المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

«حكاية رادا» لعبدالعزيز المسلم

من التجنيس والعتبات النصية إلى جدل البطولة والعطالة

بواسطة | يوليو 1, 2022 | مقالات

عبدالعزيز المسلم

تنبني حكاية «رادا» على ثيمة تبدو للوهلة الأولى مألوفة، وهي وقوع الأنثى ضحية لوهم الحب، وكان يمكن أن تستمر كذلك ويجري التعامل معها تعاملًا واقعيًّا؛ لأن ما وقع لـ«رادا» فعلُ احتيالٍ وخداعٍ عاطفي تتعرّض له الإناث على مرّ الوقت، لكن الكاتب أراده حدثًا استثنائيًّا مفارقًا لهذا السياق حين رفض العربيُّ استعمالَ الجسد الأنثوي المنتمي إلى ثقافة أخرى، وشرّع حيازتَه له برابط شرعي، وعدّه فعلًا بطوليًّا من منظور ماضويّ يسترد نزوع الأجداد الأبطال للزواج من الجميلات القوقازيات؛ ليدخل بذلك في أجواء حكائيّة تُدْفَعُ فيها الشخصيات دفعًا إلى أقدارها، يسوقها وعيٌ مُخَدّر وعقولٌ ذاهلة عن احتمالات الحل، وإراداتٌ موجَّهة لتحقيق غاية شاءتها الإرادة العلوية، لا إرادةُ «سالم بوشامة» الذي بدا في نهاية الحكاية أشبهَ بالوسيلة التي قادت «رادا» إلى مصير حتمي حُقِّق من خلاله حلم «سالم بوشال» عبر جسد صاحبه «سالم بوشامة» ليهبه وليدًا يشبهه شكلًا، وبه تكتمل الحكاية.

يروي لنا الدكتور عبدالعزيز المسلّم في نصه المغلف بالأنوثة حكاية الإماراتي «سالم بوشامة» الذي هرب إلى مصر منذ أربعة عشر عامًا إثر إفلاسه وتراكم الديون عليه وفقده لصديقه «سالم بوشال» الذي استشهد بتفجير في «لاهور»، وبعد إخفاق «بوشامة» في الانتحار سافر إلى تركيا تنفيذًا لرغبة صديقه «بوشال» الذي أتاه في المنام طالبًا منه البحث عن حبيبتهما القوقازية، وهناك أسره جمال «رادا»، وعَبْرَ لقاءين قصيرين بثّها لواعج عشقه القديم لها قبل أن يراها، فاستبد بها حلمُه بالزواج بقوقازية، وأغوتها التجربة، فتزوجها شرعيًّا في مسجد في إسطنبول منتحلًا اسم صديقه الميت «سالم بوشال»، ثم افترقا لإتمام إجراءات الزواج، ونتيجة اختفاء «بوشامة» تصاعدت الأحداث وعلمت «رادا»، من خلال الاتصال بـ«راشد» صديق «سالم»، أن زوجها المزعوم استشهد قبل خمسة عشر عامًا فدفعتها الصدمة إلى السفر إلى الإمارات حيث التقت والدي «سالم بوشال» اللذين احتضناها حين علما بحملها. ومع استحالة الاتصال بين «بوشامة» و«رادا» بعد أن رمى جهازه المحمول في نهر النيل تنتهي الحكاية بوليد «رادا» الذي لا يشبه أباه وأمه، لكنه يشبه «سالم بوشال»، وقد حمل اسمه وصار حفيدًا لوالديه المكلومين.

الوقوف على العتبات

تتأرجح «حكاية رادا» بين القصة والرواية القصيرة لبروز نَفَس القصة فيها، ولاشتمالها على أبرز سمات الرواية القصيرة، وأولاها: الحجم المتوسط؛ إذ بلغ عدد صفحات الحكاية سبعين صفحة، قسمها الكاتب إلى عشرة مقاطع أو فصول قصيرة معنونة بالعناوين الآتية: (هيهات!، وهم؟، نبوءة، مجهول، رجوع، سالم؟، ليت، مجازفة، وجهًا….، نهاية؟). وثانيتها: الاستهلال ذو الطبيعة الخاصة؛ فقد استهل الكاتب حكايته بمونولوج توحّد فيه السارد مع الشخصية المركزية في الحكاية وهي شخصية «سالم بوشامة» من خلال ضمير الأنا المتكلّم ليبوح للقارئ بخلاصة تجربته الحياتية المريرة وصدمته بجريان الزمن وشكّه في إمكان استعادة خضرة شجرة الحياة عبر اقتناص الحب المشتهى.

ومع انتهاء الاستهلال المقتضب تحرّر السارد في الفصول التسعة اللاحقة من ثقل الأنا، وتحوّل ضمير السرد إلى الغائب الغريب الحيادي الذي يملك عبر (الهو) زمام السرد وأسرار الشخصيات، وتاريخها، وبواطن الذوات ونواياها، وخفايا الأحداث. وثالثة السمات: اعتماد الحكاية على شخصية مركزية هي شخصية «سالم بوشامة»، وأمامها انتصبت الشخصية الأنثوية التي نازعتها مكانتها واستأثرت بالعنوان، ونعني بها شخصية «رادا». والسمة الرابعة: الحدث المركزي الذي استقطب مكونات النص، وهو زواج «سالم بوشامة» من «رادا» ثم اختفاؤه. والسمة الخامسة: اللغة المكثفة والوصف والحوار الموجزان. والسمة السادسة: الفضاء الخاص الذي اكتسب أهميته من الحدث ومن تحولات الذوات، لا من الاتساع الجغرافي الظاهري لفضاء الحكاية. أما السمة السابعة: فتقديم الحكاية لوجهة نظر خاصة بالواقع، وهو ما سنتبيّنه من خلال حديثنا عن تجليات البطولة والعطالة في النص.

وقبل أن نتحدث عن هذه التجليات نقف على العتبات النصية للحكاية لما لها من أهمية بالغة في قراءة النص المركزي، وذلك بوصفها فضاءً بينيًّا تجسيريًّا يمكّن القارئ من العبور السري من الخارج إلى الداخل، ومن اللانص إلى النص، فضلًا عن أنها– وفق فيليب لوجون- مواقعُ تعاقدية، وخطابٌ يتحكم بالقراءة ويوجهها ويبرمج سلوك القارئ.

والعتبات في حكاية «رادا» نوعان؛ أولهما: محيطةٌ خارجية، وهي: اسم الكاتب، والتعيين الجنسي، والغلاف، إضافة إلى نصٍّ محيطي خارجي واحد، وهو العنوان. وثانيهما: عتباتٌ محيطةٌ داخليةٌ اقتصرت على عنوانات مقاطع الحكاية، أو ما يمكن أن نعدّه فصولًا قصيرة. واللافت أن الكاتب جرد نصه من العتبات المحيطة الداخلية الأخرى، المتمثلة بـ: الإهداء، والخطاب التقديمي، والعبارات التوجيهية، والحواشي، والتذييلات، مُحرّرًا قارئ نصه من السلطة التي يمكن أن يمارسها الكاتب على القارئ بغية توجيه قراءته والتأثير فيها.

يضطلع العنوان بوصفه نصًّا مصغّرًا وعلامةً نصيةً سيميائيةً ناطقة تكشف بعض ملامح المجهول المُنتَظَر بوظائف عدة تعيينيّةٍ وإشهاريةٍ وتمييزيةٍ وإيضاحيةٍ وإغرائية وإيحائيةٍ كما ذكر الدكتور عبدالمالك أشهبون في كتابه: «العنوان في الرواية العربية»؛ فالعنوان الذي اختاره «الدكتور المسلم» لحكايته يسهم في تشكيل أفق انتظار القارئ، ويدفعه إلى توقع الهيمنة الأنثوية على فضاء النص بوجه من الوجوه، وانتماءُ اسم العلم الأنثوي إلى ثقافة غير عربية يستدعي تلقائيًّا افتراض ثيمة الارتحال، ويستحضر دلالة الاسم المرتبطة بالأنوثة المقدسة في الديانة الهندوسية والرامزة إلى الفناء بانتظار المعشوق، وهي دلالة سرعان ما يوهيها الغلاف المُفارق، وقد اختار «المسلم» لحكايته صورة أنثى بيضاء البشرة ذات عينين زرقاوين ذاهلتين، وشعر أشقر امتداده غابات رمادية تتنازعها صفرة الخريف وبياض الثلج المديد المتداخل مع بياض الغلاف، وهو اختيار قصدي غير بريء، يعمّق هيمنة الأنثوي على النص، ويهدم رمزية الاسم المألوفة مُوحيًا بانحراف بعض دلالته الثقافية أو كلها مما يشكّل عنصر إغراء يدفع القارئ إلى استقصاء «رادا» الجديدة.

خطاب الحكاية

إلى جانب عتبتي العنوان والغلاف تبرز عتبة التعيين الجنسي عاملًا مربكًا يدعونا إلى التساؤل عن السبب الذي دفع «المسلم» إلى تعليق تجنيس نصه، وردّه إلى الشكل الحكائي الأقدم، وكأنه ترك مهمة التجنيس للقارئ أو الناقد، متعمّدًا خلق حالة من الإرباك؛ إذ إن عتبة التعيين الجنسي تضطلع بوظيفة تعيين جنس النص، وتبرم مع القارئ عقدًا قرائيًّا يوجّه مسار قراءته بما يتوافق مع جنس النص، وقد كان في وسع «المسلم» تجنيس نصه بوصفه قصة أو رواية قصيرة، ولا سيما أنه متأرجح بينهما، كما سبق أن أشرنا، ولكن اختياره القصدي للحكاية- التي يعرّفها الدكتور سعيد علوش في «معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة» بأنها «سرد كتابي أو شفوي يدور حول ثيم معيّن»، وأنها «تقليد قديم يتوخى البساطة والعبرة»، ويصفها الدكتور لطيف زيتوني بأنها المادةُ الأولية للرواية والقصة، والعالمُ الذي يقدّمه النص الروائي- يردّنا إلى دلالتها الأقدم بوصفها نمطًا سرديًّا يرتبط في ذهن المتلقي بعوالم تغلب عليها القدرية التي تقتضي التسليم لا طرح الأسئلة، وبخطاب أخلاقي يتغيّا ترسيخ العبر، لنقف هنا ونتساءل عن مدى ارتباط هذه الدلالة بمضمون النص المركزي ورسالته التي أشرنا إليها في مستهل دراستنا، وعن مدى تعمّد الكاتب تحقيقَ ذاك الارتباط لدى وصفه لنصه بأنه «حكاية».

وبالانتقال إلى العتبات المحيطة الداخلية المتمثلة بعناوين الفصول نجد أنها كانت في الإجمال أشبه بالبوصلة التي توجّه القارئ وتهديه نحو الاتجاه المرغوب فيه، وقد اتصف معظمها بأنه محض ملفوظات إخبارية تلخّص الحدث وتكثف المضمون في مفردة، نحو عناوين الفصول: (نبوءة، رجوع، سالم؟، ليت، مجازفة). في حين اتسم عنوان الفصل الأول «هيهات» بأنه مفارق لمضمون الفصل الذي تحدث فيه السارد عن أمله بقدرة الحب على إعادة الخضرة للشجرة الهرمة، فدلالة البعد لاسم الفعل «هيهات» تقطع ذاك الأمل وتغلّب احتمال نفيه.

واضطلع عنوان الفصل الثاني «وهم؟» وعنوان الفصل الرابع «مجهول» بوظيفة كشفية، تخلخل ثقة القارئ بما يرويه السارد، وتحرّض شكوكه، وتفتح أفق انتظاره على احتمالات سلبيّة تتجاوز مضمون الفصلين، ولا تركن لرومانسية لقاء «سالم» و«رادا»، وتوحي بأن القصة مقبلة على أزمة ما ستؤثر في مصاير الشخصيات وخياراتها. أما العنوان الذي اختاره للفصل التاسع وأتبعه بالنقاط، وهو «وجهًا…» فهو عنوان رامز ينفي احتمال التواصل بين «سالم بوشامة» و«رادا»، من خلال تغييب لغوي للمفردة الدالة على الآخر؛ أي (وجهًا لوجه). وأما الاستفهام الذي ألحقه بعنوان الفصل الأخير (نهاية؟) فيحوّلها إلى نهاية معلقة تنفتح على احتمالات أخرى، توحي بأن الحكاية لم تنته بعد.

جدل البطولة والعطالة

تنهض الحكاية على نموذجين بطوليين متقابلين، يمثل كلٌّ منهما منظومة قيمية وشريحة مجتمعية تعبر عن موقف من الذات والآخر والوطن والوجود والقضايا الكبرى، وتَقَابلُ النموذجين وجدلُ الفاعلية والعطالة بينهما وتنازعُهما فضاءَ النصِّ وأنثَاه ولّدَ صراعًا على موضوع الحيازة المُتَنَازَع عليه وهو الأنثى الحلمُ المنتميةُ إلى ثقافة أخرى؛ الأنثى التي يمثّل الفوزُ بها استكمالًا لسمات البطل.

وأول النموذجين هو البطل التقليدي الذي احتفت به الرواية التقليدية وانصرفت إلى تشكيل بنيته الشكلية والنفسية والأخلاقية والقيمية الرفيعة. وثانيهما البطل المضاد الذي عرفته الرواية الجديدة، وسمّي بالبطل المضاد لأنه مضاد لأبطال الملاحم والمسرحيات الكلاسيكية، وفق ما ذكر الدكتور لطيف زيتوني في «معجم مصطلحات نقد الرواية»، مشيرًا إلى أن البطولة ليست مرادفة للشخصية الرئيسة، ومبيّنًا أن الفرق بينهما يتجلّى في أن الشخصية الرئيسة تكتسب صفتها من دورها داخل الرواية، أما البطل فيكتسب صفته من دوره وخصاله معًا، ويُوصف بأنه بناءٌ عقلي يؤلّفه القارئ من مجموعة دوال في النص تتألف من ثلاثة معطيات، هي: المعلومات الصريحة عنه، والاستنتاجات، والأحكام القيمية.

تمثل شخصيّ «سالم بو شامة» الشخصية الرئيسة في الحكاية، فهي التي تدفع الأحداث نحو الأزمة بإلحاحها العاطفي وعطالتها وعجزها، وعلى الرغم من أنها تشغل حيّزًا كبيرًا من النص فقد سقطت عنها صفة البطولة وفق التصور التقليدي لها في النص الروائي؛ ونستطيع القول، وفق الصفات النفسية والأخلاقية التي اتسمت بها شخصيّة «سالم بوشامة»، إنها أقرب إلى نموذج البطل المضاد الذي يضطلع بالدور الرئيس، ولكنه لا يتمتع بالصفات الجسدية أو المعنوية المتفوقة التي تخلعها الرواية عادة على بطلها.

وقد اتسم البطل المضاد في أدب القرن العشرين بأنه ضحية مجتمع آليته غريبة، وأنه لا يعرف إلا البؤس والوحدة، ولا يهبه حظه العاثر غير السأم، ويغلب أن يجري تمثيله في صورة الفرد السجين خلف استيهامات قراءاته، أو الحالم بمكانة عائلية مفقودة، أو العصامي العاجز، أو البرجوازي الضيق الأفق. والسمةُ المشتركة بين هذه التمثيلات غلبةُ الميل الرومانسي عليها، وانتهاؤها إلى الفشل نتيجة عجزها عن تحقيق وجودها.

وبالعودة إلى «سالم بوشامة» نجده مثقفًا حالمًا ذا نزوع رومانسي طاغ، غارقًا في سوداويته وانهزامه الداخلي وعبثيّته، ميالًا إلى الأدب والفن، درس التاريخ، وحلم بالتخصص بعلم الآثار، لكنه كان ضحية التحولات الاقتصادية الكبرى التي شهدها المجتمع الإماراتي، ودفعت كثيرًا من شبابه للاشتغال في التجارة، وطحنت عجلتُها المادية الذوات الحالمة التي عجزت عن الصمود في مواجهة تحديات المادة.

وهكذا كان «سالم بوشامة» تائهًا بين نزوعه الرومانسي الهش وواقعه المادي الصارم، وقد غلبت عليه سمة العجز؛ العجز عن اختيار عمل مناسب، والعجز عن مواجهة الأزمات التي أصابته لدى اشتغاله بالتجارة، والعجز عن التواصل مع أهله وصحبه بعد هربه إلى القاهرة، والعجز عن إعلان شخصيته الحقيقية لـ«رادا»، والعجز عن تحقيق أحلامه الرومانسية حتى على صعيد الحب، والعجز حتى عن الانتحار؛ فحين غرز السكين في خاصرته في لحظة انهيار لم يستطع أن يحدّد إن كان فعله نتيجة انشغاله، أم إنه كان محاولة انتحار.

كان شعور «سالم بوشامة» بالانهزام نتيجة عجزه عن تحقيق وجوده على جميع الصُّعُد؛ العلمية والعملية والإبداعية والعاطفية والاجتماعية والمادية سببًا في عطالته التامة على مستويي الإرادة والفعل، ولذا تكفل الآخرون باتخاذ قرارات حياته ودفعه إلى الفعل؛ فصديقه «راشد» هو من دفعه للعمل بالتجارة، وصديقه «سالم بوشال» هو من حفزه على السفر والبحث عن المعشوقة القوقازية، وما عدا ذلك فإن الفعل الوحيد الذي كان قادرًا عليه هو الهروب الدائم حتى تحوّل إلى كائن يومي بائس منزوٍ، يعيش غريبًا وقد صار منسيًّا ميتًا، غَفل عن تذكّره وذكره حتى أعز أصحابه.

وكان انهزامُه يتفاقم بسبب إصراره على وضع نفسه في موضع المقارنة الدائمة مع صديقه «سالم بوشال»، وهو ما كان يُشعره بالضآلة والصَّغَار، ويدفعه إلى التواري خلفه وانتحال اسمه وتاريخه حين التقى «رادا»؛ فسلسلةُ انهزاماته وعطالته التي استمرت أربعة عشر عامًا جعلته صغيرًا في عين ذاته غير حقيق بالحلم العاطفي وبحيازة الجسد الأنثوي التي تُعدّ خصيصةً تقترن بالبطولة، ولذا عجز عن نُطق اسمه أمام «رادا»، ونَطَقَ اسم صديقه «سالم بوشال» ليقينه الضمنيّ بأنه البطل الأحق بأنثى الحلم.

وقد وصف السارد عطالة «بوشامة» قائلًا: «حين رآها كان ينوي أن يقدم لها نفسه على أنه سالم بوشامة، ولكنه ودون قصد منه عرّف بنفسه على أنه سالم بوشال، ذلك البطل الذي اختفى جسديًّا، لكنه لم يختفِ معنويًّا من حياته بالنسبة له. ساعده التواري وراء شخصية سالم الآخر على أن يكون أكثر جرأة في كل شيء».

وبعد وعود الزواج والوفاء هرب مضيفًا انهزامًا جديدًا إلى انهزاماته، وسقطةً أخلاقية توافق عطالته، ولا تليق ببطولة صديقه «سالم بوشال»، وكأنه تغيّا بلا وعي منه الانتقامَ من بطولة صديقه، وهدمَها لأنها كانت تفاقم انهزام أناه في مراياه الذاتية ومكاشفاته، وذلك من خلال إلصاق هروبه غير الأخلاقي باسم صديقه في ذهن الأنثى التي كان يحلم بها.

جوهر البطولة

أما «سالم بوشال» فقد حاز صفة البطل في الحكاية، وكان هو الغائب الحاضر المهيمن على النص برمّته، وقد تجلت هيمنته، أولًا، في انتحال صديقه «سالم بوشامة» لاسمه وتاريخه، وتمثّله لصفاته لإقناع «رادا» بالزواج منه. وتجلّت، ثانيًا، في رسوخه في وجدان صديقيه «راشد» و«سالم بوشامة» على الرغم من مضي خمسة عشر عامًا على وفاته، ويقابل هذا الرسوخ غياب «سالم بوشامة» عن ذهن صديقه «راشد» الذي لم يخطر له أن يذكره أمام «رادا» بصفته الصديق الثالث العارف بحلم الزواج بقوقازية. وتجلّت، ثالثًا، باضطلاعه بدور الفاعل والمحرك الحقيقي للأحداث، فهو الذي دفع صديقه «بوشامة» عبر المنام للبحث عن الحبيبة القوقازية، ويكفي أن نذكر خطابه لصديقه لندرك موقع كلتا الشخصيتين في النص، وعطالة «بوشامة» مقابل فاعلية «بوشال».

يقول: «كان في الحلم يعاتبه ويذكّره بحلمهما المشترك، تلك الفتاة القوقازية التي كانا يتنافسان عليها رغم عدم وجودها إلا في خياليهما. قال له بالحرف الواحد: لو كنت ما زلت على قيد الحياة لبحثت عن حبيبتي القوقازية حتى وجدتها وفزت بحبها. فلماذا لا تغتنم فرصة موتي لتبحث عنها أنت وتحقق حلمينا معًا؟ ولكن عدني إذا ظفرت بها، وجاءك طفل منها أن تسميه على اسمي، وأن تعرّفه إلى أهلي فهو كان يمكن أن يكون حفيدهم لو أنني لم أنسحب من ساحة الحياة، وتركتك تفوز بمعركة الحب بالتزكية. هيا، قم وابحث عن حلمنا وحققه».

وتبدو هيمنة «سالم بوشال» من خلال استبداده بالخاتمة التي جاءت غرائبية متوافقة مع جنس الحكاية، وفيها حاز «بوشال» وليدًا، لا يحمل اسمه فقط، بل يشبهه في الشكل أيضًا، في حين لم يكن لـ«سالم بوشامة» أي نصيب فيه، ليكون الوليد تحقّقًا بطوليًّا ينضاف إلى تحقّقات ذات «سالم بوشال» مع أنه ميت، وانهزامًا جديدًا ينضاف إلى انهزامات «سالم بوشامة» مع أنه حي.

أما شخصية «رادا» فتشارك شخصية «سالم بوشامة» صفةَ الشخصية الرئيسة في النص بسبب حضورها الواسع، ودورها في تحريك الأحداث ودفعها باتجاه الحل، وقد تفوقت على شخصية «سالم بوشامة» بكونها ناميةً متغيّرةً في حين بقيت شخصية «بوشامة» أسيرةَ عطالتها تدور في فلك صفاتها الراسخة. و«رادا» أيضًا تشارك «سالم بوشال» صفة البطولة؛ ففاعليتها كانت مقابلًا لعطالة «بوشامة»، وقدرتها على المواجهة مقابلًا لهروبه، وصدقها مقابلًا لكذبه، ووفاؤها لعهد الزواج مقابلًا لتراخيه وخديعته، ومشاعرها الراسخة مقابلًا لاستيهاماته، فضلًا عن نبلها الأخلاقي وسعيها لإسعاد والدي «بوشال» بأن يكون طفلها حفيدًا لهما، على الرغم من علمها بأن زوجها لم يكن ابنهما الميت.

وأبرز ما اتسمت به «رادا» هو تحوّلها من «موضوع» متنَازَعٍ عليه بين «السالمين» إلى «ذات» فاعلة تحسم بموقفها القطعي الصراعَ بينهما لصالح البطل التقليدي- «سالم بوشال»، وما يمثّله من منظومة قيمية سامية، تبدأ بعشق أنثاه وتكتمل بعشق الوطن. وهذا التحول المحوري إضافةً إلى مجمل القيم التي اتصفت بها مكّناها من أن تنحّي جانبًا شخصية «سالم بوشامة» لتتربع وحدها على عرش الحكاية بدءًا بالعنوان، وانتهاء بالخاتمة.

وختامًا نستطيع القول: إن الدكتور عبدالعزيز المسلم تمكّن من خلال حبكة سردية بسيطة تتكئ على حدث مركزي واحد من مقاربة العام عبر الخاص، وتعرية قسوة التحولات الاقتصادية التي تطحن الفرد الذي لا يستكين لنظامها ويعجز عن مجابهته، وتحوّله إلى كائن عاطل مأزوم. وبَثّ «المسلم» عبر تحولات الذوات وتصاعد الأزمة وانفراجها الغرائبي خطابًا أخلاقيًّا ينتصر لمنظومة القيم المثالية المتعالقة مع مبدأ التثويب الإلهي، وهذا الخطاب يمنع القارئ من التعاطف مع الفرد المأزوم «سالم بوشامة» المدرك لانهزامه الداخلي، ويدعوه إلى تقصي البطل الحقيقي «بوشال» الذي تتضافر الذوات والأحداث المحكومة بفاعلية قدرية لافتة لتبجيله وترسيخه نموذجًا أخلاقيًّا خالدًا يصلح وحده لبناء المجتمع ومواجهة التحديات الكبرى، وعليه، فهو، وحده أيضًا، الحقيقُ بالأنثى والامتداد عبر الولد.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *