كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
صدوق نور الدين يعاين التداخل بين الذاتي والواقعي في ثلاثية صنع الله إبراهيم الروائية
حَظِيتْ أعمال الروائي المصري صنع الله إبراهيم باهتمام نقدي واسع من كبار النقاد والمنظرين في الوطن العربي على مدار عقود متواصلة، بداية من دراسة محمود أمين العالم المعنونة باسم «ثلاثية الرفض والهزيمة» عام 1985م، التي تناول فيها بالتحليل روايات «تلك الرائحة» و«نجمة أغسطس» و«اللجنة». وتوالت بعدها القراءات على مستوى الوطن العربي، منها ما قام به الناقد السوري بطرس الحلاق، والدكتور جابر عصفور، والمغربي محمد برادة، والفلسطيني فيصل دراج. وتزخر مكتبات الجامعات المصرية والعربية بالرسائل العلمية والأبحاث الأكاديمية التي تناولت منتج صنع الله الإبداعي كاشفة عن رؤى وزوايا وظواهر حفلت بها هذه الأعمال.
في هذا الصدد تأتي دراسة الناقد المغربي صدوق نور الدين «اكتمال الدائرة: دراسة في ثلاثية صنع الله إبراهيم 67، برلين 69، 1970» الصادرة عن «دار الثقافة الجديدة» بالقاهرة وتقع في نحو 120 صفحة من القطع المتوسط، وتحتوي على مقدمة ومدخل وثلاثة فصول. يختص كل فصل منها بتحليل واحدة من الروايات محط الدراسة، كاشفًا عن الظواهر التي يتميز بها أدب صنع الله إبراهيم ورؤيته للعالم التي تسكن منتجه الإبداعي وجعلت منه مجالًا خصبًا للدراسات النقدية التي قدمت حوله وما زالت.
ويتناول صدوق نور الدين روايات: «67»، «برلين69»، «1970»، بوصفها ثلاثية روائية تحمل كثيرًا من عناصر المشابهة وتغطي مساحة زمنية متقاربة، تتشارك في أنها روايات تخيل ذاتي. فالذات هي العامل المشترك الرئيس في الأعمال الثلاثة، وتحيل عناصرها إلى حياة المؤلف وطفولته، وراهن في سردها على ضمير المتكلم، وابتكر فيها صيغًا يتماهى داخلها صنع الله إبراهيم المؤلف والروائي والشخصية، وأن كل نص في الثلاثية يتمم سابقه، وأنه حرص على إبراز الالتزام السياسي لبطلها، والاعتماد في بنائها اللغوي والفني على الجملة القصيرة، والروائي فيهن مرتحل ينتقل من مكان إلى آخر ويرصد تفاصيل رحلة منفاه من بدايتها إلى نهايتها، لكون الشخصية تمتهن الصحافة.
لم يشر صنع الله إبراهيم إلى كون هذه الأعمال ثلاثية، وبخاصة أنها كُتِبتْ في مدة زمنية قديمة بيد أنها نشرت مؤخرًا. فرواية «67» كتبها في بيروت عام 1968م، ونشرت عام 2015م، بعد 45 عامًا من تأليفها، ورواية «برلين 69» كتبها في عام 1969م، في رحلة سفره إلى ألمانيا، ونشرت في 2014م، ورواية «1970» نشرها في 2019م؛ أي أن الأعمال الثلاثة نشرت بعد عقود من تاريخ تأليفها الحقيقي. فهي ليست كثلاثية نجيب محفوظ على سبيل المثال أو غيرها من الثلاثيات الأدبية المعروفة التي نشرت متتابعة بوصفها ثلاثيات، بل إن نجيب محفوظ حين قدم ثلاثيته إلى النشر قدمها كرواية واحدة فارتأى الناشر لكبر حجها تقسيمها إلى أجزاء ثلاثة. وربما تعود فكرة اهتمام المؤلفين والنقاد بالتقسيم الثلاثي للأعمال إلى العصر اليوناني القديم الذي كان يعالج فيه المؤلف المسرحي موضوعًا واحدًا بثلاث رؤى مختلفة عبر ثلاثية تراجيدية تقدم في يوم ثم يختمها برابعة تكون عبارة عن ملهاة ومن ذلك «الأوريستيا» التي كتبها إيسخيلوس وتضم مسرحيات «أجاممنون، وحاملات القرابين، والمحسنات»، وختمها بملهاة «بروتيوس».
شهادة روائية
ويتطرق نور الدين في مدخل دراسته إلى تحليل الشهادة الأدبية التي ألقاها صنع الله إبراهيم في ملتقى «فاس للرواية العربية الجديدة» والمعنونة بـ«تجربتي الروائية» من حيث كون هذه الشهادة مدخلًا رئيسًا وأساسًا لفهم عالم صنع إبراهيم الروائي رافضًا -صدوق- بذلك النظريات النقدية التي تفصل بين المبدع وإنتاجه والقائلة بموت المؤلف والتي تصب تركيزها على النص فقط دون سواه. وتكشف شهادة صنع الله إلى أي مدى كانت رؤيته للعملية الإبداعية متسقة مع السياق الثقافي الذي كان منتشرًا لدى اليسار المصري في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، ويحيل إلى القضايا التي شغلت كثيرًا من النقاد والمبدعين في هذه الحقبة وما بعدها. منها مسألة البحث في الخصوصية الأدبية للنصوص، وقضية الشكل والمضمون، وكلها جاءت تأثرًا بالمدارس النقدية الغربية التي بدأت بالشكلانية الروسية وما تلاها من مدارس نقدية مثل النقد الماركسي التي طرحت هذه التساؤلات وحاولت الإجابة عنها بطرق مختلفة.
يثير صنع الله إبراهيم في شهادته مسألة شكل الكتابة بوصفها اختيارًا هدفه إنتاج المعنى، وهو بذلك قريب في تصوره إلى ما جاءت به المدرسة الشكلانية الروسية التي فهمت الأدب بوصفه استخدامًا خاصًّا للغة. واهتموا بالبراعة التقنية للكاتب ومهارته الحرفية متجنبين البلاغة الثورية للفنانين والشعراء. يحاول صدوق الإجابة عن السؤال الذي تطرحه كتابات صنع إبراهيم حول نوعها الأدبي الذي تنتمي إليه: هل هي روايات أم تدوين لسيرته الشخصية؟ ويخلص إلى نتيجة مفادها أن صنع الله لم يكتب سيرة ذاتية وإنما رواية تصريف الذاتي في علاقته بتحولات الواقع، إذ لو أراد صنع الله كتابة سيرته الذاتية الخالصة لما تردد في إنجاز ذلك وإنما هي وضعية الروائي الذي آثر توزيع تفاصيل حياته على امتداد أكثر من نص روائي مؤثرًا إملاء سيرته على طرف ما دون كتابتها مباشرة. أي أن السيرة الذاتية لصنع الله إبراهيم موزعة على امتداد رواياته. ويستشهد صدوق على هذه النتيجة التي خرج بها إلى ما قاله فيصل دراج في كتابه «نظرية الرواية والرواية العربية» بأن «صنع الله لم يعط روايات بل عمل على إعطاء مشروع روائي؛ إذ إن كل رواية تحيل على رواية أخرى… كما لو كان يكتب رواية واحدة مستمرة تتجدد بتجدد الوقائع اليومية التي تكتبها».
ويخلص صدوق إلى مجموعة من الخصائص التي تميزت بها روايات صنع الله إبراهيم من خلال دراسته للثلاثية. منها أن صنع الله لا ينزع إلى الصيغ المباشرة في القول وإنما يحرص على الإيحاء الذي يترك فراغات تتيح للمتلقي أن يكمل المعنى المقصود مع المؤلف. كما أن خطابه الروائي في عمقه ليس جماليًّا وحسب وإنما توثيق سياسي لمرحلة من مراحل الحياة السياسية العربية التي جسدتها مصر وعبر عنها في رواية «1970». واحتضنت أعماله الروائية أجناسًا أدبية مختلفة وظفها لخدمة نصه الذاتي كاليوميات والرسائل والمذكرات. مشيرًا إلى أن التعبير عن الذات في أعمال صنع الله جزء لا ينفصل عن التطرق لقضايا المجتمع والتفاعل معه، وأن الثلاثية تعطي صورة عن الروائي المثقف الملتزم الذي حافظ وظل يحافظ على النهج الأدبي الذي سطره لنفسه.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق