوح قضية «الشر والوجود» قضية مهيمنة، يتقصاها الكتاب في عدد من هذه الأعمال، ويستكشف أبعادها في مظان متعددة خارجها. في «الثلاثية»، مثلًا، يرى دراج أن محفوظ «قرأ في رواية الأجيال سطوة الزمن (…) وقرأ فيها تعددية إنسانية متنوعة الطبائع. ففي كل إنسان حكاية، تسرد مآله، ولكل حكاية إنسانها المعطوب». ويتوقف في الرواية نفسها عند ظواهر المرض والموت وعنف الزمن، ويخلص إلى أنه «إذا كان هناك شرّ إنساني، واضح المصدر والأداة، فهناك أيضًا شر غامض الأصول، يأتي بلا توقع، ويعبث كما يريد، ويخلف وراءه حطامًا لا سبيل إلى إصلاحه». وفي قراءة «اللص والكلاب» يتتبع دراج ما يسميه «الشر العاري»، «في وجهه السلطوي، وتغيّر حال الإنسان دون أن يرتكب إثمًا ولا معصية»، خالصًا إلى أن فن محفوظ الروائي يقوم، فيما يقوم، على «الكشف عن شر الوجود». وهكذا في قراءات أعمال عدة لمحفوظ يخلص دراج إلى أن محفوظ «أكّد الشر مركز كتابته الروائية»، وأنه قد «أنجز الشر كمقولة فنية».
هذا الاستخلاص مشيّد على تقصٍّ عميق، هو حوار بين رؤية دراج ورؤية محفوظ. وفي ثنايا هذا الحوار يذهب دراج إلى القول بما يراه نوعًا ملتبسًا من التشاؤم تنطوي عليه رؤية محفوظ، وهو قول قابل في قراءة أخرى للتساؤل. ترديدات هذا القول مبثوثة في غير موضع في الكتاب: «احتفظت بصيرته [محفوظ] ببعدين ثابتين: نظرًا متشائمًا إلى العالم والوجود، وكراهية للسلطة لم تغيّرها الأقدار»، «أعلن محفوظ بإلغاء الأصل القديم عن بصيرة عنيفة التشاؤم»، «وطّد محفوظ في ملحمة الحرافيش نظرًا ثابت التشاؤم»… إلخ. ودعمًا لهذا القول، وإزاحة لالتباسه، يسوق دراج على لسان محفوظ، من خارج نصوصه الأدبية، عبارة غير محددة السياق: «أنا أميل بطبعي إلى الكآبة»!
وجه التساؤل، حول هذا القول، مبعثه أن نصوص محفوظ نفسها تحتمل تأويلات يمكن أن تمضي بها في وجهة مغايرة، ومن أمثلة ذلك الصفحات الأخيرة المتفائلة في رواية «الحرافيش» التي تبتعث النهايات السعيدة وتومئ إلى مستقبل أكثر عدلًا وجمالًا. والاحتكام إلى عبارة قالها نجيب محفوظ خارج نصوصه مواجَه باحتكام إلى عبارات أخرى أكثر تردادًا قالها محفوظ غير مرة، بتنويعات شتى، تؤكد أنه «لا يملك ترف اليأس».
وفي عبارات محفوظ الواضحة، في خطاب تسلم جائزة نوبل، ما يغني عن كثير من الجدال حول تصوره للشر والتشاؤم وتصوره لنقيض كل منهما: «رغم كل ما يجرى حولنا [يقصد البشر جميعًا] فإننى ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية.. لا أقول مع الفيلسوف (كانت): إن الخير سينتصر فى العالم الآخر، فإنه يحرز نصرًا كل يوم، بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير، وأمامنا الدليل الذى لا يُجحد، فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها، عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية، أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكوّن الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان، غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت، وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره».
قضايا جمالية
بجانب القضايا الفلسفية والفكرية والاجتماعية والسياسية التي يحللها الكتاب بعمق، يتوقف أيضًا عند قضايا جمالية موصولة بمغامرة نجيب محفوظ الإبداعية التي ظلت محكومة بنزوع التجدد في مسيرته الطويلة المتنوعة. من هذه القضايا تلك الوقفة عند «الشكل الفني» لرواية «ملحمة الحرافيش» التي تعيد، ابتداء من عنوانها، طرح السجال حول العلاقة بين الرواية والملحمة، وهو السجال الذي أسهم فيه فلاسفة ونقاد كثيرون، وكان عنوانًا لكتابين شهيرين لجورج لوكاتش وكوزينوف. يشير دراج إلى تصور لوسيان غولدمان حول العلاقة بين الرواية والملحمة، وينتهي إلى خصوصية هذه العلاقة في رواية محفوظ: «قد يرى البعض في الشكل الفني لملحمة الحرافيش أثرًا لتصور ماضويّ، وهو كلام شحيح المعنى؛ ذلك أن محفوظ يشتق الشكل من وظيفته الاجتماعية»، ويخلص إلى أن «القراءة النافذة للنص تكشف عن تحول محفوظي أساسي: مضى زمن الملحمة، أعقبه زمن الرواية، ذلك الجنس الأدبي الحديث المرن متعدد الأشكال، الذي تستضيفه موائد متعددة ويحتفظ بخصوصيته».
هذا كتاب كبير القيمة، محتشدة كتابته بالمعرفة والبصيرة، وبذائقة مدرّبة، وبقدرة على اقتناص الدلالة الجوهرية في نصوص كاتب متعددة الدلالات. وميزات هذا الكتاب كثيرة، صعبة الإحصاء. فمع عمق تحليل أعمال نجيب محفوظ واستكشاف ما يصل بينها وبين الأفكار الفلسفية، ورؤية هذه الأعمال في ترابطها، واستكشاف الوشائج الممتدة بينها وبين أعمال أدبية أخرى، وربطها بالسياقات التي أحاطت بها.. مع هذا كله، وغيره كثير، هناك هذه الكتابة الجميلة الآسرة، التي تشيد نصًّا جميلًا على نصوص محفوظ مشهودة الجمال، والتي تنفي المسافة التقليدية المكرّسة التي كثيرًا ما سعت إلى التمييز بين النص الأدبي والنص النقدي.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق