كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الغناء في حياتي وأثره في رواياتي
انعقدت في جامعة حلب ندوة (لسان الدين بن الخطيب) بين الثاني والرابع من ديسمبر 2003م، وكنت أنا وجمال الغيطاني من المشاركين فيها. وفي عشية اليوم الأخير دعانا الصديق الباحث محمد قجة إلى سهرة في منزله العامر، ودعا معنا صديقيه الموسيقيين: ظافر الجسري صاحب الصوت الذهبي، وبخاصة حين يغني لمحمد عبدالوهاب، وابنه أيمن الجسري العازف الذهبي أيضًا على العود والقانون. وفي غمرة السهرة أخذ العزف والغناء بالألباب، فتربعت أنا وجمال على السجادة بين يدي الأب وابنه. ولما عدنا إلى الفندق (بيت رسمي) من بيوت حلب العتيقة في سوار القلعة، باغتني جمال بإعجابه بمرافقتي المتقطعة للغناء والعزف: «أنت مش سميع وبس، أنت بتغني كمان». وما أكثر ما ناشدني من بعد في سهراتنا المتباعدة أن أغني، وما أكثر ما أبدى إعجابه بما للموسيقا في بعض رواياتي قبل وبعد أن يحثني على أن أُعنى بالموسيقا في كل ما أكتب.
تلك كانت سهرة لمحمد عبدالوهاب «الوردة دي ريحتك فيها/ أحفظها تذكار لهواك»، و«قالوا لي هان الود عليه ونسيك/ وفات قلبك وحداني»، وسهرةً كانت لأصابع أيمن الجسري كلما استقلت عن الغناء، سكرى بالتقاسيم والارتجالات، تنادي روح فريد الأطرش ومنير بشير ومحمد القصبجي، وتتوحد مرة بالعود ومرة بالقانون.
عبدالحليم حافظ
قبل ندوة ابن الخطيب الحلبية بأقل من شهرين، كان ملتقى القاهرة للإبداع الروائي في دورته الثانية يجمعنا –عزت القمحاوي وأنا وكوكبة من الصديقات والأصدقاء– كل عشية بعد ماراثون الجلسات المتطاول من العاشرة صباحًا إلى التاسعة مساءً. وفي العشية الأخيرة حيث لم يبقَ مطرح في غرفتي في أوتيل بيراميزا لعزت ولي إلا على الموكيت، بدأنا نتناوب على (الأعمال الكاملة) لعبدالحليم حافظ. وكانت المستشرقة الرومانية رودريكا أكثر المحكومين والمحكومات بالسماع ذهولًا وإعجابًا بالوحدة (الفنية) السورية المصرية.
كانت حكايتي مع أغاني عبدالحليم حافظ قد بدأت سنة قيام الوحدة السورية المصرية في دولة الجمهورية العربية المتحدة (1958- 1961م) كما يليق بالمراهق الذي سيدمن على أفلام العندليب الأسمر، ويسمي شقيقه الذي ولد عام 1962م عبدالحليم، ويحفظ أغانيه، ويدندن بها في أماسي الكورنيش في طرطوس أو في اللاذقية. ولا تزال تلك (الأعمال الكاملة) تسكن ذلك المراهق بعد أكثر من ستين سنة. بيد أن أيًّا منها لم يتسلل إلى رواية له.
ذات صيف من أواسط السبعينيات جمعنا بيت والدتي في مدينة جبلة: محمد ملص ونائلة الأطرش وصنع الله إبراهيم وأنا. بعد سفر الأولين رابط الآخران في البيت حتى أمرت أم نبيل ضحى الجمعة بالخروج ليتسنى لها ولإخوتي تنظيف البيت، فمضينا إلى مقهى الزوزو على الكورنيش. وعلى مشهد من البحر الساجي انفرد كل منا بطاولته وأوراقه وقهوته. وأكرمنا النادل بالأعمال الكاملة لفريد الأطرش، وبالصوت العالي في المقهى الخالي. فلما شكونا الصوت أخرسه النادل دقائق، ثم أكرمنا بالأعمال الكاملة لعبدالحليم حافظ، وبالصوت العالي، فلما شكونا الصوت سألنا عما نريد أن نسمع، ولم يرقْ له أن ننشد الصمت. وقبل أن يختفي حدثني صنع الله عن الفرق بين أغنية «أهواك» عندما غناها عبدالحليم حافظ أول مرة، وبين ما آلت إليه. ولأني أعلنت عجزي فورًا، راح يشرح أن الأغنية كانت تنساب ناعمة، وبخاصة حرف الألف في «أهواك وأتمنى لو أنساك» فصار الحرف ينبتر لتأتي الكلمة مثل اللحن صارمة تعبيرًا عن المزاج العسكري الذي حل محل المزاج الرومانسي.
الغناء العراقي
أما التوله بالغناء العراقي فسرّه عند ذلك الشاب (بدر عبدالهادي) الذي ناصف الثلاثين حين بلغت العاشرة. إنه أبي الذي كان يجمعنا (أمي وأنا وصبيّان وثلاث بنات والزوجة الجديدة) كل عشية على البساط الذي يتصدره هو، وأمامه منقل تتراقص جمراته منذ الخريف إلى الربيع. وعلى المنقل يبدع (زوج التنتين) بشيّ ثلاثة أسياخ من اللحم، ويطعمنا جميعًا –ثمانية أفواه– منها حتى الشبع، ويبقى له ما يصاحب رشفاته من الكأس الصغيرة –كأس الشاي– المشعشع بسحر الماء والعرق. وقبل أن يأتي على الكأس الأولى يبدأ بالدندنة التي يوشيها بنتف من حكاية أو خبر: سليمة مراد أول امرأة تحمل لقب باشا، سليمة يهودية لم تغادر العراق إلى إسرائيل: «خدري (الجاي) الشاي خدريها/ عيوني المنْ أخدره؟ بويه/ لمنْ أخدره؟». ومن سليمة يسرع إلى ناظم الغزالي: زوج سليمة، زوج الباشا، يشرح ثم تبدأ السلطنة: «عيرتني بلشيب وهو وقار/ ليتها عيرت بما هو عار»، أو «سمراء من قوم عيسى/ من أباح لها/ قتل امرئٍ مسلمٍ قاسى بها ولها؟» أو «أقول وقد ناحت بقربي حمامة». وحين كان ينتهي نواحه بشعر أبي فراس الحمداني، كان يحدق فيّ طويلًا ثم يسألني –في كل مرة يسألني– عما إذا كنت قد حفظت هذه القصيدة، وينقذني هو من الجواب إذ لا ينتظره، بل يتابع الغناء/ النواح: «ميحانة ميحانه/ غابت شمسنا الحلو ما جانا/ حيّاك/ حياك بابه حياك..».
كان المطرب العراقي الأثير لوالدي هو حضيري أبو عزيز، ليس فقط لأن غناءه يملأ العيون بالدمع –هل من غناء عراقي لا يملأ العيون بالدمع؟- بل لأنه كان شرطيًّا في مدينة الناصرية. ربما كان والدي (الدركي/ الشرطي) يتماهى مع حضيري، أما أغنيته الأثيرة في شيخوخته فكانت «عمي يا بياع الورد». وما أكثر وما أمتع مقارناته التي لم تشخ بين غناء حضيري أبو عزيز وناظم الغزالي وأنطوانيت إسكندر، ومن بعد: سميرة توفيق لأغنية «عمي يا بياع الورد».
لقد سمعت الغناء العراقي من كثيرين وكثيرات، لكن الصوت الذي ظل يشجيني هو صوت الصديق العراقي، المخرج المسرحي الكبير والكاتب المسرحي الكبير جواد الأسدي. وأول ذلك كان في سهرة في تونس في أثناء إحدى دورات معرض تونس للكتاب قبل ثلاثين سنة ونيف. وكانت السهرة قد بدأت بسحر (المالوف) الذي رمانا في دوار من الأصداء الأندلسية وفي غوايات القانون والعود والكلمات والطار والكمان والارتجالات والإيقاع الذي يقطع الأنفاس، والجوق يُحيي ضيوفه من العراق ولبنان وسوريا، حتى إذا ودعنا في منتصف الليل، بدأ جواد السهرة العراقية، وحاولت أن أجاريه مرة، وأن أكون الرداد مرة، وجواد يغرق في الشجن والحزن والنواح.
لم أرع إرثي من والدي من الغناء العراقي فقط، بل نمّيته، وما أكثر ما أسعدت والدي وأنا أذكّره بما غنّى عراقيًّا في شبابه، أو إذْ أضيف إليه جديدًا: من لميعة توفيق: «هذا الحلو گاتلني (قاتلني) ياعمة/ فدوة اشقد أحبه وأريد أكلمه/ وانتي شلون عمتي/ وبيّه ما افتهمتي/ روحي كلها يمّه يا عمه». ومن زهور حسين «غريبة من بعد عينج (عينك) يا يمّة/ محتارة بزماني/ يا هو اليرحمْ بحالي يا يمه/ لو دهري رماني». ومن مائدة نزهت هذه الأغنية «للناصرية بو جناع خذني وياك للناصرية». وقد جاء في منتهى رواية «تحولات الإنسان الذهبي» أن الشخصية المحورية (كارم أسعد)، وبينما كانت للّا فاطمة تقدمه على المنبر، هام مع صوت والده أقرب إلى الهمس والنشيج يدندن بالأغنية، ويكرر أنه يفضلها من أنطوانيت إسكندر على مائدة نزهت وعلى لميعة توفيق.
بسببٍ من إقامتي في مدينة الرقة من 1967م إلى 1972م تجذّر وتضاعف إرثي الغنائي من والدي. ففي الرقة، كما في شرق سوريا، يصدح الغناء العراقي مثله في أية مدينة عراقية. وبالطبع كانت الرقة –مثل دير الزور– تضفي على هذا الغناء لمستها. وقد كان لكل ذلك فعله العميق في رواية «ليل العالم» التي كانت الرقة فضاءها الرئيس منذ ستينيات القرن الماضي إلى البارحة عندما جعل داعش من الرقة عاصمةً له.
يتخيل منيب صوت هفاف في ليلة– وهما الشخصيتان المحوريتان في «ليل العالم» جمرةً نديةً تتهجد: «احتسيت مرّ العمر جرعات دفلى وسمّ». وفي ليلة تتهجد بالأغاني التي اشتهرت بها فرقة الرقة للفنون الشعبية بقيادة مؤسسها إسماعيل العجيلي، وهي الفرقة التي شهدتُ تأسيسها سنة 1969م في الرقة، وأحيت تراث وادي الفرات، وكتب لها عبدالسلام العجيلي، وتفرد فيها صوت خولة الحسن، وطافت على باريس وبراغ ولندن وقرطاج و…
من أصداء هذه الفرقة في رواية «ليل العالم»: «من فوق جسر الرقة/ سلّم عليّ بيده/ ما قدرت أردّ السلام/ خاف يقولون تريده» وكذلك: «أبو الخديد الوردتين/ گالت (قالت) لا لا/ يا دهب مشغول مابك لولا/ گلتلها (قلت لها) أروح وياج (ويّاك)/ گالت (قالت) لا لا/ نفسك دنّية وزادْ طبعي أكشرْ». وبالشطرة الأخيرة عنونتُ فقرة من الرواية، كما عنونت فقرةً بهذه الجملة من أغنية للمطرب الرقّي صلاح هليّل: «جرحْ قلبي نهارْ وليلْ ينزف». ويتخيّل منيب والده يدنو من هفاف وصوته يقطر حنانًا: «أمدوّر الخدين بدر المطاليع/ نجمة الثريا بجبينهْ أظني». وحضرت في الرواية الأهازيج التي أطلقها داعش، ومنها ما كانت لازمته «يا قاطع الراس وينكْ؟».
في ذلك الزمن البعيد عندما كانت جبلّة دخيلتي تنتسج من غناء عبدالحليم حافظ– ومعه غناء شادية ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وفيروز…– ومن الغناء العراقي، كانت الإذاعة الإسرائيلية تفرد كل مساء حصة للمقامات والأبوذيات العراقية وللغناء العراقي عامة. ومنذ تلك الأيام إلى هذه الأيام –وما جدّ مع سعدون الجابر وإلهام مدفعي وكوكب حمزة ونصير شمّة…– ما زالت جِبِلّة دخيلتي تنتسج من الغناء العراقي.
التراث الشعبي
تحفر رباعية «مدارات الشرق» في النصف الأول من القرن العشرين في سوريا، ونادرًا فيما حولها وفي فضاءات أبعد. وهذا الزمن هو ما أفسح للغناء التراثي المجهول النسب غالبًا. ومن ذلك في الجزء الأول «الأشرعة» الأهزوجة الشهيرة: «وسعوا المرجة/ المرجة لينا/ وبأرض المرجة/ تلعب خيلنا». وإلى الأهازيج المدينية ثمة الأهازيج البدوية، ومنها: «نار الحرابة أشعلت/ يا من يطفّي نارها/ خيل النشامى وأقبلت/ تريد تأخذ ثارها/ الله من قومٍ طغت/ بالسيف حنّا اذعارها». وفي الجزء الثاني «بنات نعش» يحضر جوق القباني أبي خليل الذي يغني: «ناحت وأجبتها لِمْ نوحك ليش/ من دون سبب/ ذا إلفك والغصون تبكي عليش؟/ ذا أمر عجب». ويأتي رقص السماح، ويأتي قدٌّ، ويأتي موشح– مثلًا: «رب ساق قام يسعى/ صاد قلبي بالذوائب». ويردد عزيز اللباد الذي اكتوى بنيران الزمن العصملّي (العثماني): «يا ويل ويلي من جمال وأنور/ خلّوا العالم سبع سنين تتمرمر/ شنقوا اللي شنقوا بأول عمنول/ يشنقهم ربي هالعالي الفوقاني».
ولا يزال هذا اللحن متوارثًا في الأغنية الشائعة «مرمرْ زماني يا زماني مرمرْ»، وقد تواتر على أدائها و(عصرنتها) فيروز وطلال المداح وعلي الحجار وصباح فخري و… وثمة أيضًا هذا اللحن الذي تلهج به شخصيات أخرى في الرواية: «حنّ الغريب على حالي/ وأنت ما حنّيتْ/ لو كنت تعلم بحالي/ يا ولد حنّيتْ». وقد تواتر على أدائه وعصرنته جوزيف صقر الذي غنّى «حنّ الحديد على حالي وأنت ما حنّيتْ». وهكذا يترجّع الغناء (الروائي) من بداية القرن إلى منتهاه، ويوالي الترجيع. وفي الرواية متناصات غنائية زاخرة بالمحرم الجسدي، مثل أغنية «مديت إيدي…»، أو طالعة من القاع الاجتماعي مثل غناء الجارة: «حبيبي عاشق وأبوه عاشق وأخوه عاشق/ راحوا يجيبوا الطبيب لاقوا الطبيب عاشق/ دسّ المفاصل وقال يا ولد مالك؟/ مجروح جرح الهوى/ اللي جارحك عاشق».
وتابعت في الجزء الثالث «التيجان» على السبيل نفسه، كما في الأغنية السائرة التي أرسلها عمر الزعني: «يا توت الشام يا شامي/ الشفا على الله يا شامي»، أو هذا الذي كان يترنم به الشيخ الضرير في مدينة حمص سنة 1930م «قلوب العارفين لها عيون/ ترى ما لا يراه الناظرينا». وفي مدينة السويداء، حيث الغناء للجهّال، أي للذين لم يسلكوا سبيل الشيوخ، يترنم هزاع نصر: «سريت بليل وبوجهي بنات نعش/ واللهمّ بقلبي بنى تلّ/ هذول البيض والبنات الغوى/ ولّنْ وانطوني قفا».
من التراث الشعبي في جبل الدروز ما تلهج به الشخصية الروائية، وهو من شعر الأمير (الزعيم) شبلي الأطرش (1850– 1904م) الذي قال مناجيًا دياره وهو في السجن العثماني: «يا دارْ قلبي دايمْ الدوم بطاريك (بذكرك)/ وإن نمت أشوفك بالهواديسْ (بالمنام) يا دارْ». وقد كان لي مع هذا البيت ما لا يصدق، حين انتهت مشاركتي في ندوة في مدينة صفاقس التونسية، واصطحبني الصديق الروائي والناقد الراحل محمد الباردي إلى مدينته (قابس). ولما انفردت بي غرفتي في نُزُل شمس وجافاني النوم، قلّبت في نسخة كنت أحملها من رواية «بنات نعش». ولما وقعت عيني على هذا البيت أخذت أردده في ترانيم ظلت تتوالد حتى شروق الشمس، ولله في خلقه شؤون.
من الشخصيات الكبرى في «التيجان» وفي الجزء التالي «الشقائق» شخصية المغنية ترياق الصوان التي تغني في بيروت ثم في الشام، وتدفعها الاضطرابات في ثلاثينيات القرن الماضي إلى فلسطين لتغني في حيفا ويافا. أما أقصى ما بلغه حضور التراث الغنائي الشعبي في «التيجان» فلعله في هذا الذي يزيد الأغنية الشهيرة «ع الروزانا» معلومية ومجهولية في آن، بل التباسًا وغموضًا، وهي الأغنية الشائعة في بلاد الشام. لكن رواية «التيجان» وقعت على نص مختلف للأغنية، يدندن به من شخصياتها من الشباب المثقفين حسام النقشة ابن مدينة حماة ونهرها (العاصي) على مسمع صديقيه هشام الساجي ومؤيد عبد البر: «ع الروزانا الروزانا/ كل الهنا فيها/ شو عملت التنتنا حتى فرقتيها/ يا رايحين ع حماة صفّوا لي نيتكم/ تلتين عقلي شرد بهوى بنتكم/ حلفتلكم بالنبي منين ميتكم؟/ ميتنا عاصي حماة شرب الأفندية». في الجزء الرابع «الشقائق» عدت إلى جريدة سورية ساخرة وفريدة هي «المضحك المبكي» التي أسسها حبيب كحالة (1898– 1965م)، وعاشت ما بين (1929– 1969م) حين أوقفتها سلطة حزب البعث. وقد جعلتُ لهذا الكنز ظلًّا روائيًّا في الجريدة التي يعلقها عدي البسمة على الحبال في حي الشويكة الدمشقي. ومما نشرت الجريدة الأم وظلها الروائي هذا النص الذي ما زال يخاطب يومنا في سوريا وفي أخواتها: «سوريتنا فيها العجب/ ربطت دبًا وله ذنب/ فيها قوم أكلوا شربوا/ شفطوا لبطوا/ ناموا شخروا/ نهضوا قبضوا/ ثم انقبروا/ صمٌّ بكمٌّ/ أذن طرشت/ زفت زفت هذه الحالة». وكذلك هذا النص: «هالبترول هالبترول/ نهر ذهب بوسط الشول/ من نص أرضك طالعوه/ بالأساطيل جمعوه/ تقاسموه ووزعوه/ ومسكين السوري حرموه/ وعملوه لعبة فوتبول».
من التراث الغنائي ما جاء نظامًا للبناء الروائي في رواية «مدائن الأرجوان» وذلك في فصل «أشلاء حلبية»، حيث يفتح اسم كل قدٍّ من القدود والموشحات فقرةً في الفصل، والزمن هو مطلع الثمانينيات، والمكان هو حلب، والحدث هو الصراع الدموي الشهير بين السلطة والطليعة المسلحة للإخوان المسلمين. وتبدأ اللعبة بموشح بهاء الدين زهير: «يا من لعبت به الشمول/ ما ألطف هذه الشمائل»، ويليه موشحًا «املالي الأقداح صرفًا، واسقينها حتى الصباح» و«يا غصن نقا مكللًا بالذهب/ أفديك من الردى بأمي وأبي»، وهما من ألحان أبي خليل القباني (1833– 1903م). وفي «مدائن الأرجوان» أيضًا عيّنت الأغاني الجغرافية الروائية في مدينة اللاذقية، من شعر الشيخ عبدالرحمن المحمودي. وتقوم الحكاية هنا على (السيران/ النزهة) كل يوم جمعة، ومن ذلك: «براس النبع واصلني حبيبي/ وفي عين البحر أطفى لهيبي/ وفي القلعة أكلنا كل طيب/ وبالفاروس فيه غدا الشرابا»، وهكذا بعد حي القلعة وحي الفاروس وراس النبع ثم الطابيات، تلي أضرحة البطرني والخضر وأبي الدرداء.
من شخصيات «مدائن الأرجوان» الحكواتي (الخباص العجوز الأثرم) الذي يستذكر عرسه ومهاهاة أم حنا «قومي اركبي يا عروس والخيل تنقط عرق/ ونحنا حطينا بإيدي ميتين ليرة ورق…». كما يستذكر عشقه لصبية من مدينة الحفة (في سوار اللاذقية) ستغدو المطربة السورية كروان التي اشتهر من أغانيها في خمسينيات القرن الماضي أغنية «شدوا لي الهودج يلله/ مشتاق لحبيبي والله» وأغنية «ياه يما وانا ع العين/ شافني حسينو غمزني بعينه/ ياه ياه». وبالوصول إلى رواية «تحولات الإنسان الذهبي» التي صدرت مطلع هذا العام، جاء من الفُلكلور المجهول الأصل والمنسي، ما غنى المختار بصوته الشجي: «جنح البورصيص (طائر) جنح البورصيص/ ديري لي خدك تبوسه كيس». وفي ليلة أخرى يغني والد كارم أسعد: «زنوبا زنوبتنا/ ما منفوتا لو متنا» فدندن كارم: «حبق زنبق بيلالي/ عطلني عن أشغالي». ويهدر الراديو في مقام آخر مرجعًا أصداء ثورة التحرير الجزائرية التي غنت لها سعاد محمد: «أنا أسمي جميلة/ وأخوي كل ثائر/ وهبنا حياتنا لحياة الجزائر (…) حراير جميلة/ جميلة بوحيرد/ جميلة بوباشا/ جميلة بوعزة/ وكل بنات العروبة جميلة». وبالمقابل يسكت كارم الراديو بضيق حين ينقل أغنية لودي شامية «بدي يا أمي روب يلبق لي» لأن المطربة –كما تردد– كانت صديقة أحد ضباط حزب البعث في مستهل حكمه لسوريا سنة 1963م.
يحاول كارم أسعد الذي يعتقد أنه كان حمارًا وقد تقمص شخصية إنسان، أن يكتب سيناريو حول الحمار. ومن أجل ذلك، يختار أغاني تتعلق بالحمار منها ما غناه الممثل المصري سيد زيان: «يللي ظلم البشر منقوش على ظهرك كرابيج» وأغنية سيد درويش «حمار ويسوى ألف حصان يجري السبق»، وأغنية إسماعيل ياسين في فِلْم قديم «يا حمار.. انت طيارة شايلة طيار» وأغنية فؤاد المهندس في فِلْم قديم مغازلًا شويكار: «برسيمي انت وحدوتي/ وتين روحي ومهجتي» أما المخرج الذي سيخرج السيناريو فيغني من مكنونات (أبو الزلف): «لطلع ع راس الجبل/ واشرفْ على دوما/ ولْقى خيول العرب/ بالمرج ملموما/ رمّان يا مستوي/ ع صدير نمنوما/ جابوه من حمص/ تجّار حمويّا».
خاتمة
ربما يوفّر الغناء في الرواية لحظة استرواح، أو لعله يعبر عما لا تعبر عنه إلا به، وعلى نحوٍ يذكّر بالغناء في الحياة الشخصية أو الحياة العامة. وللأخيرة (العامة) حاولتُ أن أتقرى في كتابي «طغيانياذا: حفريات في التاريخ الثقافي للاستبداد» الأغنية الموالية للأنظمة والأغنية المعارضة لها خلال العشرية الأخيرة، في سوريا خاصة، وفي ليبيا واليمن وتونس أيضًا. وإذا كان لمثل هذا الحديث دومًا بقية، فلتكن الخاتمة تلويحة للصديقات والأصدقاء، ممن أثار غناؤهن وغناؤهم غبطتي وغيرتي: رشا عمران، عناية جابر، فوزية المرعي، أحمد عبدالمعطي حجازي.
المنشورات ذات الصلة
«غرافيتي» على جدران الفناء
لكل فعل رد فعل، ولكل نظرية إثبات، نظرية نفي، ولكل ثقافة هنالك ثقافة مضادة. هذا يعني أن لكل شيء هنالك «اللاشيء» الذي...
كيف شَكَّلَ الحرير والنسيج تاريخ البشرية؟
يقول بعضٌ: إن التاريخ بدأ بالكتابة، غير أننا نقول: إن التاريخ بدأ باللباس. في البداية، كانت هناك ملابس مصنوعة من...
الحياة الأدبية للأشياء
يجيز مثل هذا العنوان الانطلاق من السؤال التالي: كيف تكف الأشياءُ عن أن تكون مجرد موجودات؟ ونستقي الإجابة عنه من ميريام...
0 تعليق