لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
وجع السرد في رواية «تغريبة القافر»
«كل شيء يغيب، الناس والبلاد، أخبار اللي عرفناهم وحكاياتهم، كل شيء يغيب وما يبقى لنا إلا الوجع» هكذا كان موقف الشخصية الرئيسة، في خلاصة لتجربة السرد. هذه الشخصية التي تتأسّس من الوجع ورجْع صدى الماء تقفوه صوتًا وأثرًا حدّ التلبّس والتأرّق من عدم استخراجه من بواطنه، وتتكوّن على هذا الوجع في مراحل تَشَكُّل الحكاية وتَحْمل معها في سياق رجْع الوجع شخصيات مملوءة حكايات ومشحونة بوجع الواقع وفجائعه، وبتاريخ من الجوع واضطراب الحال في كونٍ يُعْقَد بتمامه، في وجوده وتحقّقه على الماء الذي لا يُخصب الزرع والضرع فحسب، ولا يهزّ الأرض فتربو وتبهج فقط، وإنما هو واقعٌ في الأنفس موقع تجذّر الكائنات في الوجود وبقائها في مرابعها ومراتعها، وللماء في الثقافة العربية أبعادٌ وأحوالٌ وأدبٌ منه نتج.
من الماء والبحث عن الرواء يتأتّى السرد ويتولد، فهو المستهل والمسار والمنتهى في مُعلَن الرواية وظاهرها، غير أن العمْق حاملٌ لمعانٍ وهمومٍ، وباعثٌ لأبعادٍ تتخطّى ظاهرَ الماء إلى حوامل من الشخصيات تنوء بمحمولات تنقلها من وُجودِها العابر إلى عمق الوجود، وتملأ الروايةَ بمعان تُخرجها عن ظاهر السائد الروائي المؤسّس لواقعية اجتماعية، صارت غالبة تَحْمل من ثوابت القضايا ودَارجِها الكوني، إلى سردٍ واقعي أقرب ذاتيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا. ذاك الواقع الممزوج بمسحة عجائبية وأسطورية أحيانًا لا تجافي الواقع ولا تنفر منه.
غير أن رواية «تغريبة القافر» لا تتحدد في وجودها برحلة البحث عن الماء، وإنما هذه الرحلة هي السطح الشافّ عن أوجاع الوجود في حمْل الرأس لأفكارٍ ورؤى يُدركها العامة بأدوات فهمهم، وأقربها وسْمًا ونعتًا وجوابًا، الجنون أو التواصل مع الجن ومع العالم الغيبي. فلا غرابة أن تكون الأم منساقةً وراء طَرْق في رأسها وحالةٍ من المخاضِ الذي لا تحمل فيه جنينًا فحسب، بل تحمل فكرةً لم تؤذِ بطنها ومناعتها بل أوجعت رأسها. الطفل القافر يُعلن نهايته قبل التكون ويمد حاملته بأوجاعه، بما سيكون عليه في مقبل السرد؛ ولذلك غمر الماء المكان في بداية السرد حاملًا في أثنائه الموت والحياة، موت الحاملة وميلاد المحمول، وغمر الماء السرد في منتهى الرواية مفضيًا إلى تعمية القراءة، في حالٍ لا نعلم منها ما صار في وجود الشخصية المركزية حياةً أو موتًا؛ إذ تكون النهاية طَرْقًا على الصخر مُفجّرًا ماءً يحمل معه كل شيء: «تداعت الصخرة أمامه، وانفتح الخاتم على النفق الطويل، فانطلق الماء بقوة وجرف معه كل شيء»، وبقيت بذلك النهاية مفتوحة يملؤها القارئ بما شاء من احتمالات التقدير والتأويل.
المعنى من العنوان
روايةُ زهران القاسمي «تغريبة القافر» تحمل مذ عتبتها الأولى عبارتين دالتين «التغريبة» و«القافر»؛ أما التغريبة فتتعدّى حدّها المألوف ارتحالًا إلى الغرب لتؤسّس لمعنى نصّي سياقي، وهو رحلة القافر للقفْر أو لتقصي منابع المياه. وأما دلالة كلمة القافر، فهي أيضًا تتعدّى ما يُمكن أن تؤديه حسب تجذرها من معاني القفر إلى معنى قريب غريب وهو مقاومة القفر، أو البحث عمّا يدفع القفر؛ لتكون العتبة دالة على ما يجمع شتات أحداث الرواية وتفرق شخصياتها، منها نُدرك تدريجيًّا المعنى من العنوان الذي يُشكّل النص الروائي الأصغر الذي تتفكّك أبعاده طيّ الرواية، ليكون القافر هو الوتد أو المحور الذي يحمي الرواية من التفكّك؛ إذ فتح زهران القاسمي مسالك تَفرّعت عن الأصل وأسّست حكاياتها، غير أنها ظلت رهينة منبع الفلج، تخرج عنه لتعود إليه. تتكون شخصيات الرواية في دائرة القافر، فهي وإن امتلكت وجودها الخاص وعوالمها فإنها حية من أجل إيجاده وتمهيد السبيل لبعثه على الهيئة التي أراده الكاتب أن يكون عليها، يُسخّر الفضاء السردي لبعث القافر، الشخصية المعقّدة (بالمعنى السردي)، الحاملة لعبء الحياة قبل الميلاد، المتتبّعة مسالك الماء قبل انبعاثها.
رواية تحكي من الحيوات متخيّلَ حياةٍ، تُداخلُ رؤوس الشخصيات وما يدور فيها من محمول يفزع ضجْعتها ويهز ثباتها، أصواتٌ تنساب سردًا نحو الموت أو الحبْس أو العزلة، في مقاومة الحياة والسعي إلى الحياة في درجة أولى وإلى إثبات الوجود في مستوى ثانٍ، فمن بَسيطِ الحاجة يقوم للسرد أودٌ وتتكون شخصيات متماثلة متباينةٌ، هي الشخصيات في أصل جوهرها الواقعي، بعيدًا من القضايا الدارجة إلى ملامسة عمق البشر.
لم تكن مريم بنت حمد ود غانم الغريقة التي اختارت راحةَ ما يؤلمها من رأسها في الماء حدّ الغرق، سوى نواة باعثة لمكوّنات السرد في الرواية مؤسسة للفضاء التخييلي، فهي أمّ القافر احتواءً واحتمالًا جنينيًّا في البطن، فليست الوالدة وليست الأم عنايةً ورعايةً، منها تتشكل القصة بالوجيعة والألم، وتجري الوجيعة على مختلف الشخصيات المُجاورة المُشاركة في تمهيد الفضاء السردي لبعث القافر، وتأمين نمائه وتحقق كونه، كاذية بنت غانم، آسيا بنت محمد، إبراهيم بن مهدي، سلام ود عامور الوعري، كلها شخصيات موجوعة، حاملة لألم ما بين ثنياها، منشغلة الفكر طيلة السرد.
رواية «تغريبة القافر» تدخل ضمن حقل سردي مُرغِّب، قليل الحضور في الرواية العربية، يعمل على تمثل عادات الشعوب وأساطيرها ومعتقداتها، وتحويلها إلى قصص يُروَى ضمن نسق جامع وخيط رابط، هو في هذا المقام شخصية القافر، العجائبية والواقعية في الآن نفسه. تحمل الشخصية لعنتها وميزتها منذ تكونها جنينًا يتخبط في أحشاء أمه، لعنة الماء يقفره من قبل أن يُبعث كونًا في الحياة، ولا تقصر اللعنة عليه فردًا، وإنما هي شاملة من ارتبط به بسببٍ في زمن يسبق مولده أو يُزامنه، هي لعنةُ القرى تَردّ كل فعل لا تتقبله ولا تُدركه نفسيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا إلى أجوبة غيبية جاهزة.
وجهان للماء
ينفتح السرد وينغلق على فعل الانعتاق والتحرّر من الوجيعة، «قبل حملها بأشهر اعتراها صداع مزعج، فعزت ذلك إلى قضاء وقت طويل في تطريز الملابس، وكانت كلّما اشتد عليها الصداع تركت ما في يدها واستلقت قليلًا. لكنها منذ أن حملت صارت تسمع داخل رأسها طرقات هائلة، زعمت أنها تكاد تفلقه، وعندما تنام تحلم بزندين كبيرين يحملان مطرقة ضخمة ويهويان بها على صخرة صماء». ذاك حلم الأم وواقعُ ألمها وهي حامل بالقافر الذي أدى بها إلى السعي وراء الماء تضع رأسها فيه لترتاح، والذي أفضى بها إلى الموت غرقًا في البئر استجابةً لدعوة الماء، «تعالي تعالي». هو الحلم يتحول واقعًا وتنتهي الأم ميتة في الماء، حاملة لروحٍ حية، هي جوهر الحكاية وفؤادها. فكان الماء داء الأم ودواءها.
ويختار الكاتب أن يكون مبدؤه موتًا منه تنبعث حياة أشبه بالموت؛ إذ يخرج الحيّ من الميّت في حدث فارق يُشكّل أرضةً يُدير فيها الراوي عدسة الرؤية ليشمل قسمًا من أهل القرية بتعريف مختصر موجز، ويُرافق الماء مراسم دفن الأم، لتصحب الابن شخصيتان تكتسبان حضورهما منه، المربية كاذية بنت غانم، المرأة العزباء، التي حملت هموم المختلفين (سلام ود عامور إذ كانت تُطعمه في عزلته، وسالم بن عبداللّه الذي رعته بعد يُتمه) وآسيا بنت محمد المرضعة التي فقدت كل مولوداتها، والتي «اعتادت أن تمشي مُنكّسة رأسها، وهي تقطع طرقات القرية. واعتادت أن تُسرع الخطى كلما اقترب منها أحد، وأن تختار كلّما ذهبت إلى البساتين مكانًا كثيف الظلال لتجلس فيه». إبراهيم بن مهدي مسكون الرأس أيضًا سافر وترك آسيا زوجته، «كان رأسه مملوءًا بأصوات الزرع والغرس، فلم يسمع سوى خرير الماء وصوت المسحاة وهي تعزق الأرض».
الأمر نفسه بالنسبة إلى ود عامور الذي يعيش اغترابًا مذ طفولته. وينغلق السرد على تتالي ضربات القافر على الصخر الذي يحبسه، «تتالت الضربات، وتحول جسده كله إلى يدين لا همّ لهما إلا ضرب ذلك الجبل الجاثم أمامه كأنه يضرب كل ما عاشه مذ كان طفلًا، يهوي بالمطرقة على سجنه، على غيابه، على اليأس من مغادرته تلك العتمة، على شوقه الجارف إلى زوجته، على الهدير الذي يصم أذنيه ويمنعه من سماع أي شيء سواه، على العزلة التي تمتد وتمتد، على الفكرة التي لا يرغب في مواجهتها»، فيكون الماء في الوضعين ابتداءً ومنتهًى حاملًا لمعنيي الموت والحياة.
الحكاية الأصل وفروعها
تنفتح الحكايات من مجاورة عدد من الشخصيات للقافر (سالم بن عبدالله)، ويُحسن الكاتب إدارة عدسة الرؤية، ليتنقّل من خيط السرد الجامع إلى تفرّعات تُثري الخطّ الرئيس وتُغنيه، «كاذية بنت غانم» الأم المربية، يخصها الكاتب بحيز من السرد خفيف، يسترجع به صورتها وتاريخ تنشئتها، «عندما كانت كاذية بنت غانم في الخامسة من عمرها هجر أبوها البيت وخرج هائمًا في الوديان والقرى، يحمل طبلًا معلّقًا على كتفه ويضرب عليه بعصًا غليظةٍ…».
«الوعري ود عامور» شخصية أخرى قائمة على الاختلاف والنكران، تُنكره أمه بسبب تغيّر هيئته وهو صغير، ينشأ مرفوضًا منكرًا، وحيدًا، متّهمًا بأنه من الجن، ينتهي به المطاف إلى أن يقتل والدُه أمَّه دفاعًا عنه ويعيش هو هائمًا، مؤكّدًا انتسابه لعالم الجن، فيحمل رؤية أمه وجريرة مقتلها وسوء اعتقادها بسبب ما تهيّأ لها من استبدال الجن لابنها، الذي يعيش حياته حاملًا لهذا الثقل، منزويًا عن الناس، متهمًا بالغرابة، متوجعًا أنّه علة موت أمه التي رأت فيه جنًّا، وأصرّت على لفظه وعملت على التخلّص منه. «كلّ محاولات الجيران ومعارفها في القرية لتغيير رأيها باءت بالفشل، فاستمرّت تبكي وتنوح ولدها الغائب (والمقصود بالغياب استطارة الجنّ) وتلعن الحسّاد والسّحرة والجنّ في قريتها، وتعتبر أنّ الجميع كانوا ضدّها وقد تحالفوا ليخفوا عنها الحقيقة الجليّة، حقيقة اختفاء ولدها عند الجنّ، وأنّهم استبدلوا به الولد الجنيّ الذي صار يعيش معها»، فلا يجد له من حلّ سوى أن يؤكّد هذه الغرابة وأن يختار العيش بعيدًا من البشر. «زاد الوعري في توعّره بعد أن فقد أهله ولم يبقَ له أحد، صار يهيم في البلاد ولا يقبل أن يتحدّث مع أحد، يذهب كلّ يوم إلى الوديان العميقة ويختبئ بها، ثمّ يعود في عتمة الليل لينام في بيته».
هو شبيه القافر في الاغتراب والفقد والنكران والانتساب إلى العالم الغيبي، فتلتقي هذه العناصر بما تحمله من حكايات عجيبة أو قابلة للتحقّق وبما تُعلنه أو تُضمره من رؤى وأفكار في مسارٍ للسرد جامع هو شخصية القافر التي تحدّد همّها ومنبع مشاغلها ومولّد السرد فيها بالهيام في تقفّي أثر الماء وقوعًا تحت سلطةٍ عجيبة هي القدرة على سماع الماء والاستطاعة على تتبّع مآتيه.
يصطنع الراوي عللًا وأسبابًا للدخول في فتح الحكايات، والخروج عن خطّ السرد الواحد بإحداث متفرّعات حدثيّة يستطرد بها الراوي في خروجه عن الحكاية الأصل، ليضيء حكايات جانبيّة لشخصيّات مُجاورة، تُستَدْعى حكاياتها إدراكًا لحالها وبيانًا لطبيعة تشكّلها، فتكون الشخصيّات هي مولّدة الحكاية، حتّى إن كانت عَرَضيّة، فإنّ الراوي يستغلّها لتكون سندًا لحكايةٍ تُرْوى أو اعتقادًا أسطوريًّا يغلب بين الناس يُكشَفُ. ومن ذلك المرأة العجوز التي قالت في زوجة القافر بعد ملاحظة سلوكها الغريب، «وزادت امرأة عجوز انحنى ظهرها وتقوّس وهي تمشي بينهم باحثة عن موضع تجلس فيه»، «هذي المصايب كلها من ذاك المكان بو سكنوا فيه، كل المصايب تجي من هناك». وتدخل في حكاية المكان في بعده الأسطوري، وكذا الأمر بالنسبة إلى إدارة الراوي لفروع الحكاية الأصل، فكلّ شخصيّة من الشخصيّات المذكورة تحمل ألمًا وحكاية، يختصرها الراوي استطرادًا متناغمًا مع خطّ السرد الرئيس.
من الألم يتوالد السرد في خطّ مدروس، واضح المعالم، عالم قائم على الصراع من أجل البقاء، يكون فيه الماء عامل بعثٍ وفناء، علة خصوبة وقَفْرٍ، باعثُ السرد ومنهيه بحدثٍ لا يُرْكِدُ النهايات وإنّما يجعلها تجري منسابة، أو عاصفة.
هوامش:
(١) زهران القاسمي: تغريبة القافر. دار مسكلياني. الشارقة الإمارات- دار رشم. تونس. ط1. 2022م. ص173.
(٢) م. ن. 228.
(٣) م. ن. 18.
(٤) م. ن. 32.
(٥) م. ن. 62.
(٦) م. ن. 227-228.
(٧) م. ن. 76.
(٧) م. ن. 88.
(٩) م. ن. 94.
(١٠) م. ن. 205.
المنشورات ذات الصلة
قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي بين العتمة والماء يتشكل العالم
الشاعر العماني عوض اللويهي يقترح نصًّا مغايرًا، يبتعد من المألوف من خلال مجموعاته الشعرية: «العتمة تفر من ظلالها»،...
«القبيلة التي تضحك ليلًا» لسالم الصقور تشظي الذات بين المواجهات النسقية
يقدم الروائي السعودي سالم الصقور في تجربته الأولى مواجهة نسقية ناقدة، ينتمي فيها الفرد إلى حقبة زمنية موسومة عالميًّا...
«سجادة فارسية» نسيجُها القصائد… مختارات من الشعر الإيراني المعاصر
في ترجمة الشعر تخضع النصوص أو تتحرر. بعضٌ يترجم أعمالًا تشبهه، يختار قصائد ودّ لو كتبها، وإذا اضطر إلى ترجمة قصائد لا...
0 تعليق