كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الزمن النفسي في نصوص «زيارة» لعبدالله الصيخان
الزمنُ النفسي أثرٌ يكابده الشاعر ويكتوي بناره، يتوغل أكثر فأكثر داخل مشاعره وأحاسيسه، ولا يذرُه إلا بعد إنهاكه، وسلب النوم من عينيه. حينها فقط يضعُ الشاعر قلمه، وقلبه، ويستريحُ من عناء البوح؛ فقد أنجز مهمته، وكفى. هذا ما تقدِّمه نصوص «زيارة» لعبدالله الصيخان، المؤلفة من (12) مقطوعة، ذات أفقٍ واحد، تتجه صوب المشاعر والأحاسيس، وتربط بينها وبين الأحداث الواقعية، على المستويين المحلي والعربي، وهو ما يشير إلى احتوائها حركتين: صاعدة وهابطة.
الحركة الأولى: الزمن النفسي الصاعد
صعودٌ للمشاعر والأحاسيس، حيث الانطلاق من الأضيق إلى الأفسح، مثلما هي قصيدة «نجمة الحبر»، التي يفتتحها بـ: «لنا قمرٌ في اليمامةِ.. عالٍ/ ولكننا حين نسهرُ يهبطُ من درجٍ في السماء ليسهر». الجملة الافتتاحية «لنا قمر»، تشير إلى العلاقة والتمازج بين الذات الجمعية والقمر؛ فالشاعر يؤسس لحركية النص منذ الجملة الأولى؛ ليقوم بعدها بدفع الحركة صعودًا، من خلال استعمال لفظة «لنا»، في بدايات المقاطع الموالية؛ ليؤكّدَ الزمنَ النفسيَّ، الذي تستغرقه القصيدة في حركيتها واندفاعتها: «لنا نجمة الحِبر../ نكتبُها../ والسماوات دفتر/… لنا في الرصافة نايان/ سينأى بنا الحزن حتى نؤلّف أرواحنا/ في كتابِ الهجاء/ المبعثر».
يستحضر الشاعر تاريخ العراق الحديث؛ عراق السيّاب، عبر التقاطع مع قصيدة «أنشودة المطر»، التي يتكئ عليها في صعوده. استحضار العراق يعني استحضار عروبة الزمن الحالي، وما تعانيه من إنهاك وتأزُّم، وهو ما ينعكس على الزمن النفسي للشاعر: «لنا في الحمام/ هديلُ اثنتين/ ولكنّ دمعهما قد تحجّر/… لنا في الحنان فؤادٌ يتيم/ ولكنه، حين نعشق، / أخضر».
استحضار الواقع العربي الحديث؛ لا يكفي للصعود، فالشاعر محتاجٌ إلى استعادة تاريخه وتراثه الموغل في الزمن، مؤكدًا عدم انفصاله عنه، وأنه ليس سبب التراجع: «لنا امرؤ القيسِ/ يبحث عن بلدٍ ضائعٍ/ ثم يُقبر…/…/ لنا ما لنا/ غيرَ هذا الجحيم الذي قد أحاط بنا/ من جميع الجهاتِ/ ولكنه عن ندى/ سوف يُحسر».
لا يأتي «امرؤ القيس» بهدف الاستحواذ على الراهن، والاستيلاء على المستقبل، بل ليساهمَ في دفع الأمة العربية إلى الأمام؛ للخروج من واقعها الفوضوي، ومأساويتها القاتلة، ولهذا يرد ختام المقطوعة بصرخة عابرة للقومية والمناطقية والقبائلية، التي تُفرِّق العرب والمسلمين: «لنا الله.. والله أكبر». هكذا تنتهي رحلة الصعود في القصيدة؛ حيث تدرَّجت من الذات الفردية، الممتزجة بهموم الذات العربية، وصولًا إلى الذات الإلهية، وهناك توقف الشاعر وأطلق صرخته المدوِّية «الله أكبر».
قصيدة «زيارة» تمثل كذلك الزمن النفسي الصاعد؛ إذ يفتتحها بـ«من ها هنا.. نهر الطفولة مر»؛ وهي اللازمة التي تحرك القصيدة وتدفعها إلى الأمام؛ حيث الانطلاق من الأضيق إلى الأفسح، ثم يكمل بعدها مازجًا الذاتي بالمحلي: «هذي سدرة الجيران تسدل ظل خضرتها على الجدران/ وضممت لي من سدرها ما يملأ الكفين.. / ثم شممته…/ فرجعت طفلًا». ينتهي المقطع بإطلاق صرخة مدوِّية، يمكن للقارئ تبيّن أثرها بصورة جليّة، يتلوها استفهام يمهد لإكمال الذات صعودها النفسي. فالهدف ليس التوقف عند لحظة الطفولة، بل مجاوزتها إلى ما يرتبط بمحيطها وتاريخها: «الله يا نهر الندى/ قد كنت أحلى؟».
يعاود الزمن النفسي انطلاقته وصعوده مع استمرارية القصيدة، حيث تأتي اللازمة بتغيير طفيف، مناسب للمرحلة الجديدة: «من ها هنا نهر الطفولة سال». حيث تتقاطع وتتمازج مع المحلي «فانسابي وئيدًا يا خطاي»، والتراثي (أو قيل.. يمضي إلى الصحراء يلتقط الحصى ويعيد نسج حكاية المجنون)، في استعادة لذاكرة المكان، ولذاكرة الإنسان. المكان باعتباره المنشأ والطفولة، والإنسان باعتباره التراث والامتداد، وهدف الاستعادة الاتجاه صوب الأنثى التي تغدو خلاصًا للذات مما تمر به من أزمات نفسية فـ«لا ليله ليلٌ/ ولا أيامه مثل النهار».
التأسيس لنهاية الصعود النفسي يتم على مرحلتين: الأولى، عبر استحضار «الحمام»؛ ليكون ناقل الرسالة بين الذات والأنثى «قبِّل أظافرها وقل مضناكِ أسقمه النوى»، «وقل لها أني تعبت من الجوى». هنا تبلغ القصيدة ختامها، وتستعد للبوح بأسرارها، فالصعود النفسي اكتمل، وحانت لحظة الكشف، حيث التوحد والتلبس بالنجم السماوي الساري أبد الدهر: «وكأنني النجم الذي أبدًا/ طوال الدهر ساري/ فمتى تفك حبيبتي الأولى…/ إساري؟».
استفهام الختام أحال القارئ إلى الاستفهام الأول؛ الذي انطلقت منه حركة الصعود «الله يا نهر الندى قد كنت أحلى؟»؛ إذ المقارنة جارية بين واقعين: أحدهما سابق والآخر لاحق، حيث السابق قيَّد الذات ومنعَها من الانطلاق، فهو يمثل الحالة الطفولية التي مرَّت بها، وما زالت مستمرة. هذه القصة نفسها؛ تشبه قصة الأمة العربية في تراجعها وتمسكها بالقديم، دون النظر إلى المستقبل، أو وجود إمكانية للتغيير، ولهذا ورد الختام صرخة مدوِّية، أطلقها الشاعر: «فمتى تفك حبيبتي الأولى… إساري؟».
الحركة الثانية: هبوطٌ من الأفسح إلى الأضيق
هذه الحركة معاكسة لحركة الصعود، مثلما هي قصيدة «وجدان»، التي تعود مناسبة كتابتها إلى تفجير إرهابي؛ أودى بحياة طفلة بريئة عام 2004م تحمل الاسم نفسه، في منطقة الوشم، إذ يفتتحها بـ: «نمرُّ على الوشمِ/ قلب الرياض يدقّ على باب هذا الجسد/ يقول افتحوا البابَ كي يتسلل من رئتي الدخانُ الذي في سماي احتشد». الجملة الافتتاحية «نمرُّ على الوشم»، تشير إلى العلاقة والتمازج بين الذات الجمعية «نمرُّ»، والمكان «الوشم»، فالزمن النفسي يحضر داخل القصيدة، مصطحبًا معه الأحداث المحلية والعربية؛ إذ لا انفصال بين الذات والأحداث المحيطة بها: «أتيتُ هنا قبل عشرين عام/ ومن شارعٍ فيه تبدو فلسطين كنا نحثُّ الخطى نحو حلم الصبا وكانت/ حديث الرفاق وأول أشعارنا في الحنين وآخر أشعارنا في القمر».
الشاعر مهموم بأمته ومشكلاتها وواقعها المأساوي، والتغيير لا يتحقق إلا باجتماع أبنائها، فاليد الواحدة لا تصفق، فمن التوحد بين الذاتين الفردية والجمعية؛ تنطلق حركة القصيدة، مستخدمة القناع الأنثوي «وجدان»؛ التي ترمز إلى فلسطين، لهذا يكررها الشاعر في المقاطع الموالية: «ووجدان كانت هناك تلاعبُ عصفورها في حذر/ وتسقيه ماء الحياة ولم تدرِ أنَّ الطغاة سيسقونها من شراب أسن/ ووجدان كانت هنا –قرب هذا الجدار– تُحدّث عصفورها عن دروس/ الصباح وعن حلم أمس الذي ما رأت مثله في المنام: كانت تطير إلى أفق/ أخضر وسرب عصافير بيض يشاركها في الدعاء لهذا الوطن/ ووجدان كانت حديث الرفيقات في الصف كانت تجيد التأمل في الكائنات/ وكانت تريد التحدّث عن أملٍ منتظر».
الزمن النفسي يتخذ مسارًا هابطًا من الأفسح إلى الأضيق؛ من فضاء العروبة إلى فضاء أخص، هو فضاء فلسطين وقضيتها، حيث رمز إليها بالأنثى «وجدان»، أمَّا ختامها فتأكيد على أن فلسطين باقية لا تموت: «ووجدان كانت هنا دمعةً في البيوت –تحت هذا الجدار– ولكنها سوف/ تبقى لنا كالنخيل الذي لا يموت..
وإرهابهم يُحتضر».
من فضاء الجماعة إلى الذات
قصيدة «القلطة» ذات المدلول المحلي، المستوحى من حياة البيئة، تشير إلى الضيافة والكرم، وما يتصل بهما من شهامة ومروءة وإعانة وإغاثة، وهي صفات الفارس الأصيل، الملتزم بالقيم الأخلاقية والاجتماعية عند العرب. تمثل كذلك الزمن النفسي؛ إذ افتتاحيتها تبدأ بتكثيف اللحظة، والإفصاح عن حركتها الهابطة: «ذهب الناس بمعناهم، وخلوني وحيدًا..»؛ حيث الاتجاه من فضاء الجماعة الأفسح، إلى فضاء الذات الأضيق.
حركة القصيدة تبدأ من عبارة الافتتاح؛ إذ الذات المتوحدة والمعزولة، تبحث عمَّا يملأ فراغ أوقاتها، لهذا لجأت إلى تدوين الأشعار على «الورق الأبيض» في أثناء بحثها «عن المعنى..»؛ عن هموم القبيلة، وما يشغل تفكيرها، في محاولة لمساعدتها؛ كي تخرج من مآزقها، التي هي مآزق الأمة العربية. لذا؛ حينما سمع صوت عودتهم، اعتمر «ثياب الحكمة»، وأصغى لأناشيدهم، وتساءل: «هل رجع البدو من المقناصِ يتلون قصيدا؟».
استخدم الشاعر تقنية الاستدعاء للتراث العربي (شعر المحاورة)، عبر التماثل بينه وبين تقاليد البيئة المحلية (شعر الرديّة)، حيث مزج الهمَّيْنِ الخاص والعام؛ همّ الشاعر وقبيلته، وهمّ العروبة في تخلفها وتراجعها، وبهذا يكون التساؤل حول عودة البدو من المقناص؛ تساؤلًا عن قصدية الحياة الحالية، والهدف من ورائها، والبحث في كيفية تقدم الأمة وتطورها.
استحضار العروبة والتراث؛ أبرز فاعليتهما، وتأثيرهما على الذات؛ حيث أمدَّاها بشعور الأمان والاطمئنان. لكن التساؤل عن هدفية الحياة وقصديتها اتخذ منحًى فرديًّا، حينما انتقل من الفضاء الأفسح؛ فضاء القبيلة والعروبة، إلى الفضاء الأضيق؛ فضاء الذات والشعر. لجأت الذات في أثناء بحثها عن إجابة لسؤال الهدفية والقصد «المعنى..»، إلى إيجاد معادل موضوعي يساهم في مساندتها ومساعدتها، خلال مرحلة هبوط الزمن النفسي، فالقبيلة حين عادت واستعدَّت للراحة: «انسل فتى وتلوى الصفّ طيرًا بجناحين من الأبيض والأحمر../ ينشقّ عن الصف غلام يلثغُ الشعر أسمّيه قريني/ حين قال: قربوا (الطار) من النار قليلًا.. فهناك الصف.. قام».
الـ«فتى» يتميز بأمرين: بأنه القرين القادر على الإنشاد، وبأنه يجيد قيادة الأوركسترا البدوية. وبهذا يكون معادل الذات الموضوعي، الذي رفض الشاعر تسميته، وجاء به نكرة دالة على العموم، فأحال إليه مهمة البحث والتنقيب عن «المعنى..»، وهي الإحالة الشاملة لجميع أبناء الأمة، بينما اكتفى بالجلوس والمراقبة: «وأنا أنقل (مسباحي) من يُمْنَى ليُسْرَى».
المقطع الأخير مشهد حواري مع أحد المنتشين بالرقص والغناء. حينما تساءل: «ما الذي تفعله الأرض بنا يا صاح؟»، فجاءه الجواب: الشعر سر «أسرار الغرام»، ووحده القادر على اجتراح المعجزات، حينها رغب المنتشي بالحصول على السر: «امنحني يدًا.. صوتًا مديدًا». الذات عاجزة، لا تستطيع منح الشعر للآخرين؛ حيث الشعر معادل للمعرفة والحقيقة، فعبره تنكشف أسرار الأمم وأسباب تفوقها، وهو الهمُّ الذي حملته القصيدة، لهذا جاءت نهايتها صادمة: «قال ما قال ولكن إذ تلفتُّ رأيت/ لم يكن في الحلبة من ناسٍ سواي../ وأنا أنقل (مسباحي)/ مختالًا.. وحيدًا». هبط الزمن النفسي من الفضاء الأفسح؛ فضاء القبيلة والعروبة، إلى الأضيق والأخص؛ فضاء الذات المتوحدة والمنعزلة، التي لا تمتلك القدرة على تغيير الأحداث، ما لم تسعفها الجماعة وتساعدها، حيث وقعت ضمن مفارقة حادة؛ تسببت بذهولها، وعدم إدراكها لما يحصل، فاكتفت بالجلوس والمشاهدة، ونقل المسباح «من يمنى ليسرى»، من دون أن تصدر صرخة واحدة؛ فـ«لم يكن في الحلبة من ناسٍ» سواها.
الحركتان الصاعدة والهابطة نتيجتهما واحدة، والسبب راجع إلى الرغبة في تجاوز الواقع المأساوي للأمة الإسلامية. فعلى مستوى الحركة الصاعدة حضرت قصيدة «نجمة الحبر»، التي استعار لها عبارة «الله أكبر»، وضمنها صرخته، وكذلك فعل مع قصيدة «زيارة»؛ إذ ضمنها تساؤله الحاد «فمتى تفك حبيبتي الأولى… إساري؟». أمَّا على مستوى الحركة الهابطة، فقد حضرت قصيدة «وجدان»؛ حيث استعار رمزية النخلة ودلالتها على الحياة والاستمرار «تبقى لنا كالنخيل الذي لا يموت»؛ ليشير إلى استمرارية القضية الفلسطينية، بينما في قصيدة «القلطة»؛ التي اختتمها بتدوير المسباح «من يمنى ليسرى»، اكتفى بالجلوس والمراقبة؛ لتكون سلبيته وعدم قيامه بفعل أشد تأثيرًا من صرخاته المدوِّية.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق