كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
بهجة الفن أمام الدمار
قصيدة الشاعر الأيرلندي وليام ييتس (1865-1939م) «حجر اللازورد» Lapis Lazuli ترسم رؤية لطبيعة الفن ودوره، ماهيته وأثره، ما الذي يكون به الفن فنًّا، سواء كان شعرًا أو مسرحًا أو نقشًا على حجر؟ وهذا لون من التأمل يشيع في الشعر الغربي الحديث، وهو في الوقت نفسه لون أثير لدى ييتس نفسه. نجده في قصائد كثيرة، لعل أشهرها قصيدته «الإبحار إلى بيزنطة»، حيث تمْثُل المدينة العتيقة، ممثلة للإمبراطورية الرومانية الشرقية، أو القسطنطينية، بوصفها مدينة اتصفت بتعالق الفنون والثقافات، وتألقت بعمارتها وفنونها المختلفة. ذلك التعالق والتألق يتكرر في «حجر اللازورد». فالقصيدة، كما ذكر الشاعر الأيرلندي نفسه، استدعاها النظر في نقوش على حجر من اللازورد، وهو حجر كريم، أهدي إليه، وفي النقوش مشهد لحكماء صينيين يقفون على قمة جبل ويتأملون ما تحتهم.
جوهر الفن في واقع متغير
لكن قصيدة ييتس كتبت في ظل ظروف تاريخية مأساوية هي الحرب العالمية الأولى وما صاحبها من عنف ودمار. كان السؤال الملح حينها: ما دور الفن في ظروف كتلك؟ الفن متهم باللاجدوى واللامعنى وعدم الاكتراث في وقت تساقط فيه القنابل ويموت الناس. ذلك ما يراه، حسب ييتس، من لا يدرك معنى الفن فينظر إليه من زاوية عملية أو شديدة الواقعية، أي الزاوية التي تنتظر من الفن والفنان أن يكونا عمليين بحيث يتحولان إلى انعكاس مباشر لما يحدث فيعلقان عليه ويتدخلان في مجرياته.
ينسب ييتس تلك الرؤية لمجموعة من «النساء الهستيريات»، في موقف سيراه بعض منا اليوم موقفًا ذكوريًّا متحيزًا ضد المرأة. لكن بغض النظر عن ذلك الموقف وما يستدعي من قراءة مختلفة، سيتضح لنا أن القصيدة مرافعة متصلة عن أهمية الفن في حياة الإنسان وحياة الحضارة أيضًا. فلكي يكون الفن فنًّا، حسب الشاعر، عليه أن يخلص لهويته، لطبيعته، لكونه فنًّا، فلا يتماهى مع متغيرات الحياة والأحداث. لكن ذلك لا يعني عدم الاكتراث، وإنما العكس، فالفن ينهض على الوعي بالمأساة مثلما ينهض على الوعي بنقيضها، الملهاة، فهو واعٍ بالدمار وباحتمالاته، لكنه مضطر لكي يكون ذاته، لكي يحقق جوهره، أن يتجاهل المتغير، فتستمر المسرحية الشكسبيرية:
كلهم يقومون بدورهم المأساوي، /هناك يتبختر هاملت، وهنا لير،/ وتلك أوفيليا، وتلك كورديليا؛
ومع ذلك، فحين يأتي المشهد الأخير،/ وتكون الستارة في المسرح الكبير على وشك الإغلاق،/
إذا كانوا جديرين بأدوارهم البارزة في المسرحية،/ فإنهم لا يقطعون نصوصهم ليبكوا./ يعرفون أن هاملت ولير مبتهجان؛/ البهجة تغير كل ذلك الرعب.
البهجة هي جوهر الفن، وهي لا تعني ابتهاجًا بما يحدث وإنما مقابلة ما يحدث بثقة بأن الفن يتجاوز كل ذلك، يخلد على الرغم من كل المآسي. والأمثلة كثيرة في تاريخ الحضارات وفنونها. وينسحب ذلك على ما يراه الشاعر محفورًا على حجر اللازورد، فالصينيون المرسومون عليه ناجون من دمار محتمل، مع أن من حفر أشكالهم فني في الدمار. فناء الفنان لم يحل دون ممارسته لإبداعه بابتهاج الفنان وقبوله لمصيره المحتوم. لكن ييتس لا ينسى أن يضم نفسه إلى المشهد الفني المبتهج، فهو يختتم القصيدة بتخيل ما يشاهده على حجر اللازورد، ممارسًا بذلك عملية إبداعية تذكر القارئ بأنه هو الآخر فنان مبدع يحتفي بالفن ببهجة لا تكدرها احتمالات الدمار القائمة نتيجة للحرب:
ويبهجني/ أن أتخيلهم جالسين هناك؛/ هناك، على الجبل والسماء،/ على كل المشهد المأساوي الذي يحدقون فيه.
إنه يواجه تلك الاحتمالات لكن لا كما تواجهها «النساء الهستيريات» أو غيرهن بهستيريا مماثلة، وإنما ببهجة هي روح الفن وأسباب بقائه. التلقي المبدع والمبتهج للفن هو فن آخر أيضًا.
حجر اللازورد – وليام ييتس
سمعت أن النساء الهستيريات يقلن/ إنهن قد مللن من لوح الألوان وقوس الكمان،/ من الشعراء المبتهجين باستمرار،/ لأن الجميع يعلمون أو يجب أن يعلموا/ أنه إن لم يُفعل شيء حاسم/ فإن الطائرات والمناطيد ستأتي،/ تلقي بقنابل الملك وليم/ حتى تترك المدينة كلها مسوّاة بالأرض./
كلهم يقومون بدورهم المأساوي،/ هناك يتبختر هاملت، وهنا لير،/ وتلك أوفيليا، وتلك كورديليا؛/
ومع ذلك، فحين يأتي المشهد الأخير،/ وتكون الستارة في المسرح الكبير على وشك الإغلاق،/
إذا كانوا جديرين بأدوارهم البارزة في المسرحية،/ فإنهم لا يقطعون نصوصهم ليبكوا./ يعرفون أن هاملت ولير مبتهجان؛/ البهجة تغير كل ذلك الرعب./ كل الناس سعوا، كسبوا وخسروا؛/ انطفاء المشهد؛ تبرق السماء على الرؤوس:
تصل المأساة إلى أقصاها./ مع أن هاملت يتمتم ولير يزبد،/ وكل المشاهد النهائية تنتهي مرة/ واحدة/ على مئات الآلاف من المسارح،/ فإنها لا تزداد إنشًا ولا أونصة./ جاؤوا على أقدامهم، على السفن،/ على ظهور الجمال، ظهور الخيل، ظهور الحمير، وظهور البغال،/ حضارات تحاربت./ عندئذٍ اندثرت واندثرت حكمتها:
لم يبق عمل يدوي واحد من كاليماخوس/ الذي عالج الرخام كما لو كان برونزًا،/ صنع ستائر بدت كما لو أنها ترتفع/ حين تهب ريح البحر على الزاوية./ مداخن ضوئه الطويلة التي شكلها مثل جذع/ نخلة نحيلة، عاشت يومًا واحدًا فقط:
كل الأشياء تسقط وتبنى ثانية/ والذين يبنونها ثانية مبتهجون./ صينيان، خلفهما ثالث،/ منحوتان على حجر اللازورد،/ فوقهما يطير طائر طويل الساقين/ رمز لطول العمر؛/ والثالث، خادم دون شك،/ يحمل آلة موسيقية./ كل خدش على الحجر،/ كل حفر أو كدمة/ تبدو مجرى لماء أو انهيارًا لثلج،/ أو منحدرًا عاليًا حيث الثلج ما زال يسقط/ مع أن غصن كرز أو برقوق ما زال دون شك/
يحلّي البيت الصغير عند منتصف المسافة/ الذي يصعد الصينيون نحوه، ويبهجني/ أن أتخيلهم جالسين هناك؛ / هناك، على الجبل والسماء،/ على كل المشهد المأساوي الذي يحدقون فيه./
يطلب المرء أغاني حزينة؛/ تبدأ أصابع مرهفة بالعزف./ أعينهم بين التجاعيد الكثيرة، أعينهم،/
أعينهم الشائخة، اللماعة، مبتهجة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق