كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
لا ننتج الزومبي لاختلافه مع المثل والقيم الإسلامية
كاظم مرشد السلوم
أفلام الزومبي لست نوعًا فِلميًّا خاصًّا كباقي الأنواع الفِلمية، بل تدخل ضمن أفلام الرعب أو التشويق، ولا يمكن أن تكون معبرةً عن جوهر مجتمع ما، بقدر ما تلبي رغبة وحاجة بعضٍ في سبر أغوار بعض الغيبيات وما ينتج منها من سحر قد يعيد بعض الموتى إلى الحياة بصورة بشعة وعدائية. وبالتأكيد لا يفضل جميع أفراد المجتمع هذه الأفلام، لكن لو أجرينا دراسة حول الشريحة الكبرى التي تشاهدها لوجدناها من فئة الشباب، وبخاصة المراهقون منهم، وهذا لا يقتصر على شباب مجتمع ما دون غيره، فهناك إقبال على مشاهدة هذه الأفلام حتى من قبل مجتمعاتنا العربية التي لا تمتلك باعًا طويلًا في صناعة الروبوتات والتقنية الحديثة، التي صنعت لتقدم خدمة وظيفية إدارية أو صناعية لا علاقة لها بشخصية الزومبي.
تعد السينما الأميركية أو سينما هوليوود الأكثر إنتاجًا وترويجًا لأفلام الزومبي. وهي تعمل ضمن قاعدة أن صناعة السينما تحكمها حسابات السوق وشباك التذاكر، وبالتالي لا بد لها أن تنتج ما يحقق لها الأرباح اللازمة لديمومتها. السر في الإقبال على أفلام الزومبي وغيرها هو رغبة الشباب في الهروب من الواقع الرتيب الذي يعيشون فيه إلى واقع افتراضي توفره لهم نافذة السينما المدهشة. ويختلف تأثير مشاهد الرعب والعنف من مشاهد إلى آخر، لكن هذا التأثير يكون على أشده عند الشباب المعرضين للوقوع تحت تأثير ما تطرحه هذه الأفلام من أفكار ومشاهد؛ وذلك بسبب نقص الوعي لديهم، فضلًا عن عدم تراكم الخبرة الثقافية اللازمة لتجنب هذا التأثر.
وتكمن خطورة تأثير هذه الأفلام في جانب مهم، وهو التأثر والتماهي مع شخصياتها، والرغبة في تقليدها سواء على مستوى الفعل أو السلوك، وهو الأمر الذي يشكل خطورة كبيرة عليهم. وقد كتبت ذات مرة عن التماهي عند بعض الشباب مع أفلام ومسلسلات البلطجة، كما لدى الفنان المصري محمد رمضان في مسلسله «الأسطورة»، حتى إن بعض الشباب -هنا في بغداد- أخذ يقلد تسريحة شعره ويتصرف بالبلطجة ذاتها التي ظهر عليها في دوره في هذا العمل. إذن الخطورة تكمن في التماهي، والمشكلة أننا ومع كل هذا الكم من إنتاج مثل هذه الأعمال نقف عاجزين عن مواجهتها؛ لكون الأمر يحتاج إلى كثير من الجهد ورأس المال والكتابة الرصينة والكوادر التقنية التي يمكنها أن تنتج أعمالًا قد تنجح في تحويل اهتمام الشباب إلى موضوعات أخرى مهمة وممتعة.
أرى أن إحجام السينما العربية عن إنتاج مثل هذه الأفلام سببه خضوع الوعي الجمعي العربي إلى التعاليم الدينية التي تقول بعدم عودة من يموت إلى الحياة؛ لذا فمن الصعوبة بمكان ضرب المثل والقيم التي يؤمن بها المجتمع بطروحات لا تتلاءم معها. كما أن الكلفة الإنتاجية والتقنية المطلوبة لإنتاج هذه الأفلام لا تتوافر لدى كثير من شركات الإنتاج السينمائي العربية، حيث تحتاج صناعتها إلى أموال طائلة يفضل بعضها، إن توافرت، أن تصرف على إنتاج أفلام روائية تلبي حاجة المشاهد العربي. وأعتقد أن الإقبال على مشاهدة هذه الأفلام في وطننا العربي قليلة ولا تضاهي الإقبال عليها في البلدان المنتجة لها.
ناقد سينمائي عراقي
محاكاة رمزية لواقع الإنسان المأزوم
آمال كمال
السينما أرشيف للأحوال الاجتماعية وعلاقة الفرد بواقعه، فمنذ ظهور الفن السابع في مطلع القرن العشرين، صامتًا ثم بصحبة الموسيقا، أبيض وأسود ثم ملونًا، ونحن لم نبرح العلاقة الدائمة بالصورة المتحركة. رافقت البدايات تلك النقلة النوعية من الصمت إلى دبلجة اللغة ليصل إلى أكبر قطاع من المتلقين بهدف اقتصادي بحت، في بادئ الأمر كان يتعلق بالتوزيع الخارجي، ثم في مرحلة تالية، مع اكتشاف أهمية الصورة في تشكيل المتخيل العاقل وأثره في الانفعال والسلوك، حملت الأفلام المنتجة بالآداب والفلسفات والقضايا الاجتماعية المختلفة، ثم توالت التطورات التقنية الفنية المذهلة في الصوت والصورة والخروج إلى الشارع بعيدًا من الأستوديوهات المغلقة.
من أفلام شارلي شابلن التي تعكس العلاقة بين الإنسان والآلة، حيث تحول إلى ترس في عجلة الصناعة الحديثة مستهلَكًا ومنزوعًا عنه صوته وحركته، بل إرادته أيضًا، إلى سينما الطبقات المخملية، تلتها سينما التمرد التي واكبت الثورات الاجتماعية، والحربين الكبيرتين في مطلع القرن العشرين ومنتصفه، ظلت الكاميرا تنقل ما تود نقله للمتلقي عابثة بعقله وسالبة قدرته الناقدة، أو على أقل تقدير، تدخل إلى عقل منزوع الأجنحة، فتوجهه إلى القِبلة التي تهوى والأفكار التي تطمح إلى تبنيها، كما ساعدت السينما الوثائقية على ذلك.
اللاوعي والخيال العلمي
مع تطور التقنيات في التعامل مع الصورة وفن الجرافيك، والذهاب إلى خارج حدود الغلاف الجوي والدوران حول كوكب الأرض والوصول إلى القمر، استجابت السينما لتلك النقلة النوعية. وحقيقة، إن من يرى هو من يملك الحقيقة، أو بالأحرى يملك ما يود أن يتلقاه الآخر، سواء كان حقيقة أم خيالًا. ومنذ ذلك الحين جن جنون السينما بموجة أفلام اصطُلِحَ على تسميتها بسينما الخيال العلمي. فالذهاب إلى الخيال يقربنا من عالم اللاوعي البشرى بكل ما يحمله من المرفوض الاجتماعي، أي «الجنس والعدوان»، وأفلام البورنو هي تعبير فصيح ومباشر عن هذا الجانب من المكبوت البشري، أما ما يسمى بأفلام الرعب، كأفلام مصاصي الدماء والمستذئبين والزومبي، تلك التي تحمل بكل وضوح ذلك الجانب الثاني، أي العدوان المكبوت بكل ما يحتويه من تخييلات التدمير والتمزيق والالتهام والابتلاع للجسد البشري، فهذه يقبل عليها المرتعدون أملًا في الحصول على طمأنينة مرضية بأن هناك رعبًا أكبر مما يعيشونه يقع خارجهم، وعدّها منفذًا لامتصاص القلق من داخلهم، لكنها دائرة ما إن تبدأ لديهم فإنها لا تنتهى أبدًا.
إله الموت الذي لا يشبع
موجة أفلام الزومبي على وجه الخصوص هي حلقة من سلسلة ممتدة لأفلام الرعب. ومن ثم فهي محاكاة سينمائية رمزية لواقع الإنسان الحديث بجسده المأزوم المتجدد موتًا وحياة، فما إن ينام حتى يستيقظ ليدور في آلته مسلوب العقل، وفي الطريق إليها يدوس بقدميه ما يسمى بقوانين الحضارة الإنسانية ممعنًا في مصالحه الفردية، آكلًا الآخر المنافس، ولا يشبعه موته بل يبحث عن آخرين، فالثاناتوس (إله الموت الإغريقي وشقيقاته) يسيطر على واقعه وخياله، وهو إذ يستهلك الآخر لا يبقى في زمنه زمن ليعيشه، فتلك الجثث المتجددة هي عنوان صريح لإنسان العصر الآني بكل دمويته وعنفه وجموده الآلي.
المدهش أن منتجي سينما الرعب يحملون تناقضهم بداخلهم، فهم منتجون لتلك الأفلام الدموية، وهم من يحذرون من تبعات مشاهدتها على الأطفال والشباب، حيث يتوقعون زيادة التماهي مع ما تخلقه من عنف وتدمير، وكم من أطفال مسّت خيالهم تلك الصور العنيفة فأقدموا على تقليدها ودفعوا حياتهم ثمنًا لها، وقد يزيد القلق والعدوان لدى مشاهدي تلك الأفلام المتطرفة في الخيال العنيف، وليس بغريب أن يحذوا بعضهم حذو هؤلاء المنتجين فيحذرون من الحروب والدمار، وهم في الآن نفسه يقبضون بأياديهم على مفاتيح آلة عملها!
باحثة نفسية
لا فلسفة في عالم الزومبي سوى التحذير والرعب
ناجي فوزي
الزومبي هم الموتى الأحياء؛ إذ يفترض فيهم أنهم أموات، لكنهم ليسوا أمواتًا، وكي يستمروا في حياتهم لا بد أن يتصلوا بالعالم الحقيقي كي يمتصوه. هم استنساخ حديث من فكرة مصاصي الدماء، أو تنويعة حديثة من فكرة دراكولا التي استنفدت طاقتها، كما يقولون، فاختُرِعَت فكرة الزومبي، ثم الرهان على هؤلاء الذين ينهضون من موتهم.
لا بد أن نسأل أنفسنا: من هم صناع السينما ومشاهدوها الأوائل؟ إنهم مجتمع هوليوود، أما نحن فلدينا سينما تابعة. المقصود أنه في الغرب، وبخاصة أميركا، يوجد مناخ سياسي عام يريد لمواطنيه دائمًا أن يشعروا بالرعب والخوف، وأن هناك من يترصدهم، سواء كانوا شعوبًا بربرية أو كائنات فضائية، أو حتى خرافات قديمة مثل مصاصي الدماء، أو خرافات حديثة مثل الموتى الأحياء أو الزومبي. فأميركا تحب لأناسها أن يعيشوا في حالة من الرعب، ومن مصلحتها بالطبع أن يشاركها الآخرون هذا الشعور وتلك الثقافة، سواء في الشرق الأقصى أو الأدنى أو غيره. ويمكن القول: إن هذه السينما تريدنا ألا نندهش من وجود مثل هذه الكائنات، أي أنهم يهيئوننا لقبول الأسطورة، التي تنتهي دائمًا بأن الغرب أو أميركا هي الوحيدة القادرة على التعامل مع هذه الكائنات وإنقاذنا منها.
هذا النوع من الأفلام ليس جديدًا على السينما عامة، لكنه يتطور من زمن إلى آخر، واليوم تزداد هذه الموجة من الأفلام نظرًا لأمور عدة، في مقدمتها تغير خريطة العالم السياسية.
تتفنن السينما الأميركية في إبهار المشاهد بالصور الدموية ومشاهد الخراب العظيم، وذلك تهيئة للنفوس لتقبل هذا الخراب حين يحدث على أرض الواقع، وتبريرًا أيضًا لحدوثه على يد السيد الأبيض سواء الأميركان أو الغرب عامة. وقد حدث هذا في العراق حين قررت أميركا أن تغزوها بحجة القضاء على الشرير صدام حسين، وحدث أيضًا في ليبيا حين قرر التخلص من القذافي، وعلى الرغم من سنوات الدمار التي كانت وما زالت، فإن هذه البلاد لم تتخلص من الشر ولم تعرف الفردوس الذي بشرت به أميركا.
إقحام الدين
الرعب أيضًا دائمًا ما يأتي مغلفًا بخلفية أو فتوى دينية، وفي هذه الحالة تتقبله فئات كثيرة. وبالمناسبة، لست مع أن نطلق على أفلام الزومبي كلمة أسطورة، سواء جديدة أو قديمة؛ لأن الأساطير تقوم على الماورائيات وليس المحسوس، والزومبي محسوس تمامًا، فهم أجساد متحركة، تجوب الشوارع في جماعات، وتنهش لحوم الناس. كانت هذه النوعية من الأفلام تأتي في أعداد أقل، وليس بكل هذه الكثرة في الأعداد والجماعات، وكنا نرى المستذئب الواحد أو الاثنين بالكاد، أو نرى مصاص الدماء الواحد أو الاثنين، وكنا نرى قصة إنسانية تغلف الفِلم. لكن في السنوات الأخيرة صرنا نرى جماعات كثيرة تحتل المدينة وتنهش الناس، من دون وجود لقصة ولا إنسانية، فقط مشاهد غاية في الدموية والخراب وإيلام المُشاهِد وإرهابه، وهو ما يجعل الرسائل واضحة وشديدة اللهجة، فأنت أيها المُشاهِد لست وحدك في هذا العالم، ونحن الذين يمكننا أن نحميك مما يهددك من أخطار هذا العالم.
وعلى الرغم من انتشار موجة الزومبي، وتحقيقها إيرادات هائلة إلا أن السينما المصرية والعربية عامة فشلت في الدخول إليها، نظرًا لأنها مكلفة كثيرًا، وتحتاج إلى تقنيات عالية، فضلًا عن أن المشاهد من الصعب أن يتقبلها باللغة العربية، فلا يمكنه أن يرى محمدًا وحسنًا وسعيدًا وقد تحولوا إلى زومبي على الشاشة، سيبدو الأمر مضحكًا وغير مقبول. لكن هذا لا يعني أننا لم نحاول، فهناك أفلام مثل: «الإنس والجن»، و«المرأة التي غلبت الشيطان» وغيرهما. وكانت تنتهي دائمًا على نمط الأفلام الغربية، فإذا كان الفِلم الأجنبي ينتهي بظهور القسيس أو الصليب، وكأن الدين هو الحامي من هذا الرعب، فإن الفِلم المصري ينتهي بتلاوة آية قرآنية، وكأن هذه الآية لم تكن موجودة، طوال العامين اللذين تدور فيهما أحداث الفِلم، وهو أمر مثير للسخرية من وجهة نظري.
في النهاية لا أعتقد أن أفلام الزومبي تقدم أي فلسفة مهمة للمُشاهِد، ولا يمكن النظر إلى أبعد من رسائلها المباشرة، فلا يمكن تأويلها على أنها نتاج تشيؤ الإنسان أو سيادة الآلة، فقد كانت هذه الأمور موجودة طيلة الوقت. ومن ثم فالفكرة الأساسية فيها تقوم على الرعب، وإرهاب المُشاهِد، وتحذيره الدائم.
كاتب مصري
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق